«اليوم المشهود».. قصة قصيرة للكاتب بيتر يوسف

الكاتب بيتر يوسف
الكاتب بيتر يوسف

 

بعد نفس عميق وهدوء حاول أن يجاوب حسين على سؤال ابنه الصغير: ما هو المستقبل؟

يبدو سؤال ساذج، يبدو سؤال محير ولكن الحقيقة ما هو المستقبل؟

 

ابتسم حسين وهو يداعب طفله  ذو السبع سنوات على كرسي خشبي هزاز يميل للأمام وللخلف، هو الغد يا صغيري، الساعات التالية مستقبل، الدقائق المتتابعة مستقبل، الثواني التي لا نشعر بها مستقبل، تلك الإجابة لا تروق للطفل الصغير أو ربما لم يفهمها؛ فتحرك تجاه اللعبة الخشبية التي كانت أشبه بسفينة فضائية لها أجنحة من الجانبين وعليها علم بثلاث خطوط مائلة، بينا أكمل حسين في السؤال الذي اكتشف لأول مرة  أنه لم يسأل في صغره ما هو المستقبل؟ الحياة الآن مستقبل الأجيال الماضية، هل حقًا كانوا يحلمون  بذلك؟

 

يتذكر جده جيداً حينما قال له عن زمن سحيق بالنسبة له: أن العالم امتلأ بالتكنولوجيا الرهيبة  وصار كل شئ يمكن فعله بضغطة بسيطة على زرٍ ما، غير أنه اكتشاف حقيقة النقطة السوداء في الفضاء الفسيح وكان هذا حدثًا هاماً، وأن العالم يسير لاكتشاف عوالم أخرى قابلة للعيش والهجرة، كان هذا على مشارف زواج أبي وأمي،  قد بدأت الرحلات إلى كوكب المريخ بعد  إنبات مجموعة أشجار وإرسال بعض الحيوانات على الكوكب الجار، ومن هنا  توقع أن تحتل بلدنا شأناً آخر، حيث تصير زعمية وقادة لكوكب الأرض وأنها في الاتجاه والمسار الصحيح ولكن لم يعد شيئاً مثلما كان يتخيله جدي واقعياً، الكثير من التغيير طرأ على الحياة  وعلى أحلامه، أحلامه التي شابهت كل أحلامنا.

 

أحلامنا!! أين هي أحلامنا؟ وماذا يعني الحلم؟ الحلم يعني أمل والأمل يعنى رجاء، نحن انقطع رجاؤنا رويداً رويداً، لا مناص ولا مفر، الهروب أيضاً شئ غير جدي ولا قابل للتطبيق، الحياة الفضلى  والمدينة العظيمة! انتهى، انتهى كل شئ  وكلنا تحت  راية  واحدة  بثلاث خطوط مائلة، نقدّم لها التحية  صباحاً  ومساءاً، دعوات  لكي لا يصيبنا الدور ونقع تحت أسافل القاع.

 

القاع الذي هبط علينا من كل  اتجاة، لم أكن أدرك في لحظة أنني قد أري بعيني شئ أشبه  بالطوفان، ذلك الحدث الذي غيّر مسار البشرية  وصارت من الحين والآخر  تنتظر العقاب الرباني على فعلتها وشرورها وربما الآن نحن ننتظر الطوفان الأخير لإنهاء ذلك المجتمع والعالم بأثره، العالم أصبح أكثر ضجيجاً وهمجية ووحشية ، لكن كيف يؤثر الماء في الماء؟

وأى فيضان يشق البحار والمحيطات شقًا؟

يبدو أن للنهاية طريق آخر غير الفيضان والطوفان، لايهم  كل ما يهم أن لا تقع علينا قرعة الاختيار اليوم، وغداً نحاول أن نحيا بشتات الفكر  والقلب المضمر، هكذا يوم بعد يوم إلى أن يظهر لنا نهاية.

داعب الطفل الصغير والده باللعبة الخشبية مرة أخرى، تذكر حسين كيف كان يداعب أيضاً أبواه في صغره وأن الحياة  كانت أكثر إمتاعاً، يذهب هنا وهناك،  يجري  ويمرح، يمسك هاتفه ويعلب بعض الألعاب، يغني بعض الأغاني، كان لا يمل ولا يترك  دقيقة  واحدة  تمر  دون تسلية، أما  ذلك الصغير البائس، الذي  جاء  وهو غير  معتنى بشئ إلا بالسعادة التي ذهبت هباء في المؤتمر الدولي الذي سلب حق الحياة، سلب الإنسانية برمتها عن أي إنسان كان من مصاف دول العالم الثالث! كيف صدقوهم أجدادنا وتوقعوا أن هناك منظمات لحقوق الإنسان، ومواثيق وأعراف لحماية الإنسانية؟  هذه خدعة، كيف آمنتم لهم، هم من صنفونا قديماً أننا دول ثالثة وعالم  ثالث وغير متطور، هل ساعدونا حقاً لنصبح مثل الآخرين! المعونات لا تصنع الشعوب، المعاناة وحدها والتغلب عليها هي من تصنع الشعوب وتقودهم لمصاف الدول الأولى.

 

الإرادة والتصميم هي وحدها من تغرد بالنجاح، أما عن القيادة فقد مدّت يدها لأيادي الخسة والندم، وما الفائدة الآن لكل هذا؟ اعتصر عينيه وزفر هواء ضاق به صدره كمن لا يريد أن يتذكر ولكن لا يستطيع ، فهو يعي  تماماً  ما حدث  وقت ذلك المؤتمر المشؤوم الذي  فرض واقعاً غير مألوفاً، اجتمع قادة العالم الأول وكونوا شبه عصابة جديدة، بعثت روح القائد النازي هتلر مرة أخرى في قادة عشر دول، تحكموا في مصير العالم كله، دشنوا حركة وقدسوها  بكل دين، على مرئى ومسمع الجميع، قالوها صراحة وبلا خوف أو ضمير، توصية  صغيرة وعبارة ما بين قوسين (لا حياة لمن لا يستحق) _ حقاً هذا حدث  دون  رهبة  أو خشية  من القدير، لأنهم لا يحدثون أي تأثيراً في العالم، هم يأكلون ويستهلكون، يثرثرون وينجبون، لا يخترعون  وكأننا عبيد  بطالون أو عالة نطلب أجراً دون عمل.

 

هللت شعوب تلك الدول ونزلت إلى الساحات  والميادين رافعين لافتات النصر والتأييد، نحن أيضًا مارسنا هوياتنا المفضلة، ندين ونشجب ونستنكر، لكن الآن مِمن نطلب الالتماس؟ المجتمع الدولي الذي اجتمع علينا؟ أم الأمم المتحدة التي صارت أيقونة  في إحدى الكنائس للمباركة  فقط !!

لم يتخيل حسين أن مستقبله سيصبح العودة  للقرون الأولى أو عصور الجاهلية التي كان يسمع عنها ويتناقلها الأجداد للأبناء، يصبح فيها الإنسان إما عبدًا أو سيدًا، المجتمع أصبح عنصرياً  بالفعل ومستقبله حالك لا محالة.

ترك حسين  كرسيه الخشبي يتمايل عندما سمع طفله يصيح  بشدة، هرول تجاهه فنظر في  يده  كتاب، فهو أول مرة يرى كتاباً، توتر حسين جداً  بينما ظل الطفل ممسكا فيه بشدة، حاول أن يأخذه منه لكنه لم يفلح، هو يدرك عقوبة الاقتناء، والكل مراقب دون أن يدري، ذهب  مسرعاً إلى اللعبة الخشبية  ليلهي بها صغيره ولكن هو أيضاً كبير بما يكفى ولا يستسلم للأمر بسهولة، بعد محاولات ومحاولات لم يظفر حسين بالكتاب، غضب ونزعه انتزاعًا من يد الصغير، فقطعت بضع صفحات منه، بسرعة شديدة فتح سعيد تلك الطاقة السحرية المخبأه في السقف  ووارى الكتاب، وذهب إلى الطفل  ليجده  ممسكاً  بقطعة من الكتاب الممزق  وعيناه حائرتان، نظر إليهما سعيد وهو يظن أن يكون الذي في خاطره حدث بالفعل.

 

نظر الطفل إلى الجزء الممزق من الكتاب، لم تكن صفحة أو غلاف الكتاب بل كانت تلك الصورة، صورة زفاف حسين على زوجته وأم طفله الوحيد، احتفظ بها في كتاب في الوقت التي مُنعت فيه الكتب من التداول كإحدي طرق العقاب التي مارستها الدول المقدمة على المستضعفين من البشر كما في نظرهم، لمح الطفل صورة أمه، انتزعها منه الأب انتزاعاً

 قبل أن يسأله الإبن من تلك؟ أجاب حسين أنها  أمه ولكن  القدير اختارها لتكون بجواره، أخفى الأب عن طفله حادثة موت أمه، في ذلك اليوم الذي لا يهرب من مخيلته، صدر النفير العام في أرجاء المدينة وهجم جنود الطواغيت على البيت، لم يقدر أن يرفع ظل شماعة عليهم  ولا يوجد شئ حديدي أو معدني يدافع به عن نفسه أو عن أهل بيته، كل شئ كان  خشب  في خشب،

 

 خشب رقيق للغاية لا يؤثر في شيء ، وقع الاختيار عليه ليكون المختبر المنتظر، لكن صرخت زوجته بصوت يعلو كل أصوات المداهمات قالت اقتلوني أنا ودعوا صغيري والأب، أمام ذهول حسين ودعت الأم طفلها بدموع صغيرة فوق هامته وبعدها قبلة وحضن أخير، ووداع لحسين: اعتني  بطفلنا الذي وضعنا رجاءنا فيه، أنت كنت الأمل  ولا تزال له كذلك .

 

 صوت النفير العام  يصدر مرة  أخرى، مداهمات هنا وهناك من الطواغيت، أصوات الأقدام في كل  مكان، صراخ الطفل يعلو شيئاً فشيئاً، ينظر من النافذة، إناس مقادون ومروحيات، يبدو أن الأخبار صحيحة وقد حان اليوم المشهود،  سمع منذ قرارات ذلك المؤتمر أن الإبادة آتيه لا محالة  ولكن، نحن دائماً  نغلق على أنفسنا، ولا نصدق الحقيقة  بدوافع الأمل الكاذب والباهت.

 

كسر أحدهم الباب، كان ملثماً يحمل في يده سلاح غريب الأطوار، ضممت طفلي بشدة  ورفعته فوق كتفي ومِلت قليلاً لآخذ اللعبة الخشبية وتحركنا، صعدت إلى المركبة مع المجموعات، على بعد آلاف الأميال في الصحراء الخاوية  وعمق مئات الأمتار حُفِرَت  كرة بشكل دائري قطرها 1كم، لها فتحة عملاقة، الهامسات تقول أنها قبة الاختبار، وآخرين يقولون أنها غرفة الإعدام، ليس المهم الآن سوى أن الأعداد  غفيرة  وتم نقلهم  جميعاً في مركبات هوائية، فكرت ما عساه أن يكون  الاختبار أو التجربة  هذه، الوجوه  كانت تحمل الرعب  وتسير  مضطرة  تجاه المجهول ليس بين الحاضرين أملاً إلا واحداً الآن يرفع صوته علياً  داعياً عليهم بأن يُفرق الله  شملهم، أقصي ما يمكننا فعله في تلك الأمور هو الدعاء لكن ما توقعته كان  صحيحاً، جاءته طلقة كبسولية مزقته أجزاءً تتبخر مثل الورقة المحترقة، رسخ الخوف أكثر في قلوبنا، ضممت طفلي الصغير  بشدة إلى صدري، علت الأصوات، مكبرات  في  كل  مكان، يعاود النفير  مرة أخرى في الظهور ويبدو أنها  النهاية، أدرك حسين أنه اليوم المشهود وميعاد الانتهاء من  الحلم الذي أرق الكثير وأصبح كابوساً، في وسط الصراخ والعويل، توقف  حسين عن المسير، وأنزل من على كتفه طلفه الموسوم ثم تنفس ببطء ليهدئ من روعه، ضم  الطفل بشدة إلى صدره ، خبأ عينيه في ضلوعه، وانطلقت على الجميع الرصاصات الكبسولية وبخرتهم  واحداً تلو الآخر ولم يتبقى سوى اللعبة الخشبية لتعلن عن نهاية الأمل بانتهاء صاحبها تخط الفصل الأخير لليوم المشهود.