شوقى بدر يوسف يكتب : نساء نجيب محفوظ فى كتاب المرايا

شوقى بدر يوسف يكتب : نساء نجيب محفوظ فى كتاب المرايا
شوقى بدر يوسف يكتب : نساء نجيب محفوظ فى كتاب المرايا

فى عالم نجيب محفوظ الإبداعى ثمة جمل اعتراضية إبداعية تمثل نقلات نوعية، وأشكال فنية ملتبسة التعبير شكلًا ومضمونًا، لها طابع المراوحة الإبداعية بعيدًا عن الأجناس الأدبية التى عوَّدنا عليها كاتبنا الكبير فى مسيرته الأدبية الطويلة، وتتمثل هذه النقلات النوعية التى تعترض المسيرة المحفوظية فى عدة أعمال إبداعية لها خصوصيتها فى الكتابة والتناول والذائقة، ومن ثم هى تفصح عن البعد التأويلى الذى كان يرمى إليه كاتبنا الكبير فى استدعائه واستحضاره لرؤى جديدة تنقل القارئ إلى آفاق محددة لا شك أن لها تأويلها الخاص لديه.

وأن دلالاتها تعود إلى فلسفته وفكره الذى تمليها عليه رؤيته المرتبطة بالواقع والحياة، ربما يكون عنصر الزمن هو الحافز نحو كتابة مثل هذه الأعمال، ربما هناك ثمة دافع ذاتى وشخصى يدفعه إلى هذا التعبير الخاص، ربما يكون هاجس كتابتها يقع على عاتق ما يتضمَّنه الواقع من أحوال وأمور سياسية أو اجتماعية تحتِّم هذه الكتابة.

وتبدو هذه الجمل الاعتراضية الإبداعية فى بعض الأحيان عصية على التصنيف كجنس أدبى له مقوِّماته الفنية المعروفة فى البنية السردية، وإن كانت هناك ثمة محاولات لإعطاء بعضها صفات محددة فى هذه المسيرة الخصبة من الإبداعات، وتتمثل هذه الأعمال فى نصوص (المرايا) 1972، (حكايات حارتنا) 1975، (أمام العرش)، 1983، (أصداء السيرة الذاتية)، ثم آخر أعماله الإبداعية (أحلام فترة النقاهة)، وإن كانت أحلامه الأخيرة تعتبر بمثابة حالة إبداعية خاصة أنهى بها نجيب محفوظ مسيرته الأدبية نظرًا إلى ظروف كتابتها وبنيتها الفنية القصيرة المقطَّرة، والمكثفة، المعبرة عن التماهى فى لا وعى المراحل الأخيرة من العمر، كل هذه الإبداعات تعتبر خارج السرب بالنسبة لما كان يطمح إليه نجيب محفوظ بعيدًا عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى التى شكَّلت عالمه الإبداعي.

هى أعمال فرضتها عليه ظروف خاصة وطبيعة ذاتية محددة فى التعبير، ربما تذكِّرنا هذه الأعمال ببدايات نجيب محفوظ عندما ترجم كتاب جيمس بيكى «مصر القديمة» كتجربة أولية مع القلم، وهو ما أوحى له بعد ذلك بثلاثيته الفرعونية، أما بقية إبداعاته الأخرى فهى تندرج تحت محاور الأجناس الأدبية السردية المعروفة فى مجالات الرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما والمقالة وغير ذلك مما يشكله عالم نجيب محفوظ من أعمال إبداعية، حيث يستعصى على الدارس لأدب كاتبنا الكبير أن يصنِّف الأعمال سالفة الذكر تحت أى مصنف أو جنس أدبى إلا بعد جهد جهيد من التبصر والتحليل والتأنى فى القراءة والتلقى والتأويل.


ولا شك أن كتاب (المرايا) كتصنيف أدبى له خصوصيته التعبيرية، ومن ثم فهو يمثل نوعًا خاصًّا من التجريب السردى فى عالم نجيب محفوظ الإبداعى لما يحمله من سمات فنية خاصة منفتحة ومتأرجحة ما بين القصة القصيرة والنص الروائى والسيرة الذاتية، بل وتناوله شرائح محددة من السيرة الغيرية لشخوص تتكوَّن منهم نصوص الكتاب المكوَّنة من خمسة وخمسين نصًّا استكشافيًّا لـ(استكشات) هى عبارة عن شخصيات محدَّدة كلٌّ منها كان له دور فى حياة نجيب محفوظ بحسب العلاقة، والتداخل: وقد نفى نجيب محفوظ عن المرايا أن تكون رواية أو ما يقاربهاـ ذلك أنها عمل يتألَّف من خمسة وخمسين لوحة Sketche تنتمى بصورة عامة إلى موضوع واحد أو تشترك فى حبكة وعقدة واحدة، وشخصيات هذا العمل مصريون من الرجال والنساء، وقد استمدَّها الكاتب من فئات مهنية، وتنوُّع متباين من الشخصيات، كذلك ليس من الممكن أن ندعو تلك الصور أو اللوحات الشخصية قصصًا قصيرة يكاد يقل فيها أو ينعدم(1). ومن ثم فإن التجريب فى هذا الكتاب طال الموضوع وإن كان الشكل الفنى يمس وقائع محددة يعرفها الكاتب ويراهن على كل ما جاء بها من وقائع وممارسات.


نشر كتاب (المرايا) مسلسلًا فى مجلة الإذاعة والتلفزيون القاهرية خلال الفترة من 1/5/1971 حتى 16/10/1971، ثم صدرت طبعتة الأولى مجمَّعة عن مكتبة مصر بالفجالة عام 1972، يقول عنها الناقد الأمريكى روجر آلن: «إن (المرايا) هى محاولة من نجيب محفوظ للتعبير عن رؤيته لتاريخ مصر خلال الحقبة التى عاشها عبر وسط قصصي، وإن جاء تعبيره فى غلالة رقيقة»(2)، والواضح أن هذا العمل الأدبى قد صدر فى مرحلة ما بين النكسة ونصر أكتوبر 73، لذا كان كتابته وصدوره عام 1972 له دلالة خاصة على أنه جاء ليستحضر نجيب محفوظ من خلاله بعض الشخصيات التى تقاطعت وتداخلت حياتها مع حياته فى أزمنة، وأمكنة، وأحداث مختلفة ومتنوعة، فى نفس الوقت أراد أن يستحضر فيه وقائع مصرية محددة، ويعرض من خلالها لبعض الطبائع والجبلات الإنسانية فى صورتها التى كانت عليها زمن أن تداخلت وتقاطعت هذه الشخوص مع حياته وأحواله الذاتية.

 

ومن ثم كان: «البطل الحقيقى لهذه الرواية، كما لكثير من روايات نجيب محفوظ، هو الزمن، تلك القوة الميتافزيقية التى تحمل البشر على أمواجها، وتجعل الحظ يتقلب بهم فيرفع هذا ويخفض ذاك، أو على حد قول محفوظ فى موضع آخر من الرواية: تأملت الموقف نظرت طويلًا إلى الابن، تذكرت الأب، ثم خيِّل إليَّ أنى أسمع هدير الزمن وهو يتدفَّق حاملًا متناقضاته المتلاطمة»(3). فى نفس الوقت: «كان نجيب محفوظ يؤكد دراميًّا أن دور الفرد مهما كان بارزًا وفعالًا ومؤثرًا فى المجتمع، إلا أنه لا ينبغى أن ينفى أن الفرد نفسه هو نتاج فترة تاريخية معينة من الفترات التى يمر بها المجتمع، أى أن العلاقة الجدلية العضوية القائمة بين الفرد والمجتمع هى التى تشكِّل مصير الاثنين اعتمادًا على التأثير والتأثر.

ولعل هذا هو الخط الدرامى الوحيد الذى قد يشد اللوحات المتتابعة بعضها إلى بعض»(4)، لذا كان كتاب (المرايا) هو نتاج استدعاء شخصيات محددة فى تاريخ الذات المحفوظية، وهى عملية تشبه تمامًا عملية جمع طوابع البريد التذكارية فى أنطولوجيا خاصة للشخصيات التى تداخلت مع الكاتب فى مراحل كانت تربطه به مواقف وذكريات وعلائق خاصة، وعبر هذه الأنطولوجيا اختار نجيب محفوظ فى كتابه (المرايا) أربع عشرة شخصية نسائية وضع لها أسماء بعيدة عن أسمائها الحقيقية، ليطرح من خلالهن غلالة من الأحداث المتجذِّرة فى ذاكرته، والتى أراد لها الحضور فى هذا الوقت ليستكمل بها هذه النخبة من الشخصيات الذكورية الحاضرة على سطح مرايا ذاته، وكانت هذه الكوكبة النسائية تمثِّل فى حياة نجيب محفوظ علامات بعضها له حضوره القوى المضيء فى الذاكرة لاعتبارات خاصة، والبعض الآخر استحضره لأنه يذكره بالمرأة فى صورتها التى رآها عليها فى تاريخه الاجتماعى والإنسانى والحسى الخاص.


وكانت المرأة فى معظم أعماله الروائية بدءًا من ثلاثيته الفرعونية التاريخية مرورًا بجميع أعماله الروائية الأخرى فى مراحلها المختلفة حاضرة بقوة تجسِّد فى صورتها التى رآها فيها نجيب محفوظ ككائن مندمج فى الحياة المصرية بكل أشكالها وطبيعتها بحيث ارتدى نجيب محفوظ ثوب المشاهد والناقد الاجتماعى لها مما استدعى أن يرسم فى كل عمل روائى شخصية المرأة فى جميع الأطياف التى ظهرت بها أمامه فى المجتمع، فهى المغلوب على أمرها فى (القاهرة الجديدة)، وهى المرأة الخاضعة الهادئة المطيعة فى (خان الخليلي)، وهى المتمرِّدة الخارجة عن نواميس طبيعة المجتمع الذى تعيش فيه فى (زقاق المدق)، و(بداية ونهاية)، وهى الخارجة عن العرف القائم فى شرعيته فى (السراب)، وهى المرأة المستسلمة لقدرها داخل المجتمع البرجوازى حبيسة البيت والمجتمع والتقاليد البالية فى «الثلاثية»، وغيرها من صور المرأة وطبيعة وجودها فى المجتمع، لذا كان لكاتبنا الكبير رؤية خاصة تستهدف المرأة وتحاول أن تصوغ من واقعها صورًا وإشكاليات، بل وحلولًا لكل ما كان يراه فى حياتها الخاصة والعامة، ومن ثم كان لهذه الشخصيات النسائية بعد ربما يكون عالقًا بالذاكرة، لكنه غير منسى بالمرة بسبب طبيعته الخاصة المرتبطة بالمرأة، والأنثى، ومحكيات الجنس العالقة دائمًا بهواجس الذات والإدراك الذهني، فالمرأة فى مسيرة العمر لا تنسى بأى حال من الأحوال خاصة إذا كان هناك موقف أو حادثة أو علاقة أو شيء من هذا القبيل قد حدثت معها، وفى كثير من الأحوال تستحضرها مرايا الذات فى مخيلتها إذا ارتبط بها حدث ما جعلها تقفز إلى الذاكرة، وتستعيدها الذات وتستحضرها بصورة مكتملة لما لها من أبعاد تكون فيها خطوطها محفورة ومتجذِّرة فى ذاكرة الذات خاصة هذه الشخصيات التى كان لها صدى نفسى وعضوى داخل نفس السارد الراوي، وهو ما حدث فى نص (المرايا)، فهناك تشابهات وتقاطعات بين بعض شخصيات نجيب محفوظ فى بعض أعماله الروائية وبين شخصيات (المرايا)، فمجيدة عبد الرزاق تذكِّرنا بسوسن حماد فى (السكرية)، وفايزة نصار تذكرنا بـ«زهرة» فى (ميرامار)، ويسرية بشير تذكرنا بـ«مريم» فى (بين القصرين)، و«أمانى محمد» و«صبرية الحشمة» تكاد تكون هى شخصية «سنية كامل» فى (ثرثرة فوق النيل)، وصفاء الكاتب تذكرنا بـ«عايدة شداد» فى (قصر الشوق)، و«سعاد وهبي» تذكرنا بـ«زنوبة» فى «الثلاثية»، و«وداد رشدي» تذكرنا بـ«إلهام» فى الطريق، هى شخصيات حاضرة فى نستالوجيا الذاكرة المنسية عند نجيب محفوظ، استعاد بعضها فى فترة كتابته لشخصيات الكتاب، ووضعها فى مكانها المناسب من الحضور والراوي، لذا جاء نص (المرايا) ليمثِّل محاولة لاجترار الماضى فى حنين خاص لنخبة نسائية طرأت على الذاكرة المنسية اختار منها نجيب محفوظ هذه المجموعة من الشخصيات التى لها طوابع وحيوات مختلفة فى السيرة والجبلة والحالة، وهى الشخصيات التى سنعتمد عليها فى هذه الورقة.

 

أما باقى شخصيات الكتاب فهم من الذكور ممن كان لهم فى حياته دور آخر خاص، وقد تتداخل بعض الشخصيات الذكورية مع الشخصيات النسائية التى احتواها كتاب (المرايا) فى صورته التى جاء عليها، ولا شك أن العلاقة التى كانت تربط نجيب محفوظ بهذه الشخصيات المنتخبة جميعها من عالمه الاجتماعى والثقافى والسياسى كانت لها علاقة وثيقة للغاية بمرايا الزمن، ما جعله يستدعيهم على الصفحة السردية التى بدأت زمنيًّا بثورة 1919 مرورًا بإلغاء دستور 1923، وحادث 4 فبراير 1942، وحرب 1948، ثم ثورة 1952، وقرارات يوليو الاشتراكية عام 1961، ثم نكسة يونيو 1967، والمرحلة التالية لها حتى عام صدور الكتاب عام 1972، فى هذه الفترات المتباعدة نجد شخصيات (المرايا) المنتخبة من وقائع حاضرة فى ذاكرة الكاتب عايشت كل هذه الأزمنة، وكان لها وقع الصدى فيما عايشته بالنسبة لهذه التواريخ فى تداخل ذاتى مع شخصية الراوى (الكاتب) فى هذه الفترة الأخيرة كان كتابة (المرايا) له وقع الصدى عند الكثيرين الذين يعرفون نجيب محفوظ وكتاباته، وكان كتابة (المرايا) بهذا الأسلوب التجريبى الخاص له ضرورة حتمية فى إبراز كل الشخصيات الحاضرة فى هذا الكتَّاب، كما كانت كل هذه الفترة الزمنية التى تجاوزت أكثر من خمسين عامًا هى رحلة زمانية مرت بها هذه الشخصيات الموجودة على صفحات مرايا الكاتب بكل ما تملك من قدرات وحيوات ومآسٍ وممارسات وأبعاد إنسانية وأيديولوجية وثقافية، استدعاها نجيب محفوظ ليجعل منها إحاطة سيريَّة خاصة به وبها. 


وقد كان نجيب محفوظ له رأى خاص حيال هذه النخبة من الشخوص المستوية على صفحات مراياه الذاتية، وكانت رؤيته حولها تتبدَّى ما بين السلب والإيجاب، وكان غالبًا ما يحاول تحليل الشخصية والكشف عن ممارساتها فى الحياة، وكان الهدف من هذه الرؤية هو: «بلورة حركة المجتمع وتجسيدها من خلال هذه الشخصيات النمطية، وأنه حاول اقتحام عالم هذه الأنماط بهدف ليس تقديم رواية شخصيات بالمفهوم التقليدي، بل قصد أن يكون بطله هو المجتمع نفسه بكل جوانبه المتناقضة سواء كانت سلبية أم إيجابية، ولذلك فإن هذه الأنماط الاجتماعية كانت مجرد لوحات متتابعة أو تنويعات موسيقية على الخط الذى سلكه المجتمع المصرى على مدى سبعين عامًا ابتداءً من مطالع القرن العشرين»(5)، كما أنه يمثِّل عزفًا خاصًّا على أوتار الشخصية والزمن فى آن واحد، لذا كانت هناك شخصية قادمة من مرحلة الطفولة، وشخصيات لها طابع الأنوثة وما يرتبط بها من مراحل حسية، حيث كانت له رؤية خاصة فى المرأة، خاصة المرأة فى جوانبها الأنثوية الخاصة، وشخصيات حاضرة من زمن الوظيفة عند الكاتب، وشخصيات لها طابع خاص فرضت نفسها على مرايا الكاتب.

ويقول عنها الكاتب فى حديث خاص له بمجلة الهلال: «هناك منحرفات فاضلات، ومنحرفات غير فاضلات، والواقع أن كثير من المنحرفات فى رواياتي، يرجع انحرافهن إلى أسباب اجتماعية، المتهم وراءهن ليس سلوكهن بقدر ما هو المجتمع الذى يعشن فيه، إن الغالبية العظمى يرتكبن الأثم بسبب الفقر والمجتمع»(6).


المرأة والنص

أعطى نجيب محفوظ المرأة فى وضعها الاجتماعى المعروف فى مصر اهتمامًا وحضورًا خاصًّا فى كتاباته، كما ذكرنا، منذ بواكير أعماله وبداياتها حتى أنه سبق له وهو لا يزال فى التاسعة عشرة من عمر أن كتب مقالًا شيقًا نشره فى مجلة السياسة الأسبوعية التى كان يرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل آنئذٍ تحت عنوان «المرأة والعمل فى الوظائف الحكومية»، وقد نشر هذا المقال فى العدد 240 فى 10 نوفمبر 1930، ويدور حول المطالبة بتعليم الفتاة المصرية والاهتمام بها فى كل مراحل عمرها وحياتها. 


اختار نجيب محفوظ أن تكون «أمانى محمد» هى الشخصية النسائية الأولى على سطح (المرايا) لأنها تمثل حواء المراوغة، الماكرة، ولأن الاستعداد الحسى لدى الراوى فى ذلك الوقت كان قويًّا فى الاستمرار فى هذه التمثيلية الذى انتهت معها - ومع غيرها من الشخصيات النسائية- فى تلك المرحلة نهاية درامية، لذا فقد استحضرها الكاتب لتكون المرأة الأولى على سطح مراياه، تقابل معها الراوى فى مايو 1965 باستراحة الهرم بعد مكالمة تليفونية جذبته إليها، استدرجته بحجة مساعدتها فى كتابة بعض الأعمال التاريخية تودُّ استخدامها فى برامج إذاعية، وقد علم منها أنها مطلَّقة، ولكن الظروف تضع أمامه زوجها بطريقة غير متوقعة تمامًا، وفوجئ الراوى بأنه كان أحد أصدقائه القدامى ويُدعَى عبده بسيوني، يعترف له عبده بسيونى بسلوك زوجته وأنه –أى الكاتب- آخر ضحية لها، وأنه لم يطلقها كما أخبرته، ويسقط فى يد الراوى ماذا يفعل أمام هذه الورطة غير المتوقعة: «مرت ثانية وأنا لا أعى لقوله معنى، وفى الثانية التالية انفجر معناه فى وعيى كصاروخ.

الحق أنى غبت عن الوجود بمعنى ما. تلاشى المكان والزمان. لم أعد أرى إلا وجه عبده البسيونى الأسمر المستدير، كأنه وجه شخص آخر، وجه تمثال يقوم أمام مكتبى منذ الأزل، لم أنبس بكلمة. وطبعًا لا فكرة لى عن الصورة التى انطبعت فوق صفحة وجهي، ولكنه هز رأسه بهدوء وقال بنبرة مستأنسة:
لا داعى للجزع»(7).


مثلها تمامًا كانت شخصية «عزيزة عبده» فنانة تشكيلية تعيش حياة بوهيمية أساسها الحب أيًّا كان، تمارسه مع أى شخص، وبعلم زوجها، وهى لا تجد فى ذلك عيبًا، ربما تكون هذه التيمة لها بعد اجتماعى يوجد فى العديد من الإبداعات المتوائمة مع تلك الفترة الزمنية التى كتبت عنها، تعرَّف عليها الراوى عندما قدَّمه لها الدكتور زهير كامل فى صالونه الأدبى الخاص، وكانت بصحبة زوجها الفنان التشكيلي، كان الاثنان من ذوى الميول اليسارية: «ذهبت إلى معرضهما الخاص فى منزلهما وصحبت معى محرِّر إحدى الصحف الفنية كطلبها، وهو الأستاذ يوسف بدران، فلاحظت أنهما تفاهما سريعًا فى مودة لافتة، ذهبت يومًا لزيارة يوسف بدران فى شقته بشارع القصر العيني، وفجأة فتح باب حجرة النوم فخرجت منه عزيزة مرتدية إحدى بيجاماته: «دهشت وارتبكت ولكنى واجهت الموقف باللغة المناسبة، فتظاهرت بعدم المبالاة، وشجعتنى على موقفى بضحكاتها العذبة وحديثها الطبيعي»»(8).

لا شك أن شخصيتى أمانى محمد وعزيزة عبده كانتا تمثلان وجهًا نمطيًّا حاضرًا داخل المجتمع فى مرحلة زمنية كانت البوهيمية هى السائدة فى ذلك الوقت، حيث المرأة المتحررة، المتمردة على واقعها،العائشة حقيقتها الأنثوية بطريقتها الخاصة، وهى صورة لا شك كانت حاضرة فى المجتمع بقوة فى ذلك الوقت. على نفس الشاكلة كانت تبدو «فايزة نصار» ممثلة السينما التى تعرَّف عليها الكاتب فى بيت عجلان ثابت بالجيزة حوالى عام 1960، شخصية محيرة وذات جاذبية جنسية خاصة، متحررة إلى أبعد الحدود، لوجهها طابع ريفى رائق على الرغم من أناقتها العصرية.

كانت والدتها بحسب النص، بائعة جبن وزبد، وكان استعدادها للتأقلم قويًّا، تزوجت عبده إبراهيم صاحب جراج فى الخمسين، ضعيف الشخصية، لذا كان تحرُّرها الاجتماعى سببًا فى تنامى علاقاتها، تقابلت مع الراوى فى منزل عجلان ثابت، كانت بصحبة عشيقها جلال مرسى صاحب كازينو الهرم: «قال لى عجلان ثابت باستهتاره المعروف، فى المرة السابقة عرفت زوج فايزة وها أنت تعرف فى هذه المرة عشيقها!»(9)، وكانت هذه العلاقات المستباحة سائدة فى هذه المرحلة الزمنية لاعتبارات اجتماعية، وقد قال لى عجلان ثابت فى معرض حديثه عن هذه العلاقات المستباحة: «تعوَّد على هذه العلاقات حتى تبرأ من عبوديتك البرجوزاية(10)».


«صبرية الحشمة» صورة أخرى من صور تلك المرحلة، كانت تدير بيتًا للدعارة فى درب طياب فى ثلاثينيات القرن الماضى وجه آخر من الوجوه الحاضرة بقوة فى هواجس الكاتب ربما استخدمها كثيرًا فى بعض أعماله: «لما قامت الحرب العظمى الثانية كانت بين أوائل المعلمات اللاتى استجبن للتطوُّرات الطارئة فاستأجرت شقة كبيرة فى شارع شامبليون وخصَّصتها للدعارة السرية، ووسعت دائرة نشاطها ففتحت مشربًا للخمور بشارع الملكة نازلي»(11). كسبت من وراء ذلك الكثير على أيدى زبائنها من الجنود الإنجليز، تضخَّمت ثروتها عند نهاية الحرب وكانت قد شاخت وبلغت الخامسة والخمسين، وسرعان ما صفَّت أعمالها وباعت أملاكها، وأودعت تحويشة العمر فى البنوك، ومن ثم قرَّرت تغيير حياتها، فأدَّت فريضة الحج وتبرَّعت كثيرًا للجمعيات والأعمال الخيرية. إلا أن وجود هذه المرأة كان مهمًّا فى حياة الراوى المبكرة، فظهرت على صفحة مرآته كنموذج من نماذج هذه المرحلة الاجتماعية التى مرت بها البلاد، وما تذكره عنها فى المرحلة المبكرة للغاوية والمراهقة التى كانته: «قدمنا إليها فصرنا من المقربين إلى المعلمة وتمتعنا بامتيازات غالية، وكنا نشهد السهرات الخاصة التى تبدأ بعد وقت التشطيب فى الدرب– داخل البيت فنسمع الغناء ونشاهد الرقص ونتمادى فى السهر حتى مطلع الفجر(12)».


ولأن المرايا كانت جزءًا من ذكريات الكاتب فإن مرحلة الوظيفة كانت إحدى ملامحها، خاصة ما كانت تتضمَّنه من شخصيات نسائية عملت معه خلال تلك المرحلة، لذا تقفز على وجه مراياه شخصية «عبدة سليمان» تذكرها الكاتب فهى إحدى زميلات العمل فى قسم السكرتارية، ومن أوائل من عيِّنوا بالوزارة، على عهد حرب فلسطين الأولى عام 1948، وكان ذلك من الأمور العجيبة فى ذلك الزمن، لذا بدأ كل من فى السكرتارية يهتم بمظهره وسلوكه علَّه يحظى باهتمام الزميلة الجديدة: «اشتدت العناية بالمظهر فى السكرتارية،واسترقت الأعين النظر إلى ركن الحجرة حيث جلست عبدة على يمين الأستاذ عبد الرحمن شعبان، وكان علينا أن ننتظر طويلًا حتى تصير عبدة، عادة يومية لا تثير الأهواء ولا تلفت النظر»(13)، وكان عم صقر ساعى المكتب ينقل إلينا أخبارها بصدقها وكذبها، كالعادة وقعت عبدة فى حب أحدهم، تردد بطريقة لافتة على حجرة السكرتارية.

وكان قريبًا لأحد البشوات وزوجا لابنته على الرغم من ضآلة شهادته ومركزه فى الوزارة، وانتهى هذا الحب بمأساة زواج وطلاق فى أسبوع واحد، إلا إنها ظلت على علاقة مع طليقها، لفترة حتى علمت عائلة زوجته الأولى بهذه العلاقة، فتدخَّلت فى الحال، ونقل محمد العادل إلى وزارة الزراعة، وتزوجت عبده من مقاول، وافق على تربية أبنيها، وتمر الأيام، ويتقابل معها الراوى بعد عشرين عامًا: «تصافحنا بحرارة، وكانت فى الخمسين بدينة جدًّا، وسرنا معًا، وهى تسأل عن الزملاء القدامى»(14)، وتحكى عبدة عما حدث لزوجها الأول، وأسرته، حيث قلب الزمن لهم جميعًا وجه المجن بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي، وأن محمد العادل يعمل الآن منادى سيارات بالإسكندرية، وفى النهاية: «سألتنى ونحن نتوادع: خبرنى ماذا عن الموقف حرب أم سلم؟ فبسطت راحتى فى عجز عن الجواب وافترقنا»(15). 


شخصية نسائية أخرى من شخصيات الوظيفة كانت هى «ثريا رأفت» تعرف عليها الراوى منذ أول عهده بالوظيفة عام 1935 حينما كانت تداوم على زيارة عمها فى الوزارة، وقد رفضت أن تستجيب لنزواته مما دفعه إلى التفكير جديًّا فى الزواج منها، ولكنها تصارحه بأنها فقدت عذريتها فى سن الصبا بسبب وغد من الأوغاد رفضت ذكر اسمه مما جعله يبتعد عنها، ولكنه يتعرف على هذا الوغد بطريق الصدفة، وكان هو صديقه عيد منصور أحد أصدقاء الصبا بحى العباسية: «ومرت أعوام كثيرة لم أرَ فيها ثريا ولم أسمع عنها حتى ذهبت لزيارة الأستاذ سالم جبر عقب حدوث نكسة يونيو فوجدت ثريا ضمن آخرين مجتمعين فى مكتبه»(16). علمت بعد انصرافها بأنها الدكتورة ثريا رأفت مفتشة كبيرة بالتربية والتعليم. كانت هذه الشخصيات النسائية بمثابة دفقة تقفز على مرآة الذات من خلال الصدفة، وكانت «حنان مصطفى» إحدى هذه الحالات، قابلها الراوى فى الإسكندرية بطريق الصدفة، وتعارفا لأول وهلة: «سمعت صوتا ينادينى فتوقفت عن السير ملتفتًا، فرأيت سيدة فى الحلقة السادسة تنظر نحوى بعينين زرقاوين باسمتين. تطلَّعت إليها لحظات متسائلًا، ثم اقتحمنى التذكر والعرفان كنفحة من عبير الأزهار، فهتفت: 
حنان!
فقالت فيما يشبه الاطمئنان:
نعم.. حنان.. كيف حالك؟ 
وتصافحنا بحرارة ونحن نميل إلى جانب من الطوار، وراحت تقول:
تذكرتك بسهولة، لم تتغير تغيرًا يذكر، وخفت ألا تتذكَّرنى ولكن الظاهر أننى لم أتغيَّر بصورة تدعو لليأس. ماذا جاء بك إلى جليم فى مايو، أم أنك مقيم هنا فى الإسكندرية؟ 
بل جئت لاستئجار شقة للصيف. وأنت؟
نفس السبب، وحدك؟
نعم.
وأنا كذلك»(17).
وتنفتح طاقة غريبة فى مرايا الذات حينما عاش الراوى لحظات قصيرة لكنها كانت كافية لاستعادة ذكريات قديمة مرت عليها هذه السنين الطويلة لتؤكد أن صورة المرأة ما زالت مطبوعة على مراياه، لكنها تغيرت تغيرًا جذريًّا، حتى أن هذا اللقاء قد أعاده إلى الوراء ليطل من خلال مرايا الذات إلى الأنثى التى كانت، ويرى فيها الآن تلك المرأة التى أصبحت: «ومشينا على مهل على الكورنيش حتى سألتني:
متى رأيتنى آخرة مرة؟
فتفكرت مليًّا ثم قلت:
منذ أربعة وأربعين عامًا؟
فهتفت ضاحكة:
يا للفضيحة، وبرغم ذلك عرفتك من أول نظرة!
كما عرفتك!
بل ترددت قليلًا.
من المفاجأة..
فضحكت ثم تساءلت:
أتذكر حب زمان؟ (18)
لعلَّ هذه اللحظة المفاجئة، قد أعادت لحظات أخرى مشابهة مر عليها أكثر من أربعة وأربعين عامًا، كان فيها الراوى يعيش لحظات عاطفية رومانسية مع الصبية الصغيرة حنان، والطلب الغريب الذى طلبته أمها التركية حينما تقدمت لطلب يده من أهله على عكس ما يحدث فى مثل هذه الأمور، وهما لم يناهزا بعد الثالثة عشرة من عمرهما، وعندما رفض أهله هذا الطلب الغريب، تستعر جذوة الحب والعذاب فى قلبه، ولم يطفئها إلا مرور الزمن والوقت والانشغال بأمور حياتية أخرى. كانت هذه اللحظات المنعكسة على بؤرة مرايا الكاتب تعكس لحظات حميمية مختلفة أخرى ومتنوعة ظهرت على مرايا واقعه: «من العشق الطفولى إلى الموقف الجنسي، إلى الصداقات الصبيانية، إلى الحب الرومانتيكي، إلى السياسة الانفعالية، إلى التفكير فيها، إلى مواجهة الموت وما وراء ذلك من مواجهات خاصة فى الجنس والصداقة»(19). 


وكانت الشخصية الثانية الآتية من مرحلة الطفولة هى «يسرية بشير»، وهى الشخصية النسوية الأخيرة فى هذه المجموعة والمجسدة لروح المجتمع ورمزيته وممارساتها الأنثوية التى طبعت هذه النهاية برمزية تنبؤية يقول فيها الراوي: «يرجعنى الاسم إلى مهد الطفولة، ميدان بيت القاضى وأشجار البلخ المثقلة بأعشاش العصافير»(20)، ويعود بنا الراوى إلى المرحلة المبكرة حين كان فى السابعة أو الثامنة من عمره، والتطلع إلى الجمال الأنثوى المتمثل من يسرية بشير جارتهم فى حارة قرمز، والذى سعى إليها فى أثناء مطر غزير فى هذا اليوم على طست الغسيل: «قابلتنى يسرية عند رأس السلم فقادتنى إلى الحجرة، وأجلستنى قبالتها على كنبة تركية وراحت تداعب شعرى برقة وأنا غارس عينى فى وجهها المضيء»(21).

لقد كانت حنان مصطفى ويسرية بشير هما الحاضرتان من مرحلة الطفولة، وكان هاجس حنان هو الحضور المفاجئ فى الإسكندرية، أما يسرية فقد طواها الزمن ولكنها ظلت حاضرة فى هاجس الراوى لأنها كانت تمثل خطوط الغيب التى استغرقت العمر كله: «أرادت أن تسلينى فتناولت راحتى وبسطتها وهى تقول: سأقرأ لك الطالع! وراحت تتابع خطوط كفى وتقرأ الغيب ولكننى استغرقت بكل وعيى فى وجهها الجميل»(22)، كما كانت حالة «درية سالم» التى كانت تود الارتباط به عاطفيًّا فقط، ولا تريده إلا صديقًا روحيًّا، وهى تنويعة غريبة من النساء فى مثل هذا الزمن هذا الوقت بالتحديد، كانت درية تبحث عن الحنان المفقود فى حياتها الزوجية، ولكن هذه العلاقة المفتعلة سرعان ما انتهت ليجرف تيار وحده درية سالم وتختفى فجأة كما ظهرت فجأة.


«كاميليا زهران» فى هذه اللوحة يبدأ السارد الراوى لوحته بهذه العبارة: «يوم أقبلت علينا فى السكرتارية بفستانها الأنيق وشعرها الأسود المقصوص المطوِّق لرأسها تذكَّرت عبدة سليمان، ولكن ما أبعد المسافة بين عام 1944 وعام 1965»(23) وكانت عبدة سليمان هى أول فتاة تعيَّن فى الوزارة زمن الحرب، وتتزامل مع الراوي، وكان تعيينها بمثابة نقلة نوعية فى موظفى هذا الوقت بكل المقاييس. وبحضور كاميليا زهران كزميلة جديدة معنا، وعلى الرغم من تعيينها بالسكرتارية وعدم ترحيبها بهذا العمل الكتابى وهى الدارسة للقانون، فإنها اندمجت وتأقلمت مع هذا الواقع بسرعة، وكان لا بد أن يتقوَّل الزملاء على زميلتهن فى العمل كالعادة، فعقب الإجازة الصيفية تحدَّث زميل عن علاقة نشأت بين كاميليا ومدير الإدارة.

وقال آخر: «رأيتها فى هانوفيل تراقص شابًّا وكانت مندمجة فى الرقص بنشوة كأنها نغمة»، فقلت متوثِّبًا للدفاع: لم يعد عيبًا ما كان يعد عيبًا على أيامنا»(24)، وتمر الأيام حتى تنقل كاميليا إلى الإدارة القانونية وتتزوج أحد زملائها ويسدل الستار على هذه الحكاية فى حينها. 


«سعاد وهبي» الفتاة التى ظهرت فى غير أوانها عام 1930، وكان عدد فتيات الجامعة آنذاك لا يتجاوز العشر، وكان الطابع العام لهن فى تلك المرحلة التزمُّت المكبوت والاحتشام، والعزلة إلا للضرورة، وجاءت «سعاد وهبي»: «كانت أجمل الفتيات وأطولهن وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، ولم تقنع بذلك فلوَّنت بخفة الوجنتين والشفتين، وضيِّق الفستان حتى نطق، وتبخترت فى مشيتها إذا مشت، وكانت تتعمَّد أن تدخل القاعة ثم تهرول كالمعتذرة فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة فى الصفوف وتند عنها همهمات كطنين النحل»(25).

وتتواتر الأحداث حول هذه الفتاة فى تلك الفترة العصيبة من الحياة الجامعية، حتى كثرت حولها الأقاويل خاصة عندما فصلت ثم عادت مرة أخرى، ثم اختفائها: «قيل إنها سافرت مع المدرس الإنجليزي، وقيل إنها تزوجت، وقيل إنها أصبحت غانية فى شارع الألفي، ومع كثرة تقلُّبى فى أنحاء القاهرة فلم تقع عليها عيناى منذ ذلك التاريخ البعيد»(26).


«مجيدة عبد الرازق» الصحفية الشيوعية الجميلة عالية الثقافة المتمردة دائمًا، تعرف عليها الراوى أثناء زيارته لسالم جبر فى مكتبه بجريدة المصرى عام 1950. تقابل معها أكثر من مرة فى بيت زهير كامل، ثم فى جلسات جروبى مع بعض الأصدقاء، كانت تمثل حالة خاصة من النساء، فى جلساتها كانت ندًّا قويًّا للجالسين: «تتجاهل إيماءات الغزل التى توجه إليها أحيانًا»(27)، على الرغم من ذلك كانت تجاربها العاطفية تنتهى نهايات مؤسفة، تزوجت من أستاذها الأيديولوجى الذى علَّمها الأيديولوجية الحقة، ثم انفصلت عنه بسبب نديتها التى لا تتنازل عنها، تزوجت طبيب أطفال متزوجًا عن حب، خدعها بمنطق الحب، لكنها كانت واقعة تحت تأثير الوهم، كانت أخبارها تغزو المرايا وتنعكس عليها من منطلق حب الاستطلاع حول هذه المرأة المتمردة دومًا.


ينهى السارد شخصية «وداد رشدي» آخر نساء كتاب (المرايا) بهذه العبارة: «ومنذ ذلك اللقاء فتحت لى حياة جديدة أبوابها فدخلتها مدفوعًا بالحنان والتعلُّق بالذكريات وحب الاستطلاع، وعايشت روابطها العائلية ومشكلاتها اليومية وما تزخر به من أبوة وأمومة وبنوة، وارتباطات عاطفية بل وجنسية، وخلافات ومسرات وأمراض وأحلام وأهواء من كل شكل ولون. وداد بعد من أبعاد حياتى لا يدرى به أحد ولكنه جزء من كينونتى لا يتجزأ»(28)، وكانت شخصية وداد رشدى فى حكايتها أشبه بما حدث مع أمانى محمد أول شخصيات الكتاب، فكلاهما كان يرمى بشباكه على السارد الراوى فى أوقات قال عنها: «منذ ذلك اللقاء فتحت لى حياة جديدة أبوابها فدخلتها مدفوعًا بالحنان والتعلق بالذكريات وحب الاستطلاع»(29)، ومن ثم فإن تلك الشخصيات النسائية الأربع عشرة التى وجدت فى كتاب (المرايا) تنسحب عليها هذه المقولة التى قالها الكاتب والسارد حول تلك النخبة من النساء.

هوامش:
1- تفكيك الذات فى مرايا نجيب محفوظ، جيمسى ردكنج، ت د. أحمد الهواري، مج علامات فى النقد، الرياض/السعودية، ع 2، ديسمبر 1991. 
«ومن خلال هذا التفكيك نجد أن هناك أعمالًا سردية أخرى تتناص مع كتاب (المرايا) من ناحية الشكل والتأثير، من هذه الأعمال كان كتاب «اللامنتمي» لكولن ويلسون، وكتاب «نماذج بشرية» لشيخ النقاد الدكتور محمد مندور، وكتاب الكاتب الجزائرى أحمد رضا حوحو الحامل لنفس العنوان، وكتاب الدكتور لويس عوض «محاورات المعلم العاشر»، وكتاب على الشوباشى فى روايته «رابعة ثالث» من خلال صورته وزملاء الفصل، كيف كانوا فى ذلك الوقت، وكيف أصبحوا بعد ذلك، وكتاب «النميمة.. نبلاء وأوباش» للكاتب سليمان فياض الذى تناول فيه العديد من الشخصيات الأدبية بحسب التوصيف الوارد بالعنوان»، وكتاب الروائى محمد الجمل «أطياف مسافر فى الغروب» بلوحاته المنتخبة من سيرته الذاتية والمشهد الأدبى فى الإسكندرية، جميع هذه الأعمال استحضرت نماذج بشرية كانت تربطهم بها صلات وعلاقات، ومن استحضرتهم الذاكرة فى توصيف وظروف استدعت ذلك الحضور.


2- المصدر السابق ص 192.
3- نجيب محفوظ فى عيون العالم، محمد عناني، ماهر شفيق فريد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002 ص116.
4- قضية الشكل الفنى عند نجيب محفوظ.. دراسة تحليلية لأصولها الفكرية والجمالية، د نبيل راغب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975، 367.
05 المصدر السابق ص 354.
6- المرأة والجنس فى أدب نجيب محفوظ (لقاء)، أحمد أبو كف، الهلال، القاهرة، فبراير 1970 ص 18.
7- المرايا، ص30/31.
8- المرايا، ص 248.
9- المرايا، ص 271.
10- المرايا، ص 271.
11- المرايا، ص 182.
12- المرايا، ص 181.
13- المرايا، ص 223.
14- المرايا، ص 227.
15- المرايا، ص 228.
16- المرايا، ص 57.
17- المرايا، ص 71.
18- المرايا، ص 72.
19- قراءتان فى رواية (المرايا) الصورة المتكسرة والمرآة الواحدة، سامى خشبة، مج الآداب، بيروت، ع 9 س 20، سبتمبر 1972.
20- المرايا ص 328.
21- المرايا، ص 339.
22- المرايا، ص339.
23- المرايا، ص 294.
24- المرايا، ص 295.
25- المرايا، ص 134.
26- المرايا، ص 138.
27- المرايا، ص 313.
28- المرايا، ص 337.
29- المرايا، نفس الصفحة.