مهدى زلزلى يكتب : العَرَق

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

«الجريمة الأعظم من سرقة مصرف، هى تأسيس مصرف»
برتولد بريخت
قبلة على جبين الحبيب
كان يسحب منديلًا ورقيًّا ثانيًا ليتابع تجفيف عرقه حين توقفَتْ فجأة عن الضحك، وحدّقَتْ فى عينيه عابسة، استفسرَ بهزّة من رأسه عن سبب انقلابها المفاجئ، فأجابَته بأنَّ السكرة راحت وجاءت الفكرة: «كيف لك أن تتركنى جالسة وحدى أنتظرك وتعود أدراجك بعد أن وصلتَ إلى هنا ودخلتَ المطعم؟».
أشار إلى المنديل الذى صار مبللًا بالكامل، وقال إنَّه لم يشَأ أن يجالسها بـ«وضعه هذا» فى مطعم عمّها تحديدًا، حيث يعرفها كثيرون وتعرفهم، فيسىء بذلك إلى صورتها فى المجتمع كإعلاميَّة شهيرة وناجحة.


هذه (الناجحة) التى تتحدَّث عنها أحقّ بالحديث عن نفسها، وليس فى رصيدها ما يمكن أن تفخر به أكثر من صلتها بك ومجالستها إياك، لولا أنَّها تعتبر العلاقات الشخصيَّة شأنًا خاصًّا لا علاقة للآخرين به وليس مدعاةً للتباهى ولا للخجل. ولكن، ما حكاية «وضعك هذا».. لم أفهم!

اقرأ ايضاً| محمود الرحبى يكتب : لقاء


يقولون إنَّنى جليس مؤنس ومتكلم بارع، وإنَّ لى حضورًا محببًا، وإنَّنى فوق هذا وسيم وأنيق.. لا يعنينى كل ذلك.. رفاقى كانوا يتندّرون دائمًا على راتبى الذى يضيع بين الحلاقين ووكالات الألبسة الجاهزة ومحال العطور قبل أن تأكله الأزمة.. ولكن الصيف الملعون يأتى دائمًا لينسف ذلك كله.. معاناتى مع التعرّق الزائد تجعلنى راغبًا فى الانزواء وعدم مقابلة أحد قبل عودة الخريف.. وقد اضطررتُ اليوم إلى ترك سيارتى لدى ميكانيكى قريب لمعالجة مشكلة أصابتها والانتقال إلى هنا سيرًا على قدمىَّ، فوصلتُ بفعل الحرّ والرطوبة بهذه الصورة: شَعرى ملتصق بوجهى وملابسى ملتصقة بجسدى ونقاط العرق تتناثر حولى فى كل اتجاه، ثمَّ فوجئتُ برسالة نصّية منكِ تعلمنى أنَّ لقاءَنا سيكون فى مطعم عمّكِ لا فى المقهى المقابل الذى اعتدنا اللقاء به، وأنا أعرف أنَّ المطعم مكتظّ بالزبائن فى مثل هذا التوقيت.


أتعلم؟ عرقك هذا لا يذكرنى إلا بعرق أبى، شفاه الله وعافاه.. لعل ظاهر هذا الكلام إنشائى ومجازى، ولكننى أقصده تمامًا.. أنا فعلًا أحبّ عرق أبى وأرغب أكثر فى تقبيل جبينه وخديه حين يكون عائدًا من ورشته بوجه مبلل بالعرق.


قبل أن تنهى جملتها كانت قد نهضت واقفة وتقدَّمت نحوه لتفاجئه بقبلة طبعتها على جبينه الذى عاد نديًّا من جديد. لم يكن قبل ذلك قد لاحظ تنورتها المقصّبة، طويلة فضفاضة تزهو بلونها الأصفر الذى تزيّنه ورود حمراء صغيرة.


تنانير
يحبّ المرأة.. يحبّها أكثر بتنورة فضفاضة زاهية.. وحين عرف نور صار يحبّ امرأةً بعينها. أربعينى وثلاثينية بروحٍ فى العشرين، أساءَ الزمان إليهما كثيرًا ثمَّ اعتذر منهما على طريقته إذ جعل دروبهما تتقاطع. ولحسن حظّه كانت نور لا ترتدى إلا تنانير فضفاضة زاهية!


يتذكّر حادثة حصلت معه فى أيامه الأولى فى الجيش قبل أكثر من عشرين عامًا،وبعد ثلاثة أسابيع من الانخراط فى دورة تدريبيَّة قاسية والانقطاع التام عن العالم الخارجى، شاع بين الجنود الأغرار خبرٌ سَرَّهُم: سيكونون الدفعة الأولى التى تستفيد من توطين رواتبها فى المصارف، لا «معتمد قبض» بعد الآن. كان قد سمع حكايات كثيرة من أشخاص سبقوه إلى الجنديّة عن «معتمَدى القبض» الذين «يلهفون» الكسور فى رواتب زملائهم متذرّعين بعدم وجود «فراطة»، فلا يلقون اعتراضًا، ويحصلون بذلك على مبالغ تفوق رواتبهم الأصليَّة بأضعاف، وسمع أيضًا عن مشقة الوقوف فى طابور طويل أمام مكتب «معتمَد القبض» للحصول على راتب لم يكن يومًا إلا متواضعًا. 


وفى اليوم التالى، وصل رسُل المصارف إلى المعسكر لتقديم العروض وعرض الحوافز، فبدا أنَّ إشاعة توطين الرواتب لم تكن إشاعة. وبعد ربع ساعة كان قد أنهى معاملته ووضع توقيعه عند الموظف العجوز الذى جاء ممثلًا لـ«البنك الأهلى»، كان ثالث ثلاثة اختاروا هذا المصرف، بينما وقف الباقون كلهم وعددهم 997 متدربًا ينتظرون دورهم للتوقيع لدى مندوبى «البنك الوطنى» الذى «لعبها صحّ» فأرسل أربع حسناوات بتنانير قصيرة جدًّا، آخذًا فى الحسبان أنَّ العملاء المستهدفين ذكور فى ريعان شبابهم لم يلمحوا طيف امرأة منذ أسابيع!


ربما لم تكن لاختياره البنك الأهلى علاقة بموقفه من التنانير القصيرة التى لا يحبّها، ولكنه كان بالتأكيد انتقامًا لكرامته التى مسَّها استخفاف هؤلاء به وبزملائه بهذا الشكل، وإن كان يعرف فى قرارة نفسهم أنَّهم محقّون وأنَّ خطتهم التسويقيَّة ناجحة تمامًا.


القروض السّود
بعد سنة واحدة، سيجد نفسه فى طابور من نوع آخر، منتظرًا دوره بين الراغبين بنقل رواتبهم من البنك الأهلى إلى البنك الوطنى. الحيل التسويقيَّة فى «الوطنى» لا تنتهى، ومن لم تجذبه التنورة ستجذبه القروض حتمًا، فمن دونها ليس لهؤلاء الشبّان أن يفكّروا مجرَّد تفكير فى أحلام بسيطة وبديهيَّة كالزواج والإنجاب والسّكن!


الرجل الآلى
لطالما كان ينظر إلى موظّفى البنوك - من الجنسَين - كمخلوقاتٍ من كوكب آخر. لم يكن الأمر طبقيًّا أو له علاقة بالمستويين الثقافى والاجتماعى، فقد شاهد رجال أعمال وموسِرين ومحامين وأطبّاء وساسة ومشاهير ينخرطون فى عراكات تحطّ من قدرهم لسبب أو لآخر، ويتلفظون بعبارات بذيئة، ويرتدون ثيابًا غير مناسبة ومضحكة، ولكنه لم يسمع يومًا من موظف بنك صوتًا مرتفعًا أو كلمة واحدة زائدة عن الفكرة المُراد قولها، ولم يرَ أحدهم يومًا بثياب غير مرتبة. هل كان هؤلاء ملائكة أم رجالًا ونساءً آليين؟ والأهمّ، لمَ لا يتعرَّقون مثله حتى حين يغادرون مكاتبهم المكيفة لمواكبة زبون «غير عادى» إلى سيارته أو استقبال آخر؟


إبراهيم كان مصداقًا لكل ذلك، رآه للمرة الأولى حين كان يجاهد للحصول على مبلغ أرسله إليه شقيقه من الخارج. وبعد تحقيقات امتدّت لساعات تمَّ التأكد من أنَّ المبلغ المتواضع ليس مخصّصًا لدعم أعمال المقاومة ضدّ العدوّ، فسُمِح له بقبض نصفه واضطرّ لسماع مطالعة لم يفهم منها شيئًا حول أسباب وضع البنك يده على النصف الآخر. وربَّما لولا وجود إبراهيم الذى تجنَّد لمساعدته لم يكن ليحصل على قرش واحد.


لم يشعر يومها بالملل. تحايل على ساعات الانتظار الطويلة بمراقبة إبراهيم فى غدوِه ورواحِه، وفى حديثه مع غيره من العملاء كما مع زملائه الموظفين. انتظر منه هفوة واحدة تؤكّد سلوكه البشرى، ولكن هذا الرجل الآلى ذا الشعر القصير المصفَّف بعناية والذقن الحليقة والبشرة البيضاء لم يبارح دماثته ولطفه وهدوءه وكلماته المعدودة والمحسوبة بميزان الذهب، ولا فارقت وجهه ابتسامته الخفيفة..


بعدها، صار يفضّل أن يسدّد دفعة القرض الشهريَّة التى تأكل - كخليَّة سرطانيَّة - راتبه المتواضع، عند إبراهيم حصرًا، ولو اضطرّ للانتظار قليلًا. صار يمكن اعتبار إبراهيم صديقًا لولا أنَّ الصداقة لا تجمع بين البشر والرجال الآليين!


لعبة الفوارق الخمسة: 
المصارف تأكل أبناءها
أحواله الماديَّة لم تكن يومًا بخير، لا قبل تقاعده المبكر ولا بعده، ولكن ما بعد الأزمة الاقتصاديَّة المستمرّة ليس كما قبلها حتمًا. لم يعد اتهام رفاقه له بتبديد راتبه على مظهره إلا نكتة فات أوانها. راتبه هذا لم يعد يكفى لغسيل ملابسه القديمة وكويها. أما موظفو البنوك - التى كانت حلقة أساسيَّة من حلقات آلة جهنميَّة أوصلت البلاد والعباد إلى هنا - فلم يعد وصف الملائكة يناسب فئة منهم دخلت مرغمةً فى نزاعات يوميَّة مع مودعين أو موظفين ساخطين لا يجدون من يقذفون فى وجهه حمم غضبهم من ألعاب شيطانيَّة تمارَس بحقهم وتحرمهم مدّخراتهم وحقوقهم، عَلَت أصوات هؤلاء واحمرَّت وجوههم وأفلتت من أفواههم كلمات لم يعتد أحد سماعها منهم، وصاروا يحضرون إلى عملهم بثياب رياضيَّة تحسبًا لجولات التدافع التى تبدأ فجأة فلا يعرف أحد وقتًا محددًا لها. إبراهيم لم يكن من هذه الفئة، كان من الفئة الثانية التى تمَّ تسريحها بعد دمج الفروع بهدف تقليص النفقات!


كان فرع «البنك الوطنى» فى مدينته الصغيرة قد أقفل تمامًا بفعل حملة «عصر النفقات» هذه، فاضطرّ أن يقصد - كلما أراد قبض راتبه - فرعًا آخر يقع فى مدينة أكبر هى مركز المحافظة.


وكان هذا الفرع مقفلًا بدوره، ولكن الصرَّاف الآلى العائد له يعمل بشكل شبه طبيعى، ولولا ذلك لاضطرّ لتكبّد عناء الانتقال إلى وسط العاصمة حيث يقع الفرع الوحيد الذى لا يزال الموظفون فيه يداومون بشكل اعتيادى.


وكان من ميزات فرع البنك الوطنى فى مركز المحافظة أنَّ الصرَّاف الآلى فيه تصيبه سكتة قلبية مؤقتة تتزامن دائمًا مع تحويل رواتب موظفى القطاع العالم إليه من قبل وزارة الماليَّة!


كان هذا يعنى مزيدًا من المشاوير فى الجو القائظ ومزيدًا من العرق. خصوصًا أنَّ جهاز التكييف فى السيارة معطل بقرار ذاتى توفيرًا للوقود. هو «عصر نفقات» من نوع آخر ليس بعده سوى عصر للثياب!


حول المصرف المقفل، الواقع فى شارع المصارف (المقفلة جميعها)، صرَّافون غير شرعيين يعملون على مدار الساعة بلا توقف. تكاثر هؤلاء كالفطر فى الآونة الأخيرة. يتقدَّم أحدهم ليعرض خدماته عليه، فيضحك، ويقلب باطن جيوبه إلى الخارج مشيرًا إلى فراغها حتى إشعار آخر تحدّده إدارة البنك الوطنى، وفى اللحظة ذاتها يستوقفه عراك بين صرّاف ثانٍ وزبون حاول خداعه بورقة ماليَّة مزوَّرة من فئة المئة دولار أميركى.

كان الصرّاف يقفز عن الأرض محاولًا الوصول بلكماته إلى الرجل القابع فى سيارته، ورفاقه يمنعونه بصعوبة، وإذ حانت من الصرَّاف الغاضب التفاتة صوبهما هاله أن يكون له وجه إبراهيم، بل هو إبراهيم نفسه، بلا فوارق عشرة ولا حتى خمسة بين الصورتين، فقط بعض العروق النافرة وقليل من الاحمرار فى الوجه، والشعر مشعث وأكثر طولًا، والذقن غير حليقة بل تغطيها لحية مهملة.. اقترب أكثر فعاين قميص إبراهيم مبتلًا كله بالعرق كما لو كان صاحبه طالعًا لتوّه من البحر، اكتملت الفوارق الخمسة.. وإبراهيم لم يعد رجلًا آليًّا!