«الإجازة الكبيرة».. أوقات للبهجة والإبداع

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

«أين تكمن المشكلة: فى جيل الأحفاد، أم فيمن يوجه النصح، أم فى روح العصر، أم فى المجتمع برمته، لاسيما مؤسسات التنشئة الاجتماعية؟!

فيض من الذكريات ينساب، حين تتشابه وقائع اللحظات المعاشة مع ما مر بالإنسان من أحداث، بعد مضى قطار العمر بمحطات عدة، بعضها تجاوز العقود.
حدث ذلك قبل أعوام مع الأبناء، ويحدث اليوم مع الأحفاد.

«الإجازة الكبيرة».. هكذا كانت توصف إجازة نهاية العام الدراسى، وأحيانا يطلق عليها إجازة آخر السنة، ولا أعرف تماماً السبب الذى دعانى للربط بين وصف الإجازة- حينذاك- بالكبيرة، واطلاق مسمى «العيد الكبير» على عيد الأضحى، ربما كان مبعث ذلك أن المرء كان يشعر فى هذه السن المبكرة، بأن كلاهما يمثل محطة للراحة والفرح والبهجة و... و...

ومع تقدم العمر، وتراكم الخبرات، تأكد لى ما وعيته بالفطرة، فالعيد والإجازة على السواء، بمثابة مكافأة على ما يقوم به الانسان من أداء ما عليه من التزامات، دينية بالنسبة للعيد، وعلمية فى حالة «الإجازة الكبيرة».

غير أن ثمة فوارق وتباينات بين مفهوم الإجازة باختلاف الآوان، والاجيال، فلم تكن الإجازة يوم كنت طالباً، هى هى كما كانت فى جيل الأبناء، أما فى جيل الأحفاد فإن للإجازة ملامح مغايرة إلى حد بعيد.

يوم كنت فى عمر أحفادى كان ثمة توازن فى توزيع زمن الإجازة بين الراحة، والمرح، والجد، بين الترفيه واستثمار الوقت فى النافع والمفيد من هوايات، وصقل المهارات، واضافة بعض الخبرات، وتوسيع دائرة المعرفة و... و...

باختصار، لم يكن معظم أبناء جيلى يملكون رفاهية هدر ربع أعمارهم فيما لا طائل منه، ولا أن ينحرفوا ببهجة «الإجازة الكبيرة» إلى أمور سلبية، لا تضيف لهم وإنما تخصم منهم.

وإلى حد ما، فإن جيل الأبناء وإن اختلفت رؤيتهم وظروف زمانهم، لم يفقد الكثير منهم البوصلة التى ترشد خطواتهم خلال إجازة تتجاوز الثلاثة أشهر، لعلهم كانوا يعون أنه بقدر حاجتهم لقسط من الراحة، فإن عليهم ألا يركنوا للكسل والخمول، وإنما بذات القدر يجب أن يتضمن يومهم ما يجدد نشاطهم العقلى والجسدى.

إنه زمن الأحفاد

والآن فإننا بصدد التعامل مع واقع له سمات مغايرة، إنه زمن الأحفاد.

وإذا كان المثل الشائع يقول «أعز من الولد ولد الولد»، فالمرء يرى فى الحفيد - على نحو ما- امتداداً للأبناء، ومن ثم له، ويتمنى الأفضل والأجمل له فى كل شيء دون استثناء.

الحفيد يحب جده، ويحترم والديه، لكنه «يستثقل» النصيحة التى يستمعها، لأنه يتصورها أمراً واجب التنفيذ، أو محاولة للسيطرة والتوجيه من الصعب ردها، وبنفس الدرجة من المستحيل قبولها على علاتها!

سألت نفسى بصراحة:

أين تكمن المشكلة: فى جيل الأحفاد، أم فيمن يوجه النصح، أم فى روح العصر، أم فى المجتمع برمته، لاسيما مؤسسات التنشئة الاجتماعية؟!
وكأن صدى من داخلى ينبهنى:

ألا ترى أن محاولة إلقاء المسئولية على طرف، فيه تبسيط مخل، أو على الأقل ابتعاد عن المنهج السليم للتصدى لمشكلة تتطلب دقة وعمقا أكثر عند تناولها؟
قليل من التروى مطلوب، قبل تبنى إجابة شافية.

أظن أن المشكلة تتجاوز -قليلا- السؤال المطروح لصياغتها، أو البحث عن تشخيص، ومن ثم علاج ناجع، لعل البداية الصحيحة تنطلق من التعامل مع قيمة الوقت فى الإجازة، وفى غيرها.

الخلط بين ما يتم تخصيصه للهو والجد، بين الحق فى البهجة، والواجب فى الابداع، فى الوعى بأهمية الزمن، باعتبار وحداته -فى مجموعها- تشكل أعمارنا، ربما يكون مربط الفرس.

التعاطى وفق هذه الرؤية مع «الإجازة الكبيرة» يمنحها قيمة مضاعفة، شرط وجود شراكة وتعاون وتكاتف بين كل من يجب أن يعنيهم الأمر.
مفاتيح تحقيق الآمال

من المفيد ألا تكون النصيحة مباشرة.

من المهم أن تكون القدوة حاضرة.

من الضرورى ألا تغيب عن العقول متغيرات العصر، وما استجد على حياة المجتمع.

من الحتمى ألا يغيب عن الوعى هرم الأولويات حتى لا تضيع معالم الطريق.

تلك المحددات إذا كانت ماثلة للعيون، فقد قطعنا شوطا لا بأس به فى توجيه الاحفاد الوجهة السديدة، نحو استثمار أوقاتهم فى كل حين، وليس فى «الإجازة الكبيرة» وحدها، لكن التركيز عليها ينبع من كونها قضية هذه السطور.

بدلا من النصح الصريح، يكون الاقتراح العملى اللطيف.

ثم يأتى دور القدوة الحسنة، لاسيما إذا كانت صادرة ممن نحب أو نحترم.

ما كان فى زمن طفولتنا، أو طفولة الأبناء، استجدت متغيرات من الغباء تجاهلها إذا توخينا بناء جيل مبدع.

وأخيرا: فإن ترتيب الأولويات شرط لا غنى عنه لتحقيق الانجاز، ومن ثم التقدم.

إذا كان ثمة توافق حول هذا المدخل، نكون قد امتلكنا «المفاتيح» التى إن أدرناها حققنا آمالاً وأحلاماً نعلقها بشأن بناء مجتمع جديد، وانسان جديد، يعى أن «الوقت من ذهب» حقا، لا مجرد شعار أو جملة إنشائية فارغة من المضمون والجوهر.

ماذا لو وجهنا لأحفادنا سؤالا مختصرا:

ألا تطمح لأن تنتمى لمجتمع يتقدم دائما؟

بالقطع سوف تكون الاجابة: بلى.

وبسرعة يكون الرد حاسما: لن يتحقق هذا الطموح إلا بالعمل المبدع، بالنشاط، بالاتقان، ثم هجر التراخى والكسل، وإدمان الراحة، والتسمر أمام الشاشات ولعاً بالسوشيال ميديا!

لا عداء للسوشيال ميديا

الاعتراف بالواقع لا يعنى التسليم بكل مفرداته، ولا يعنى -بالتالى- أن جيل الأحفاد ينتمى لزمن تسيد السوشيال ميديا، وأن علينا رفع الرايات البيضاء أمام ما يحدث، بل التعامل الذكى مع كليهما: الاحفاد، ووسائل التواصل الاجتماعى.

المشاركة بدلا من التوجيه المباشر، آلية مناسبة، لا تقل للابن أو الحفيد لا تتعامل مع السوشيال ميديا، خاصة وأنت لست بعيدا عن عالمها، بل تابع المواقع التى يفضلها، ومحاولة جذبه بعيدا عن تلك التى تقدم مضامين تافهة أو لا تهدف إلا للتضليل، أو تقتصر على التسلية.

الحفيد بطبعه عنيد، ولن تراقبه كل الوقت، لكن إذا استطعت أن تعقد بينه وبين المنصات والمواقع الملتزمة بالمعايير المهنية، وذات المضمون الجيد، نوعا من الصداقة والاعتياد، فقد حجمت الاثار الضارة الناجمة عن التعرض لمن يحترفون الكذب والفضائح، ويرسخون السطحية وعشوائية التفكير.

إنها البدايات اللازمة لدفع جيل الاحفاد لتعلم الابداع، والوعى بأن البهجة يمكن أن تقترن بالمعرفة.

بالطبع، سوف يصطدم الجد أو الأب بنوع من المقاومة، التى يجب أن تكون متوقعة، عند طلب تخفيض وقت التعرض للسوشيال ميديا، أو التحول باتجاه محتوى رقمى أكثر رزانة أو فائدة، وليس أمام الأسرة هنا إلا التحلى بالصبر، وطول البال، وتكرار المحاولة بشكل ذكى.

ثمة مواقع تشكل ما تقدمه إضافة لأصحاب المواهب، ولا إبداع دون موهبة، واكتشاف تلك المواقع، ثم دفع المبدع الصغير نحوها، وتبنى فكرة الحافز فى الابداع، والربط بينهما وبين تحقيق الذات، والشعور بالرضا، وكسر الرتابة، يعنى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، إذ من شأن هذه المعادلة تحقيق قدر من البهجة، التى تجعل الوقت سعيدا، ومفيدا.

حزمة أنشطة متنوعة

على مدى العقود الفاصلة بين زمن جميل عشت فيه «الإجازة الكبيرة»، ومارست مع جيلى ما كان متاحا من نشاطات جالبة للبهجة، بالقدر الذى أتاحت لنا تنمية مواهبنا، عبر تطبيقات ابداعية، برعاية وتعاون مؤسسات التنشئة من الأسرة، مرورا بالمدرسة، وصولا إلى الثقافة الجماهيرية أو قصور الثقافة ومراكز الشباب وساحته الشعبية..

ثم كان لجيل الأبناء حظ وافر، قياسا على من سبقهم من أجيال، فى ظل عصر ثورة المعلومات، التى كان من حظهم ميلاد العديد من منتجاتها وقيمها، وما انطوى عليه ذلك من تحولات، وفرت لهم أنماطا غير مسبوقة من الأنشطة، ومن ثم تفتحت مداركهم على آفاق إبداعية أكثر جدة.

غير أن جيل الأحفاد كان من نصيبه أن يشب فى بيئة ومناخ، يتيحان إطلاق الطاقات الابداعية الخلاقة، بأكثر من كل من سبقهم من أجيال، بشرط أن يتم توظيف تلك البيئة، واستثمار ذلك المناخ، فى تنمية قدراتهم الابداعية وتطويرها المستمر، مع عدم إغفال إحاطة هذه العملية بقدر محفز من البهجة.
جيل الاجداد والآباء يتحمل اليوم -بالتعاون مع مؤسسات التنشئة- أعباء وأدواراً، إذا لم ينجح فى انجازها على النحو الأكمل، فإن جيل الاحفاد سوف يدفع أثماناً باهظة، لأنها ستكون خصما من الرصيد المستقبلى للمجتمع برمته.

التعامل مع «الإجازة الكبيرة» كوحدة زمن يجب استثمارها فى حزمة متنوعة من الأنشطة الهادفة، فرصة لابد من اغتنامها بذكاء، ومحاولة كبح سيطرة الشاشات على عقول الاحفاد، ووقوعهم فى أسر حالة الادمان للعالم الافتراضى الذى يقولب أفكارهم ويشكل أذواقهم بعيدا عن أى توجيه أو رقابة.

نحن معنيون بتقديم حزم من الأنشطة المتنوعة: فكرية، فنية، رياضية، علمية، ترويحية، تطوعية،...،...، أنشطة مختلفة تتوافق مع الميول المتباينة لجيل جاء ميلاده مواكبا لتحولات ومتغيرات غير مسبوقة، ولا يجب تركه فى مهب عواصف عاتية تجرفه بعيدا عن الواقع بملامحه، والمستقبل الحقيقى بآفاقه.

كل جيل نتاج مجتمعه الواعى بمسئوليته تجاهه، وتقتضى المسئولية نحو جيل الاحفاد ألا نسمح له بهدر وقته وطاقته وقدرته على العطاء، فى لحظة مصيرية له وللوطن، حين ينتقل فى مرحلة نموه بين الطفولة والرشد، لاجتياز عتبة الشباب متسلحا بقدرات إبداعية خلاقة، تدعمه فى مواجهة ما ينتظره من تحديات هائلة.

إنها قضية مجتمع بأسره.