نتاج تلاقح حضاري لأكثر من ألف عام| التصوير الإسلامي.. إلهام عبر الزمن

سقراط مع تلاميذه فى منمنمة إسلامية
سقراط مع تلاميذه فى منمنمة إسلامية

■ كتب: رشيد غمري

التراث العريق لفنون التصوير الإسلامي، هو نتاج تلاقح حضاري لأكثر من ألف عام. وما وصلنا منه هو روائع تقتنيها متاحف الشرق والغرب. ومن اللافت أن يعاد اكتشافه جماليا ومعرفيا فى السنوات الأخيرة، من خلال معارض ودراسات في مؤسسات غربية، بينما يبدو غريبا عن الذائقة فى أغلب بلاده، متواريا خلف فاترينات العرض. ومن المفارقات أن يكون مصدر إلهام لمجموعة من أهم فناني العالم، بينما ينقطع فى موطنه، بلا امتدادات تذكر فى واقعنا لإبداعي.

◄ متاحف العالم تعيد دراسة تراث المنمنمات

◄ ألهم مبدعي الغرب وتجاهله الشرق

◄ «الواسطى» شيخ الرسامين العرب و«راسم» آخر النقاشين

◄ دافنشى وبيكاسو وسيزان اعترفوا بفضله و«بلارين» أعاده للحياة

■ منمنمة إسلامية

ضمن فعاليات متحف برلين للفن الإسلامي، أقيمت قبل فترة فعالية حول الآلات الموسيقية فى المنمنمات الإسلامية، تضمنت معرضا للمنمنمات، وندوات وورش عمل، وحفلات استماع موسيقية، وعرض لنماذج الآلات، ما ألقى الضوء على جانب تفصيلى يتعلق بفن المنمنمة، وما تحمله من قيم جمالية ومعرفية. كما قام المتحف البريطانى على مدار السنوات الماضية بعمل مجموعة من الأنشطة للتعريف بالفن الإسلامي.

وفى عام 2019 أقام المتحف فعالية كبيرة تحت عنوان «مستلهم من الشرق» حول تأثير الفن الإسلامى فى الفن الغربي، خصوصا فى الفترة من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر. وهو ما كشف مدى الاحترام والإعجاب الذى حظيت به الفنون الإسلامية، وعلى رأسها التصوير خلال عصر النهضة الأوروبي، وما بعده.

وضم المعرض نماذج من الفن الإسلامي إلى جانب لوحات للمستشرقين. وهى نماذج من أنشطة عديدة تقيمها متاحف الفن الإسلامى وأقسامه فى الغرب من اللوفر إلى أوكسفورد ومتروبوليتان وغيرها، وكلها تعيد اكتشاف تراث الصورة الإسلامية ورقي فلسفتها الروحية وجمالياتها، وقدرتها على الإلهام. ما يدعونا لإعادة التساؤل عن أسباب توقف هذا المسار الإبداعى فى الشرق العربى والإسلامي، ما دام قادرا على إثارة الذائقة، وإثراء الجمالية البصرية على هذا النحو.

■ من معرض تحية إلى الواسطى للفنان أحمد عبد الكريم

◄ مزيج حضاري
لم تخل الفنون على مر التاريخ من التزاوج الحضاري، لكن كان نشوء الفن الإسلامى تجربة شديدة الخصوصية فى هذا الصدد، حيث تكون بسرعة من مزيج تراث حضارات كبيرة، مارس عليها درجات من الانتقائية، تحولت لمسار إبداعى مستقل. ولم يتوقف عن التلاقح مجددا مع حضارات أخرى مواصلا التطور. وبالنظر إلى واجهة «قصر المشتى» فى متحف برلين للفن الإسلامي، كمثال ينتمى لمرحلة التكوين، سنجد أشكالا ونقوشا بارزة نفذت بأساليب بيزنطية، وقبطية مصرية، وساسانية، وتضم أشكال حيوانات، إلى جانب زخارف نباتية، وهندسية. وهو يرجع إلى زمن الوليد بن عبدالملك فى صحراء الأردن، وعمل فيه فنانون من عدة بلدان، لم يكن من الممكن أن يجتمعوا إلا فى مثل هذا الظرف التاريخي. وبالطبع لم تخل الجزيرة العربية من فنون التصوير قبل الإسلام، لكن وفق ما نعرف حتى الآن، كان على الأطراف الأكثر تحضراً، خصوصاً فى الجنوب اليمني، والشمال النبطي، والمناطق الواقعة فى تخوم الحضارتين الساسانية والبيزنطية. لذلك غاب المكون العربى عند نشأة التصوير فى تلك الفترة، عدا الحروف خصوصا الخط الكوفى الذى سيصبح أحد المكونات الجمالية الملهمة لهذا الفن. ورغم ذلك فقد اكتسب الفن الناشئ سمات خاصة ومميزة.

◄ اقرأ أيضًا | أستاذ آثار: 360 فدانا كانت مساحة القاهرة في البداية

■ من رسوم الواسطى لمقامات الحريرى

◄ كنوز منمنمة
المنمنمة أحد أهم تجليات فن التصوير الإسلامي. وتوجد نماذج مبكرة لها منذ العصر الأموي. بدأت مع الكتب العلمية المترجمة، وامتدت إلى كتب الأدب، وكانت الطفرة الكبيرة فى العصر العباسي. وهى رسوم صغيرة الحجم، تضمنتها الكتب، كنوع من الشرح والتوضيح، ولاحقا أنتجت مستقلة للمتعة الجمالية. وهى أيضا نشأت ضمن حضارات سابقة على الإسلام، خصوصا البيزنطية والساسانية. وكانت بداياتها فى العالم الإسلامي حذرة فيما يتعلق بتصوير الإنسان والحيوان إلا للضرورة، لقرب العهد من الوثنية. لكن سرعان ما تغير الوضع، وانطلقت المنمنمة، كما تلاقحت مجددا مع الفنين الهندي والصيني بعد الغزو المغولي. ولاحقا تأثرت بالفن الغربى منذ القرن السابع عشر، خلال الفصل الأخير من حياة هذا الفن.

وتعتبر المنمنمة دليلا تاريخيا على مكانة فن التصوير فى العالم الإسلامي. ولا يوجد موضوع تقريبا لم تعالجه. وتضمنت بعض المنمنمات رسوما تتسم بالجرأة. وربما يرجع ذلك إلى كون بعضها قد رسم للاقتناء الشخصي، ما منحها تحررا كبيرا. فضلا عن المناخ المنفتح فى بعض البلدان خلال بعض الفترات. وصار من الرائج بيع مجموعات منها ضمن ألبوم يسمى «مرقعة»، حيث اتسعت دائرة اقتناؤها.

◄ شيخ الرسامين العرب
رغم النشأة الخارجية لفن المنمنمة، فقد استطاع الفنان العربي إتقانه. وبلغ الفنان يحيى بن محمود الواسطى القمة، وأشهر أعماله رسومه لـ«مقامات الحريري». والتى منحته عن جدارة لقب شيخ الرسامين العرب. وقد عاش وأبدع فى القرن الثالث عشر بالعراق، وكان أول من وقع أعماله باسمه. وتتميز رسومه بالتعبيرية والصدق والدقة والبراعة فى استخدام الألوان، كما أظهر البيئة العربية، وملابسها، واهتم بتفاصيل التعبير بالجسد والأيدى وحتى الأصابع. ولذلك تسابق الكثيرون لاقتناء أعماله. والمعروف من مقامات الحريرى الآن 12 نسخة، أغلبها فى الغرب.

ومنها ثلاث نسخ فى المتحف البريطانى بلندن، وواحدة فى معهد الدراسات الشرقية فى بطرسبورج، وأخرى فى المكتبة الوطنية بفيينا، وثلاثة فى المكتبة الوطنية فى باريس، وواحدة فى أكسفورد. وعموما تنوعت مراكز إنتاج المنمنمات العربية وتنوعت التأثيرات بين بغداد والموصل ودمشق والقاهرة التى مثلت فى العصر المملوكى آخر محاولات إحياء ذلك الفن داخل العالم العربي، وإن كان برسوم مختصرة بعض الشيء. لينتقل الفن إلى تركيا، ويعيش حقبته الأخيرة ونهايته.

◄ إبداع وتأويلات
ظهر التصوير الجداري الإسلامى مبكرا فى عدة نماذج أشهرها فسيفساء الجامع الأموى بدمشق، وتعتبر امتدادا للفن البيزنطي، ولكنها تجنبت رسم الأشخاص. وهو أمر يمكن فهمه كتجنب لحالة الأيقونة المسيحية، خصوصا داخل مسجد.

وهى ترجع إلى عصر الوليد بن عبدالملك، وحفظت بسبب تغطيتها لأسباب مجهولة من قبل العثمانيين بطبقة كلسية، إلى أن أعيد اكتشافها فى عشرينيات القرن الماضي. وكان يعتقد سابقا أنها فقدت خلال حروب العباسيين، أو هجوم المغول. وتضم تقنيات تلوين متقدمة لقطع الموزاييك باستخدام الشرائح الذهب والفضة وعروق اللؤلؤ، وتتسم بالواقعية فى تصوير الطبيعة والأبنية. إحداها تعرف باسم «بردى» وشاع أنها تصور نهر بردى والأبنية والحدائق من حوله. لكن ياقوت الحموى والرحالة شمس الدين المقدسى قالا إنها تصور بلاد الدنيا.

وفسرها «أوليج جربار» فى كتابه «تكوين الفن الإسلامي» كتصوير للجنة التى تجرى من تحتها الأنهار. ويرى الباحث «آلان جورج» أنها تعبر عن الملكوت السماوى والأرضي والمتمثل فى الجنة وصورتها الأرضية بدمشق.

 

◄ إعجاب وتأثر
أخذ الغرب عن المسلمين الكثير خلال العصور الوسطى، فى فنون العمارة، والخط الكوفى الذى ظهر حتى فى أيقونات المسيح والسيدة العذراء. ويعرف بعضه بالكوفى الكاذب، لأنه كان مجرد حروف جميلة لا تشكل كلمة ولا معنى. ولاحقا ظهر الفن الإسلامى ضمن العديد من لوحات عصرى النهضة والباروك، وخصوصا السجاد الإسلامي، والذى تعتبر اللوحات الغربية مصدرنا الوحيد للتعرف على بعض أشكاله المندثرة. ثم كانت حركة الاستشراق خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، والتى قامت بنقل الكثير مما كان موجودا من عناصر الفنون الإسلامية. وحتى مع عصر الحداثة، وعندما كان المصورون الغربيون يبحثون عن روافد جديدة، واتجه بعضهم للبحث فى الرافد الإسلامي، ومنهم سيزان الذى ظهرت عناصر من الزخارف والعمارة الإسلامية فى بعض لوحاته بعد أن تعرف عليها فى معرض الفن المحمدى فى باريس.

والفنان الفرنسى «أوجين ديلاكروا» أعجب بما رآه من نماذجه، فزار شمال أفريقيا، وتأثر بالزخارف والرسوم هناك، وقال إنه فى كل ركن توجد لوحة جاهزة للرسم. والفنان «جون فريدريك» انغمس فيه حتى كتب عنه أحد النقاد قائلا: ألن تخرج من مصر بعد الآن؟ كذلك النمساوى «لودفيج دويتش» وبالطبع «هنرى ماتيس» رائد الوحشية، والذى ظهرت الزخارف الإسلامية فى لوحاته، مع مفردات من الفن الإسلامي، واقترب فى بعضها من منظور المنمنمة.

وحتى «بابلو بيكاسو» فله تصريح حول محاولاته فى تجريد الخطوط، قال فيه إن أبعد نقطة أراد الوصول إليها وجد أن الخط الإسلامى قد سبقه إليها. كما تأثر الفنان التجريدى «فاسيلى كاندينسي» بالفن الإسلامى الذى اطلع عليه خلال رحلة قام بها إلى شمال أفريقيا مطلع القرن العشرين. أما الفنان الإيطالى المعاصر «لويجى بلارين» فهو حالة خاصة فى إعجابه بالفن الإسلامى، والذى شاهد بعضا من عناصره فى مدينة البندقية حيث نشأ، من ثم انطلق فى دراسته، وزار العديد من البلدان الإسلامية، وصار يرسم موضوعات ومعالجات مستوحاة منه. وحتى «ليوناردو دافنشي» أحد أعمدة عصر النهضة اهتم به وبعناصره الجمالية والزخرفية.

◄ الفصل الأخير
في رواية «اسمى أحمر» للروائي التركي الحاصل على نوبل «أورهان باموق»، يجرى استعراض الحقبة الأخيرة من حياة فن المنمنمة، على يد آخر فنانيها المخلصين فى لحظة المواجهة مع الفن الغربي القادم بقوة.

وحيث بدا الأمر، كأنه إعلان وفاة الفن الإسلامي، وهزيمة الرؤية الروحية للمنمنمة أمام النظرة الواقعية المادية للوحة الغربية، ليقوم الفنان بوضع إبرة فى عينه ويغلقها إلى الأبد على آخر صور الجمال الإسلامى متمثلا فى أعمال «بهزاد».

وبالنظر لواقع هذا الفن الآن، سنجد أنه انحسر إلا فى تجارب نادرة. وربما كان الفنان الجزائرى محمد راسم واحدا من آخر من رسموا فن المنمنمة ببراعة فى العالم العربى خلال القرن العشرين. وفى مصر هناك تجارب محدودة لاستلهام ذلك التراث، ومنها ما قام به الفنان محمد عبلة فى معرضه «طريق الحرير» عام 2016. كذلك قام الفنان المصري أحمد عبدالكريم فى العام نفسه بإعادة تقديم منمنمات مقامات الحريرى في معرضه «تحية إلى الواسطي».