سلمان رشدى: لطالما اعتقدت أن كتبى أكثر أهمية من حياتى

سلمان رشدى: لطالما اعتقدت أن كتبى أكثر أهمية من حياتى
سلمان رشدى: لطالما اعتقدت أن كتبى أكثر أهمية من حياتى

نشرت صحيفة النيويوركر هذا التحقيق للصحفى دافيد ريمنيك عن الكاتب البريطانى الهندى سلمان رشدى بعد خروجه من المستشفى للعلاج من أثار حادث طعنه على يد الأمريكى اللبنانى هادى مطر فى أغسطس الماضي، أثناء إلقاء رشدى محاضرة فى معهد شاوتاوكوا فى مدينة نيويورك.

بعد أن كاد يفقد حياته فى حادث طعنه، وبعد عقود من التهديدات، يتحدث الروائى عن الكتابة كفعل تحدى للموت.
عندما أتم سلمان رشدى عامه الخامس والسبعين الصيف الماضي، كان لديه كل الأسباب المنطقية للاعتقاد أنه نجا من خطر الاغتيال. منذ سنوات عديدة، وفى يوم الفالنتاين لعام 1989، أعلن القائد الأعلى لإيرانى آية الله الخمينى أن رواية رشدى «آيات شيطانية» مجدفة وأصدر فتوى بإعدام مؤلفها وكل من ساهم فى نشرها. قضى رشدي-المقيم فى لندن وقتها- العقد التالى فى حالة هروب تحت حماية دائمة من الشرطة. لكن بعد استقراره فى نيويورك عام 2000 عاش بحرية رافضًا الحراسة ، رافضًا إرهابه.

اقرأ ايضاً|أنطون تشيخوف .. لأول مرة بالعربية فى مكتب البريد
ومع ذلك كان هناك أوقات حين يطل التهديد برأسه مددًا، ليس فقط من المختلين على الانترنت. فى عام 2012 خلال التجمع الخريفى السنوى لقادة العالم فى الأمم المتحدة، حضرت اجتماعًا صغيرًا للمراسلين مع محمود أحمدى نجاد رئيس إيران. سألته إن كان تم سحب المكافأة التى بلغت ملايين الدولارات والتى وضعتها مؤسسة إيرانية على رأس رشدي. ابتسم نجاد فى خبث وقال«سلمان رشدي! أين هو الآن؟ هل هو فى الولايات المتحدة؟ إن كان كذلك فلا تعلنوها حرصًا على سلامته».


خلال سنة كان نجاد خارج منصبه بعيدًا عن حظوة الملالي، بينما عاش رشدى حياته كرجل حر. مرت السنوات، كتب كتابًا تلو الآخر، درَس وحاضر، سافر والتقى بالقراء، تزوج وطلق، وصار من معالم المدينة التى أصبحت وطنه بالتبني، لو شعر فى لحظة أنه لا يريد الكشف عن هويته، كل ما عليه ارتداء قبعة بيسبول. 


فى مذكراته «جزيف أنطون» الصادرة عام 2012 والعنوان هو اسمه البديل فى عصر الفتوى، والذى اختار جمعًا الاسمين الأولين لكاتبين مفضلين: جوزيف كونراد وأنطون تشيخوف، كتب رشدي: «لم يكن هناك شيء اسمه الأمن المطلق، ليس سوى درجات متفاوتة من انعدام الأمن» كان عليه أن يتعلم كيف يتعايش مع ذلك. لقد فهم جيدًا أن موته لن يتطلب جهودًا منسقة من قبل فيلق الحرس الثورى الإسلامى أو حزب الله. قال «يمكن القيام بهذه المهمة بسهولة، لكننى شعرت أنه مر وقت طويل جدًا، وأن العالم يمضى قدمًا».


فى نهاية مذكراته كان يشعر أنه يتحرك فى اتجاه الضوء أخيرًا، وأن معركته كانت تقترب من نهايتها « فى النهاية كان من كان، راوى حكايات، صانع أشكال، مبتكر أشياء لم توجد قط، سيكون من الحكمة الانسحاب من عالم الجدل والسفسطة وإعادة تكريس نفسه لما يحب، الفن الذى امتلك قلبه وعقله وروحه منذ أن كان شابًا، وأن يعيش عالم كان يا ما كان، وأن يقوم برحلة إلى الحقيقة مبحرًا فى بحر الإيمان».


فى سبتمبر 2021 تزوج رشدى من الشاعرة والروائية راشيل إليزا جريفيث، التى التقى بها قبل ست سنوات فى ملتقى أدبي. كان زواجه الخامس، وأمضوا الوباء معًا بشكل منتج. بحلول يوليو الماضى كان رشدى قد أجرى تصحيحاته النهائية على رواية جديدة بعنوان « مدينة النصر». إحدى شرارات الرواية رحلة قبل عقود إلى بلدة هامبى فى جنوب الهند، موقع أنقاض إمبراطورية فيجاياناجارا فى العصور الوسطى. مدبنة النصر هى ملحة سنسكريتية مستعادة من العصور الوسطى، هى قصة فتاة سغيرة تدعى بامبا كابانا، والتي- بعد أن شهدت وفاة والدتها - تكتسب قوى إلهية، وتستحضر إلى الوجود مدينة مجيدة تسمى بيسناجا، حيث تقاوم النساء الحكم الأبوى ويسود التسامح الدينى لفترة من الوقت. تعتمد الرواية على قراءات رشدى فى الأساطير الهندوسية وتاريخ جنوب آسيا. 


ظهرت بامبا كابانا فجأة فى رأس رشدي- على حد قوله- وأعطته قصته وإحساسه بالاتجاه. كانت متعته فى كتابة الرواية هى بناء العالم ، وفى الوقت نفسه، الكتابة عن شخصية تبنى هذا العالم. «أنا أفعل ذلك، لكنها أيضًا تفعل ذلك، المتعة معدية» فى النهاية مع خراب المدينة العظيمة، تؤكد أن ما تبقى ليس الراوية بل كلماتها:
أنا بامبا كابانا كاتبة هذا الكتاب
لقد عشت لأرى إمبراطورية تزدهر وتسقط.
كيف يتم تذكرهم الآن، هؤلاء الملوك، هؤلاء الملكات؟
إنهم موجودون الآن فقط بالكلمات.
أنا نفسى لا شيء الآن. كل ما تبقى هو مدينة الكلمات هذه.
الكلمات هى المنتصر الوحيد.
أكمل رشدى أيضًا مسرحية عن هيلين طروادة، كما كان يتلاعب بفكرة لرواية أخرى يعيد فيها لقراءة روايات توماس مان «الجبل السحري» و«القلعة» لفرانز كافكا، وهى روايات تنشر لغة طبيعية لاستحضار عوالم غريبة ومحكمة الغلق، مصحة بجبال الآلب، بيروقراطية إقليمية نائية، فكر رشدى فى استخدام نهج مماثل لإنشاء جامعة خيالية غريبة كإعداد له. بدأ فى كتابة الملاحظات، فى غضون ذلك، كان يتطلع إلى صيف هادئ، وفى فصل الشتاء جولة دعائية للترويج لـ«مدينة النصر» .
فى ١١ أغسطس وصل رشدى للمشارطة فى الحوار بمعهد شاوتاوكوا الواقع فى عقار رائع يطل على بحيرة فى جنوب غرب نيويورك. على مر السنوات عانى رشدى من الكوابيس من حين لآخر، وقبل ليلتين من الرحلة كان يحلم بشخص ما «مثل مصارع» يهاجمه بأداة حادة، لكن لم يكن هذا ليبقيه فى المنزل. كان شاوتاوكوا- كما وصفه أحد الرعاة- المكان الأكثر أمانًا على وجه الأرض.


وافق رشدى على الظهور على المنصة مع صديقه هنرى ريس. قبل ثمانية عشر عامًا ساعد رشدى ريس فى جمع الأموال لإنشاء برنامج «مدينة اللجوء»، وهو برنامج فى بيتسبرج يدعم الكتاب الذين أجبروا على المنفى. كان حشد أكثر من ألف شخص مجتمعين لمشاهدة المحاضرة. كانت الخطة نقاش التهجين الثقافى للخيال فى الأدب المعاصر، والحديث عن مدينة اللجوء ثم فتح باب الأسئلة. الساعة 10:45 صباحًا أخذ رشدى وريس مكانهما على المنصة. صعد سونى تون إيمي، الشاعر ومدير برنامج الشئون الأدبية فى شاوتاوكوا، لتقديمهما. فى الساعة 10:47 كان هناك ضجة، ركض شاب فى الممر وصعد إلى المسرح، كان يرتدى ملابس سوداء ويحمل سكينًا.


نشأ رشدى فى بومباى فى فيللا على جانب التل مطلة على بحر العرب. كانت الأسرة مسلمة علمانية. كانوا أثرياء وإن صاروا أقل ثراءً بمرور الوقت. كان والد سلمان، أنيس أحمد رشدي، صانع نسيج، ووفقًا لابنه كان لديه فطنة تجارية مثل طفل يبلغ أربع سنوات. لكن على الرغم من كل عيوبه قرأ لابنه من حكايات العجائب العظيمة فى الشرق مثل ألف ليلة وليلة، وخرافات الحيوانات السنسكريتية فى البانشاتانترا، ومآثر حمزة عم النبى محمد. أصبح سلمان مهووسًأ بالقصص. أمضى ساعات لا تحصى فى المكتبة المحلية، التهم الملحمتين السنسكريتين، رامايانا وماهابهارتا، وأساطير اليونان والرومان. 


لم يكن هناك شيء مقدس بالنسبة للشاب رشدي، ولا حتى القصص ذات الأصول الدينية، ولكن على مستوى ما كان يصدقها جميعًا. كان مفتونًا بشكل خاص بتقاليد سرد القصص المتعددة الآلهة التى تتصرف فيها الآلهة بشكل سيئ وغريب ومضحك. فتنته حكاية هندوسية، سامودرا مانثان، حيث تقوم الآلهة والشياطين بتحريك درب التبانة حتى تطلق النجوم أمريتا «رحيق الخلود». كان ينظر إلى سماء الليل ويتخيل الرحيق يسقط نحوه. قال لنفسه «ربما إذا فتحت فمى فقد تسقط قطرة وبعدها سأكون خالدًا».


فى وقت لاحق تعلم رشدى من الحكايات الشعبية الشفهية، فى رحلة إلى ولاية كيرالا فى جنوب الهند، استمع إلى رواة القصص المحترفين وهم يغزلون الحكايات فى تجمعات فى الهواء الطلق، حيث دفع الكثيرون بضع روبيات وجلسوا على الأرض يستمعون لساعات ما أثار اهتمامه هو أسلوب هؤلاء السحرة: ملتوي- استطرادي- ارتجالي، كأن لديهم ثلاث أو أربع كرات سردية يتلاعبون بها فى الهواء. هذا أيضًا غذى خياله ومنحه الإحساس بإمكانيات الرواية.


كطالب جامعى درس رشدى التاريخ، مع اهتمام خاص بتاريخ الهند والولايات المتحدة والإسلام. قرأ عن مايسمى بـ «الآيات الشيطانية» فى بعض كتب التراث ، وأثارت القصة العديد من التساؤلات لدى سلمان رشدى.


بعد تخرجه من كامبريدج، انتقل رشدى إلى لندن وبدأ العمل ككاتب. كتب روايات وقصصًا. كانت «جريموس» أول رواية منشورة لرشدى عام 1975 خيال علمى مستوحى من قصيدة صوفية من القرن الثانى عشر تسمى « مؤتمر الطيور». اجتذبت عددًا قليلًا من المعجبين وحظت مراجعات فاترة ومبيعات تافهة.


ذهب رشدى إلى الهند فى رحلة طويلة لإعادة الانغماس فى شبه القارة الهندية. أحيت الرحلة شيئًا فيه، «عاد العالم إلى الفيضان» فى بومباى حيث اللغة الإنجليزية الساخنة التى كان يبحث عنها. فى عام 1981 نشر رشدى «أطفال منتصف الليل» وهو فى الثالثة والثلاثين من عمره. ملحمة وطنية عن بومباى وصعود الهند ما بعد الاستعمار بافتتاحية رائعة تعلن عن صوت فريد:


ولدت فى مدينة بومباي. كان ياما كان. لا.. هذا لا ينفع، لا مفر من التاريخ: لقد ولدت فى دار رعاية الدكتور نارليكار فى 15 أغسطس 1947. والوقت؟ الوقت مهم أيضًا. حسنًا إذن: فى الليل. لا.. من المهم أن تكون أكثر دقة. مع دقة منتصف الليل. فى واقع الأمر كانت عقارب الساعة تتعانق فى تحية محترمة عندما جئت. أوه.. انطقها.. انطقها: فى اللحظة ذاتها التى نالت فيها الهند الاستقلال ألقت بى أمى إلى العالم. كانت ثمة شهقات، وخارج النافذة الألعاب النارية والحشود. أنا، سليم سيناء، الذى أطلق عليه لاحقًا اسم الأنف الخرطومى ومبقع الوجه والأصلع والمتعجرف وبوذا وحتى فلقة القمر، أصبحت متورطًا بشدة فى القدر.

«أطفال منتصف الليل» هى رواية الكثير من السحر والأساطير. يعلم سليم أن ألف طفل آخر ولدوا فى نفس لحظة ميلاده، وأن هؤلاء الألف وواحد رواة قصص يشكلون شهرزاد شبه قارية شاسعة. يرتبط سليم بتوارد عقلى مع نشاز أمة ما بعد الاستعمار المتنوعة بلا حدود، بكل تصدعاتها وصراعاتها. يخبرنا: « كنت جهاز استقبال راديو، يمكننى خفض مستوى الصوت أو رفعه. يمكننى اختيار أصوات أفراد بعينها. يمكننى حتى بقليل من الإرادة إغلاق أذنى المكتشفة حديثًا».


سرعان ما تم تقدير الرواية أنها كلاسيكية. كتب جون ليونارد عنها فى التايمز: «لدينا ملحمة فى أحضاننا، نستطيع مقارنتها بالطبل الصفيح لجونتر جراس ومائة عام من العزلة لماركيز». فازت «أطفال منتصف الليل» بجائزة بوكر عام 1981، وبوكر أو بوكر- الأفضل على الإطلاق- بعدها بسنوات. واحدة من المراجعات القليلة المتوسطة التى تلقاها رشدى كانت من والده. كانت قراءته للرواية، فى أحسن الأحوال، رافضة. لم يكن ممكنًا أن يسعد بتصوير والد بطل الرواية، الذى كان يعانى مشكلة فى الشرب. قال لرشدى بعد سنوات بينما كان يحتضر: « كنت غاضبًا لأن كل كلمة كتبتها صحيحة».


«أطفال منتصف الليل» وخليفتها المتهورة بنفس القدر «العار»، التى تدور أحداثها فى باكستان «تقريبًا»، تمكنا من إثارة غضب قادة الهند وباكستان. رفعت أنديرا غاندى دعوى قضائية ضد رشدى وناشره جوناثان كيب بتهمة التشهير. تم حظر «العار» فى باكستان حيث محمد ضياء الحق.


كان رشدى يتصارع مع مخطوطة «الآيات شيطانية». لم يكن السرد أقل حيوية وهلوسة من «أطفال منتصف الليل» أو «العار» لكن أحداث الرواية تدور فى لندن. يقول عنها: «كانت تلك لحظة فى حياتى بإمكانى فيها كتابة نسخة من «أطفال منتصف الليل» كل عدة سنوات. كان سيباع كما تعلم، لكننى أريد أن أجد شيئًا لم أفعله من قبل لأفعله».

نشرت «الآيات الشيطانية» فى سبتمبر 1988. كان رشدى يعلم أنه مثلما أغضب أنديرا غاندى والجنرال ضياء الحق، فإنه قد يسيء إلى بعض رجال الدين المسلمين بمعالجته للتاريخ الإسلامى والمجازات الدينية. لايصور النبى محمد بصفة الكمال ولكنه جاد وشجاع فى مواجهة الاضطهاد. بالكاد يهيمن الدين على الرواية، يتعلق الأمر إلى حد كبير بالهوية فى ظل الهجرات بالعصر الحديث. فكر رشدى فى «الآيات الشيطانية» على أنها «أغنية حب لذواتنا الهجينة». كانت رواية اجتماعية، ورواية للآسيويين البريطانيين، ورواية خيالية تعيد سرد أحداث مهمة فى الإسلام.


قبل الانتخابات الوطنية فى الهند حظرت حكومة رئيس الوزراء راجيف غاندى « الآيات الشيطانية». لم يتضح على الفور ما إذا كان الاحتجاج الغاضب سينتشر فى المملكة المتحدة. وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة للبوكر، حتى أنها روجعت فى الصحافة الإيرانية. محاولات السلطة الدينية فى المملكة العربية السعودية لإثارة الغضب بشأن الكتاب وحظره فى جميع أنحاء العالم حققت نجاحًا محدودًا فى البداية، حتى فى الدول العربية، ولكن سرعان ما انهار السد. كانت هناك أعمال شغب مميتة فى كشمير وإسلام أباد. المسيرات وحرق الكتب فى بولتون وبرادفورد ولندن وأولدهام. تهديدات بتفجير دار النشر فايكنج بنجوين فى نيويورك.


فى طهران كان آية الله الخمينى فى أزمة يترنح تحت وطأتها ، فبعد ثمانى سنوات من الحرب مع العراق وسقوط مئات الآلاف من الضحايا، اضطر إلى الشرب من «الكأس المسموم» على حد تعبيره، وقبول وقف إطلاق النار مع صدام حسين. انخفضت شعبية النظام الثوري. اعترف ابن الخمينى بأن والده لم يقرأ قط «الآيات الشيطانية»، لكن الملالى من حوله رأوها فرصة لتأكيد سلطته فى الداخل وتوسيعها فى الخارج، حتى أبعد من حدود سلطة أتباعه الشيعة.

أصدر الخمينى الفتوى التى دعت إلى إعدام رشدي. وكما كتب كنعان مالك فى كتابه «من الفتوى إلى الجهاد» فإن الفتوى كانت «علامة ضعف أكثر منها علامة قوة. سياسية أكثر منها دينية». اتصل مراسل من بى بى سى برشدى فى منزله وقال: «ما هو شعورك عندما تعرف أن الخمينى قد حكم عليك فى تلك اللحظة بالإعدام ؟»


فكر رشدي «أنا رجل ميت، مسألة يوم أو يومين». لبقية حياته لن يكون مجرد راوى قصص، سيكون قصة، نزاع، أزمة. بعد التحدث مع عدد قليل من الصحفيين ذهب رشدى إلى تأبين صديقه المقرب «بروس شاتوين». كان العديد من أصدقائه هناك. أعرب البعض عن قلقه، وحاول آخرون المواساة بعقلانية، أحدهم قال: «الأسبوع المقبل سنعود إلى هنا من أجلك!»


خلال العقد التالى عاش رشدى تحت الأرض، تحت حراسة ضباط المهام الخاصة فى بوليس لندن. كانت العناوين الرئيسية والتهديدات لا تتوقف. اعتبر البعض الفتوى مشكلة جلبها رشدى لنفسه. أوضح الأمير تشارلز عدم تعاطفه فى حفل عشاء قائلًا لصديق «ماذا تتوقع إذا أهنت أعمق قناعات الناس؟». أمر جون لو كاريه رشدى بسحب كتابه «حتى يأتى وقت أكثر هدوءًا». وصف رولد دال رشدى أنه «انتهازى خطير يعرف بالضبط ما يفعله ولا يمكنه ادعاء غير ذلك». قال المغنى ومؤلف الأغانى كات ستيفنز الذى اعتنق الإسلام «القرآن يأمر بأن كل من يسب النبى يجب أن يموت». أعرب كل من جيمى كارتر، ووزير الخارجية البريطاني، ورئيس أسقف كانتربرى عن رفضهم.


كان المرعب أنه بسبب مرسوم الخمينى عانى الكثير من الناس فى حوادث منفصلة: طعن «هيتوشى إيجاراشي» مترجم الرواية إلى اليابانية، و«إيتورى كابريولو» مترجمها إلى الإيطالية. إصابة إيجارشى كانت قاتلة. الناشر النرويجى للكتاب «ويليام نيجارد» كان محظوظًا لنجاته من إطلاق النار عليه عدة مرات. ألقيت قنابل حارقة على المكتبات من لندن إلى بيركلي، وفى الوقت نفسه، رفضت الأكاديمية السويدية إصدار بيان لدعم رشدي، كان هذا صمتًا لم ينكسر لعقود.


شوه الكثيرون سمعة الكتاب وهم لم يعرفوه إلا من خلال الكاريكاتير والنقد اللاذع. الروائى الذى شرع فى الكتابة عن تعقيدات جنوب آسيا فى لندن يوصف الآن، فى مساجد المدينة وحول العالم بأنه شخصية شريرة خائنة. بدافع الرغبة فى تهدئة الفيضان التقى رشدى بمجموعة من القادة المسلمين المحليين ووقع إعلانًا يؤكد إيمانه بالإسلام، وهو ما كان صحيحًا نوعًا ما برغم عدم إيمانه بالماورائيات وأرثوذكسية العقيدة، إلا أنه كان يحترم ثقافة الإسلام وحضارته. أعلن أنه لا يوافق على أى تصريح أدلت به أى شخصية فى الرواية ضد الإسلام أو النبى محمد، وأنه سيعلق نشر الطبعة ذات الغلاف الورقى فى حال ضمان عدم حدوث إساءة.

توفى الخمينى بحلول هذا الوقت، ولم يختلف خليفته على خامنئي، وكان رده أن الفتوى ستظل سارية حتى لو «تاب رشدى وصار الرجل الأكثر تقوى فى عصره». ونصحت صحيفة فى طهران رشدى أن يستعد للموت. شعر رشدى بالإهانة، وأنه كان من الخطأ أن يحاول استرضاء أولئك الذين يريدون رأسه، لن يفعلها مرة أخرى، ذكر ذلك فى « جوزيف أنطون»:


كان بحاجة إلى فهم أن هناك أشخاصًا لن يحبوه أبدًا. بغض النظر عن مدى حرصه على شرح عمله أو توضيح نواياه. العقل غير المنطقى مدفوعًا بمنطلقات الإيمان الخالية من الشك لا يمكن إقناعه بالعقل. أولئك الذين شيطنوه لن يقولوا أبدًا: «أوه انظر إنه ليس شيطانًا بعد كل شيء» هو بحاجة الآن أن يكون واضحًا بشأن ما يقاتل من أجله: حرية التعبير، وحرية الخيال، والتحرر من الخوف، والفن القديم الجميل الذى كان له شرف ممارسته. أيضًا الشك، عدم الاحترام، الشك، الهجاء، الكوميديا. لن بتوانى مرة أخرى عن الدفاع عن هذه الأشياء.
فى ذروة الفتوى شرع رشدى فى الوفاء بوعد لابنه «ظفار» وإكمال كتاب يشمل الحكايات التى رواها للصبى أثناء استحمامه, فى عام 1990 أصدر هذا الكتاب «هارون وبحر الحكايات». هارون هو الاسم الأوسط لظفار. الحكاية عن صبى عمره اثنا عشر عامًا يحاول استعادة موهبة والده فى سرد القصص. رشيد – شاه بلاه- راوى القصص تتركه زوجته فيفقد موهبته. عندما يفتح فمه يقول فقط أرك أرك أرك. خصمه هو سيد الكهنة، طاغية من أرض شب الذى يعارض القصص والأوهام والأحلام، ويفرض قوانين الصمت على رعاياه، بعض أتباعه ينفذون ذلك بتطرف فيخيطون شفاههم. فى النهاية الابن يكون المنقذ وتنتصر القصص على الطغيان. «والدى بالتأكيد لم يستسلم ، لا يمكن أبدًا وقف معين قصصه» يختتم هارون الحكاية. وهكذا وسط كابوسه يكتب رشدى أحد أكثر كتبه إمتاعًا ورمزًا لضرورة الفن ومرونته.
رقد رشدى فى المستشفى ستة أسابيع، ظل بعد خروجه بشهر فى المنزل عدا زيارة الطبيب. فقط قبيل الكريسماس استطعت ترتيب موعد معه فى مكتب وكيله الأدبي. لم يكن التقى وكيله أو موظفى مكتبه منذ أشهر. أذهلنى ما طرأ عليه من تغير، فقد أربعين باوند من وزنه، عدسة نظارته اليمنى سوداء بعد أن فقد عينه، وجرح كبير يغطى جانب وجهه الأيمن، كان يتحدث بطلاقة كعادته لكن شفته السفلى معوجة. قال إنه معنوياته ليست سيئة نظرًا لما مر به، يكتب ببطء شديد لإصابة فى يده. تهاجمه الكوابيس، ليس عن الحادث ، لكن عن الخوف ذاته.
يقول: «لا أحب لعب دور الضحية، لا أريد لأحد أن يشفق علىّ عندما يعلم أن أحدهم طعننى بسكين» يضحك قائلًا: «طبعًا هو شيء مؤلم لكن أريد للناس أن يقرأوا كتابى ليفكروا. أريد أن تأسرهم الحكاية، أن تحملهم بعيدًا. أتذكر أنه منذ أعوام عديدة بعضهم أرهقهم إصرارى على وجودي، لم يعجبهم هذا، كان يجب أن أموت، الآن تقريبًا أنا ميت، والجميع صار يحبني. هذا كان خطأى حينها، لا أننى حى ولكننى أحيا بصورة جيدة. غلطة سيئة. هاك خمس عشرة طعنة، هذا أفضل».
«لقد حاولت جاهدًا خلال السنوات الماضية تجنب تبادل الاتهامات والمرارة، إحدى الطرق التى تعاملت بها مع الأمر برمته هى التطلع إلى الأمام. ما سيحدث غدًا أهم مما حدث بالأمس» وأوضح أن نشر «مدينة النصر» هو محور تركيزه. هو مهتم بمعرفة كيف سيتم استقبال الرواية. هل سيتم النظر إليها من خلال حادث الطعن؟ وأشار إلى موجة التعاطف التى جاءت مع «آيات شيطانية»، وكيف ارتفعت المبيعات مع الفتوى. حدث ذلك مرة أخرى بعد طعنه حتى الموت تقريبًا فى الصيف الماضي. يفكر كيف يمكن قراءة روايته الجديدة كقصة رمزية عن إساءة استخدام السلطة ولعنة الطائفية، ولكن مرة أخرى يعلم رشدى أن روايته ستضطر إلى التنافس على جذب الانتباه مع قبح الحياة الحقيقية. يأمل أن يتغير الأمر هذه المرة. «طالما اعتقدت أن كتبى أكثر أهمية من حياتي، لسوء الحظ يبدو أن العالم لا يوافقني».
لن تكون هناك جولة لرواية «مدينة النصر» لكنه يأمل فى الذهاب إلى لندن لافتتاح مسرحية «هيلين» عن هيلين طروادة. يقول: «أنا لا أفكر فى المدى البعيد، أفكر خطوة بخطوة، ليس لدى شيء لأفعله إلا هذا، مادام أن هناك قصة تستحق إعطاء وقتى لها فسأفعل ذلك. عندما يكون لدى كتاب فى رأسى أشعر كأن بقية العالم فى شكله الصحيح». فى الوقت الحالى وضع جانبًا فكرة رواية مستوحاة من كافكا ومان. ويريد تكملة «جوزيف أنطون». فى البداية كان غاضبًا من الفكرة لأنه شعر وكأنها فرضت عليه. «تطلب منى الهجوم أن أكتب عن الهجوم» فى الأسابيع الأخيرة ترسخت الفكرة، تميل كتب رشدى إلى أن تكون إنتاجات كبيرة الحجم. لكن من أجل الكتابة عن حادث الهجوم فى شاوتاوكوا، والذى وقع فى ثوان قليلة، فإنه يتصور شيئًا أكثر مجهرية، وسيكون الصوت مختلفًا. يبدو أنه سيكون صوت الشخص الثالث البعيد الذى استخدمه فى «جوزيف أنطون» لن يصلح للمهمة. يقول رشدي: «هذا لا يبدو لى من منظور الشخص الثالث، أعتقد أنه عندما يغرس شخص ما سكينًا فيك، فهذه قصة من منظور الشخص الأول، هذه قصتى أنا».