طارق الطاهر يكتب :ذِكر ما جرى

طارق الطاهر يكتب :ذِكر ما جرى
طارق الطاهر يكتب :ذِكر ما جرى

شغل الكاتب الصحفى الكبير الراحل إبراهيم سعدة، الوسط الثقافى بجملة جاءت فى مقاله الافتتاحى للعدد الأول من جريدة «أخبار النجوم» 1992، أعلن فيها عن نية المؤسسة فى استكمال «صحفها المتخصصة»، بأن يكون الوليد الجديد «أخبار الأدب».
اندهش كثيرون لهذا الأمر الذى لا يتناسب- من وجهة نظرهم- مع توجه المؤسسة نحو الإصدارات الأكثر مبيعًا، ومن المعروف أن للثقافة جمهورها، لكن ليس بكثافة جماهير الرياضة أو الفن أو الحوادث، لذا شكك البعض فى إمكانية تحويل الفكرة إلى واقع.


 

بسرعة شديدة وبذكاء حسَم إبراهيم سعدة الأمر، عندما قرر أن يكون الكاتب الصحفى الكبير الراحل جمال الغيطانى رئيسًا للتحرير، بناء على اختيار الكاتب الكبير الراحل مصطفى أمين، فقد أخبره «سعدة» بالأسماء التى تدور فى ذهنه، فانحاز للغيطانى، تقديرًا لمجموعة من القيم التى يحملها صاحب «الزينى بركات».


وفور التكليف الرسمى للغيطانى، قرر أن يكون الفريق المؤسس لهذه الجريدة، هم الزملاء فى الصفحة الأدبية بجريدة الأخبار التى كان يشرف عليها، وانضم إليهم من خارجها: عزت القمحاوى، محمود الوردانى، هالة العيسوى، عبلة الروينى، وكاتب هذه السطور، الذى كان يتلمس خطواته الأولى فى عالم الصحافة. وتولى منصب مدير التحرير الكاتب الكبير والمخرج الفنى الذى تخرج على يديه أجيال متعاقبة فى مهنة «سكرتارية التحرير» سعيد إسماعيل، وعاونه الزميلان سيد عبدالخالق، والراحلة سهير سعيد إسماعيل.


بدأ رئيس التحرير فى الاستماع لاقتراحات الزملاء والأقسام التى سيتولون إدارتها، فيقرر أن يتولى الزملاء: سامية سعيد باب «فى رحاب الجامعة»، بركسام رمضان «يا ليل يا عين»، عمرو الديب «البريد»، حنفى المحلاوى «الكتب»، ومصطفى عبد الله «ساحة الأخبار»، على أن أعاونه فى هذا القسم، ثم توالى توزيع الأقسام والمهام، طبقًا لرؤية الغيطانى، الذى كان يمتلك رؤية واضحة لفلسفة ومهام الجريدة، باعتبارها «حدثًا» متفردًا فى الصحافة المصرية والعربية، واستطاع بحسن تأسيسه أن يجعل أمر تطويرها- بعد رحيله عنها فى يناير 2011- متوقفًا على مهارات من تولوا رئاسة تحريرها، أو بمعنى أدق من تشبعوا برؤيته، وكان من حسن حظى أننى تابعت دقيقة بدقيقة مولد «العدد التجريبى» الذى يفصله عام كامل عن العدد الأول.


الغيطانى حدد مهام هذا الإصدار وتوجهاته فى رسائل أساسية هى: الدفاع عن الذاكرة الوطنية، الدفاع عن حرية التعبير، أن تكون الجريدة منبرًا وصوتًا للأدباء والمثقفين، وأن تعطى مساحة كبيرة للفنون البصرية، وأن تحتل الترجمة نصيبًا لا بأس به، وأن تكون من اللغة الأم مباشرة، وفى أحيان قليلة ونادرة يُسمح بالترجمة من لغة وسيطة.


قد يكون ما ذكرته سابقًا هو الجزء النظرى من تجربة «أخبار الأدب»، لكن على المستوى الفعلى ماذا قدم الغيطانى وفريقه؟ الذى انضم إليه بعد الأعداد الأولى ياسر عبد الحافظ وإيهاب فتحى، وكانا فى «أخبار الحوادث»، قبل سنوات من انطلاق «أخبار الأدب».


وبلاشك أدرك صاحب «التجليات» أنه يجب ألا تنفصل «الجريدة» عن الواقع، وهو هنا لم يكن يقصد «الواقع الثقافى» فقط، بل الواقع بكل تجلياته، فخلق من «أخبار الأدب» شخصية مستقلة، تشارك بقوة فى قضايا المجتمع، وتتخذ جانبًا واضحًا لا لبس فيه، فيما يتعلق بحرية المواطن وأمنه، لذا لم نستغرب عندما قرر أن يكون العنوان الرئيسى للجريدة، عقب غرق عبارة السلام، هو «غرق فى غرق» فى إدانة واضحة لمجموعة من السياسات التى أدت لهذا الغرق، وفى هذا الإطار خضنا بإيعاز من الغيطانى، معركة كبيرة ضد انتزاع ملكية أراضى أبناء المريس بالأقصر، وتبوير 500 فدان، لصالح مشروع إنشاء مرسى لليخوت، يخدم مجموعة من رجال الأعمال، فقد قرر فى أحد الاجتماعات أن أسافر مع زميلى أسامة فاروق إلى الأقصر، لإعداد تحقيق موسع حول هذه الجريمة، وبالفعل التقينا بأهالى المريس، وجاء التحقيق بعنوان: «أهالى المريس.. بيوتنا عامرة.. فلماذا يخربونها» وتوقف – بعد ذلك – المشروع.


هذه المساحة من الحرية، جعلتنى ذات يوم أكتب تحقيقًا صحفيًا فى عام 1998 بعنوان «إلى وزير الثقافة.. آثارنا منهوبة وثقافتنا مهانة.. فلماذا لا ترحل؟»، بل سعيت من خلال دعمه، إلى أن أكتب دونما تردد، عن الكثير من مواطن سوء الإدارة فى وزارة الثقافة، ومن ذلك سلسلة الموضوعات التى كتبتها فى الفترة من 19 يوليو إلى 30 أغسطس 1998، كما لعبت الجريدة دورًا كبيرًا فى التصدى للعبث الذى كان يتم فى منح جوائز الدولة من خلال كشف طريقة عمل اللجان وكيفية التصويت والتربيطات التى كانت تحدث، وأصوات قيادات الوزارة التى كانت ترجح فوز من يرضون عنه، وكذلك دفاعنا المستميت عن الأرشيف الوطنى وما لحق به من أضرار، جعلته يتراجع من رقم 5 إلى 90 عالميًا، حسب الموضوع الذى نشرته فى 3 نوفمبر 2013.


ولعل أهم ما يميز الغيطانى هو «الثقة» التى منحها فى نفوس فريقه الصحفى، هذه الثقة التى جعلتنى أتولى رئاسة تحرير «الثقافة الجديدة» فى الفترة من 2008 إلى 2010، عندما استأذنته فكتب ردًا على خطاب د. أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك، موجهًا لرئيس مجلس إدارة أخبار اليوم للحصول على موافقته، ما أعده وسامًا على صدرى، فقد جاء نص خطابه: «السيد الدكتور المهندس محمد عهدى فضلى رئيس مجلس الإدارة تحية ومودة، بالإشارة إلى موضوع ترشيح الأستاذ طارق الطاهر رئيسًا لتحرير مجلة الثقافة الجديدة، فأننى لا أرى تعارضًا فى قيامه بهذه المهمة وعمله فى أخبار الأدب، علمًا بانه من أفضل المحررين الثقافيين على مستوى الصحافة العربية، وصاحب كفاءة عالية، مع الشكر، جمال الغيطانى 29/ 11/ 2008».


تجربة «الثقافة الجديدة» وثقة الغيطانى بى، جعلتنى عندما توليت فى عام 2014 رئاسة تحرير أخبار الأدب لم أشعر بخوف من مسئوليتها، بل شعرت بخوف حقيقى من أن «تتجمد» الجريدة، وألا أستطيع الفكاك من إرثها، دون أن أضيف إليه، ولكننى كنت أعى فلسفة «تجربة الغيطانى»، هذه الفلسفة التى تقوم على ضرورة تجديد «دماء» الجريدة على مستوى فريق العمل والمضمون، من هنا أفتخر بأن ثلاثة من الأسماء البارزة الآن ليس فقط فى الجريدة، بل فى الحياة الثقافية، انضموا إلينا فى فترة رئاستى للتحرير وهم: عائشة المراغى، إسراء النمر، وشهاب طارق، وأفتخر- أيضًا- بتجربة إصدار جريدة أخبار الأدب الشهرية بدعم من الكاتب الكبير الراحل ياسر رزق، كما حصدت الجريدة خلال رئاستى للتحرير فى الفترة من «2014 – 2020» على ما يقرب من عشر جوائز وشهادات تقدير محلية ودولية من نقابة الصحفيين المصريين وجائزة دبى للصحافة العربية (محمد شعير، حسن عبد الموجود، إسراء النمر، كاتب هذه السطور، وشهاب طارق)، واللافت للنظر فى هذه الجوائز أنها لم تكن فقط فى الصحافة الثقافية، بل فى «الإخراج الصحفى» بفوز زميلى ورفيق الرحلة إسلام الشيخ، وفى فن المقال بحصول صديقى ودفعة تعيينى إيهاب الحضرى على هذه الجائزة.
أخيراً من الصعب أن تكتب فى مساحة محددة عن «أخبار الأدب» فى ثلاثين عامًا، لكن ما يمكن قوله إنها وقفت دائمًا شامخة بفضل وعى فريقها الذى أصقلته التجارب.