تساؤلات

«أوبن بوفيه»

أحمد عباس
أحمد عباس

فى العادة أخطف جولة سريعة ألقى خلالها نظرة على محتويات البوفيه من المحمر والمشمر والمكمر، أتسلل بين الواقفين على طراطيف أصابعى لئلا أزعج أحدا فى طابور المشويات أو أقلق منام إحدى الأمهات فى صف الآيس كريم، أختار بعينى قبل يدى وأعاين الموقع جيدا، أحدد اللحوم والخضار والكربوهيدرات ثم أجد السلاطات والحلويات والفواكه ثم وليُطلب المشروب على الطاولة اذا شاء الزبون وهو غالبًا يشاء.


بعض الطوابير تنصاع لها بلا سبب ولا فهم تتحول أمامها لأخرق يدور فى فلك الأغبياء دون أن تشعر، تنجرف خلف الطوابير بلا سبب كعادة الحمقى، تحجز مكانك أولا فى أى طابور تجده ولا يهم على ماذا ستحصل فى النهاية المهم أن تحفظ مكانك والا تصير ملطشة الواقفين.


يلتقطنى نادل شاب مبتسمًا بأدب جم كأنه يرى رأسي، يستحق هؤلاء القوم الكتابة عنهم دائمًا فكل واحد منهم يملك حكاية مغايرة، مسئولو تنظيف الغرف غالبًا مغتربون من محافظات الصعيد القريبة والبعيدة، يحكى أحدهم بينما تبدو نصاعة أسنانه من الضحك أن احدى النزيلات ذات نهار طلبت منه بعد الانتهاء من تغيير ملاءات الغرفة وتنظيف الأرضيات أن يغسل مواعين كانت لحلة محشى بيتى قادمة من القاهرة، لكنه أبى وكانت واقعة سوداء مع المدير الذى اضطر فى النهاية لغسلها بنفسه لإنهاء الموقف.. وهذه الحكاية تسببت فى نقلة من خدمة الغرف الى المطعم يحكيها بود ويمضي.


نادل عجوز فى الركن يضحك ويستسمحنى فيما سمعته من الشاب ويقول: على اية حال تعرف الشعوب الجائعة من نهمها حتى اذا أكلت، فالخوف من الجوع يخلق حالة تهافت لا تنتهى لا لجوع حاصل لكن تحسبًا له، تسول للعقول الجائعة دائما انها ستجتر ما حشت به أمعاءها وأنها تستهلكه اذا ما اقتضت الحاجة.. والحاجة تقتضى دائمًا فى هذه المجتمعات، ليس المخيف لديهم - مجتمعات الندرة- هو الجوع نفسه لكن الهلع من الشعور بالجوع هو المقلق، تستهلك أكثر فتبدو كأنك استهلاكى نهم لكن الواقع ان الخوف من انقضاء البوفيه وموعد الوجبة القادمة مخيف جدا، حينها تتحول لشخص أكول لا لأنك تحتمل كل هذا الأكل لكن تحسبًا لجوع قريب، وكلما زاد الخوف ارتفع الاستهلاك بزعم الاحتياط.


فى وجبات البوفية المفتوح تتجلى أطباق أبناء هذا المجتمع بوضوح، تفترش خارطات المكرونة بالبشاميل والبطاطس بالزبد والأرز الطبق ثم ترتص عليها طبقات البروتين شرائح الدجاج المقلى والمبطن بالبيض والبقسماط أولا على طبق قطره يزيد على شبر أو نحو ٢٥ سم، ثم شرائح لحم مطهو بالصوص البني، ثم يعلوها أصابع سجق وحلقات الجمبرى المشوى المقدد هى مسك الختام، أينتهى الطبق عند هاهنا؟! أبدا.


ما يزال يمكنك وضع بعض حلقات الخيار الطازج والطماطم النضرة ومكعبات المخلل أمام سلطات الزبادى والطحينة ثم سوائل لا نهائية من هُلام الصوص والتتبيل.. الآن تخيل أنك تمد يدك فى طبق كهذا هل تأكله!
أبناء الشعوب الأقل خوفا من الندرة أو الشُح لهم أطباق شكلها مختلف تمامًا، لا ارتفاعات ولا طوابق مرصوصة ولا أطباق كثيرة على الطاولة فقط ما يحتاجون أن يأكلوه الآن.. والآن ليس الا، لا ينشغلون أبدا باللحظة القادمة او متى سيشعرون بالجوع، لا يقلقهم الأمر أبدًا، فى اللحظة التى سيجوع فيها سيأكل بهذه البساطة، فلا طمع أو سلوك استهلاكيا، ظنى أن سلوكيات المستهلك النهمة لا تأتى من مجتمعات الوفرة بل من مجتمعات الندرة والخوف لا الجوع فقط.