حديث الأسبوع

تآكل غير مسبوق فى معاقل النفوذ

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

لم يعد خافيا اليوم، أن فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة فى العديد من الأقطار الأفريقية، والحليف الرئيسى الاستراتيجى للعديد من الأنظمة السياسية فى القارة السمراء، تواجه معطيات جيواستراتيجية وسياسية جديدة لم تكن تتوقعها تدفع بنفوذها نحو التراجع و التآكل.


فقد تواترت أحداث ووقائع كثيرة ضيقت على فرنسا فى زاوية مغلقة. فبعدما كان جزء كبير من جغرافيا القارة الأفريقية يعتبر حديقة خلفية رئيسية لفرنسا، وانفردت باريس بتوقيع رزمة كبيرة من الاتفاقيات مع عدة من أقطار أفريقية، لم يكن خافيا أنها كانت لها علاقة مباشرة بإعلان استقلال هذه الدول عن فرنسا، بأن  تضمنت شروطا ومواصفات الاستقلال الوطنى فى هذه الدول، حيث لم يكن يتجاوز سقف الاستقلال الترابي، الذى يضمن ويحمى النفوذ السياسى والاستراتيجى والاقتصادى الفرنسى فى أدغال أفريقيا، وفى بعض الحالات لم يصل حتى إلى هذا الحد، بسبب حفاظ باريس على قواعد عسكرية وحضور عسكرى قوى فى العديد من هذه الدول. بعد هذه الفترة الاستعمارية الزاهية انتبهت قوى إقليمية ودولية إلى أهمية خوض غمار المنافسة على مناطق النفوذ، فى القارة السمراء، التى أضحت تحفل بمؤشرات اقتصادية وجيواستراتيجية هامة ومؤثرة، حيث بدا واضحا تحسن كثير من المؤشرات الاقتصادية فى بعض الأقطار الأفريقية، التى أضحت تحقق معدلات نمو كبيرة، وأنها تمثل بالنسبة للقوى الاقتصادية الكبرى فى العالم مركز جذب واستقطاب مهما، بالنظر إلى متطلبات التنمية فيها، إضافة إلى كونها سوقا استهلاكية كبيرة جدا. و هكذا دخلت على خط النفوذ فى القارة قوى اقتصادية وسياسية جديدة، على غرار الصين واليابان وروسيا وتركيا، ومع مرور الوقت تمكنت القوى الوافدة على القارة السمراء من كسب مساحات فى الصراع من أجل النفوذ على حساب فرنسا.


لم يكن هذا المعطى الوحيد فى تفسير تآكل النفوذ الفرنسى فى القارة الأفريقية، بل أكدت التطورات الكبيرة، التى عرفتها المنطقة التقليدية للنفوذ الفرنسى فى العمق الأفريقي، أن الأمر يتعلق بانتكاسة حقيقية لأحد أهم القوى الاستعمارية التقليدية فى هذه القارة، بأن توالت فى فترة وجيزة الانقلابات العسكرية على بعض الأنظمة السياسية الموالية لفرنسا، كما كان عليه الشأن فى بوركينا فاسو قبل أكثر من سنة من اليوم، حيث أطيح بالنظام هناك ،وباشر قادة الانقلاب باتخاذ قرارات مثلت ضربات موجعة للنفوذ الفرنسي، حيث قرروا بعد أيام قليلة إلغاء الاتفاق العسكرى لسنة 2018، الذى كان يضمن الحضور العسكرى الفرنسى فوق تراب بوركينا فاسو، كما أعلنوا إلغاء اتفاقية 1961، التى كانت تنظم علاقة التبعية لهذا القطر بباريس. وبعدها مباشرة توالت الانقلابات العسكرية فى مالى ثم فى النيجر، والتى مثلت فى نظر المحللين والمراقبين انقلابا فى علاقات هذه الأقطار مع فرنسا. حيث ما أن وصل قادة هذه الانقلابات إلى مراكز القرار حتى بادروا باتخاذ قرارات تقضى بمغادرة القوات الفرنسية لترابها، وفى بعض الحالات دعوة السفير الفرنسى إلى مغادرة التراب الوطني، وحينما قدرت باريس بصفة أحادية وشخصية، أن هذه القرارات تفتقد إلى الشرعية، تعرض ديبلوماسيوها إلى الحصار والتطويق، فى صورة ومشهد كان يستحيل تصوره قبل فترة وجيزة من اليوم، فى علاقات بين قوة استعمارية نجحت فى الحفاظ على مدها و قوة حضورها فى مستعمراتها السابقة، وبين أنظمة سياسية كان واضحا أنها تمثل امتدادا لعلاقات الماضى الاستعماري.


مظاهر التمرد على فرنسا انتقلت إلى مستوى لافت، حيث وقع قادة الانقلابات فى دول غرب أفريقيا، من مالى وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر على اتفاق عسكرى للدفاع المشترك فى حال تعرض إحداها إلى هجوم خارجي. ويمثل توقيع هذا الاتفاق فى الظروف الراهنة جوابا صريحا على باريس، التى لا تزال إلى اليوم تجتهد فى توفير الظروف والشروط المناسبة والملائمة لشن هجوم عسكرى على النيجر لفرض إعادة الرئيس السابق المطاح به، حليفها الاستراتيجي. ويمثل هذا الحدث خطوة أخرى إلى الأمام فى مسار التمرد العسكرى لدول غرب أفريقيا على حليفها الاستراتيجي، فرنسا.


طبعا، لا يحتاج المراقب والمتتبع لتطورات الأوضاع فى القارة الأفريقية إلى جهد لتفسير هذا التآكل المستمر للنفوذ الفرنسى فى إحدى أهم قلاعه التقليدية، ذلك أن القوى الاستعمارية التقليدية لم تعد اللاعب الوحيد فى الصراع حول مناطق النفوذ فى العالم، وأن هناك لاعبين جددا باستراتيجيات جديدة، ومن الطبيعى أن تختل موازين هذا الصراع. ليس هذا فحسب، بل هناك أسباب أخرى تفسر ما يحدث و يجري، ذلك أن شعوب القارة الأفريقية لم تجن من علاقات بلدانها مع فرنسا غير التخلف والتدهور، بسبب افتقاد هذه العلاقات إلى التوازن والعدالة، ولا تتردد أوساط سياسية وحقوقية كثيرة بالقارة السمراء فى اتهام فرنسا بممارسة الاستعمار بمفهوم جديد و متجدد، وأنها فى ضوء ذلك تستنزف خيرات ومصادر ثراء العديد من هذه الشعوب، وكان لا بد من حلول موعد يقطع مع هذا الواقع الظالم، والذى قد تكون هذه الشعوب وجدته فى انقلابات عسكرية.


وبغض النظر عن مختلف صيغ التفسير والتبرير، التى قد تتفاوت من مستوى إلى آخر، ولكن الثابت فى كل هذا الذى يحصل، أن النفوذ الفرنسى فى معاقله التقليدية يتعرض إلى تآكل كبير يؤشر على توارى الحضور الفرنسى فى الأوضاع الدولية .
< نقيب الصحفيين المغاربة