«أحمد الحموي» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

محمد كمال سالم
محمد كمال سالم

 

في شارع القلعة، يظهر أتوبيس 81 العام، وحش هارب من البراري يبتلع الطريق، يتسابق مع ترام رقم 2 في حصد الأنفس إلى آخر الخط، حيث مقابر الإمام الشافعي.

لا يغرَّنَّكم جميل منظره، أو لونه الأصفر الوادع، نوافذه الواسعة وأبوابه المفتوحة من الجهتين، كأنه مركبة للتنزه.

يصبح الموت أمرًا اعتاده الناس, لا تدري لم هانت عليهم حياتهم!

ألأنهم كثر, أم أن أهل هذا البلد يقدسون الموت تقديسهم للحياة، مثلهم كمثل أجدادهم، أم تستوي الحياة عندهم مع الموت؟!

 

كل شيء في هذا الحي، خاضع للتراشق والسخرية، أحجار البيوت، الناس, كلهم يتبادلون النكات.

 في صباحهم, وفي مسائهم, لا تكاد تميّز جدَّهم من هزلهم.

يتبادلون السخرية للذروة، حتى لتظن أن المعركة وشيكة، ثم فجأة  تُرفع الأيدي وتلّوح  في الهواء ،

فإذا بها تتعانق، تختلط الضحكات بالتوعُّد بالويل والثبور.

نفيسة العرجاء تجلس فوق فرشتها، تبيع السجائر على ناصية حارة (أبو طبق) كما الأشكيف المخيف في حكايا ألف ليلة وليلة، كنت أظن أنها ترعب أطفال الشارع فقط!

العجيب أن بائعة السجائر تلك، كان لها سلطان على أكبر رأس في هذا الحي، ما أن تأمر، إلا ويهرول الرجال تلبية لها، كانت مرات قليلة،  تلك التي رأيتها فيها تغادر فرشتها الغامضة.

 

في الصباح (أحمد الحموي) يفترش بجسده الضخم، الرصيف المواجه لها، ينتظر أن يستدعيه أحدهم لحمولة، هو يعمل وحده بديلا لعربة نصف نقل!! وصار رغم حداثته بالمنطقة، واحدًا من أهلها، يحمل طباعهم، ويتحدث بلسانهم، ولم يجدوا له لعظَم بنيانه، إلا ذلك الأفرول (الميري) المتهالك، الذي يكفي ليدخل فيه عصبة من الرجال.

يرتكن إلى جدار البيت دائمًا، يستقبل بلسانه الشامي اللاذع, أصحاب المحال (والأسطوات) والتجار:

- صباح الياسمين يا إبراهيم مِعزة هأهأ        

*صباح الزفت يا حموي.                            

- هات يا أفيونة القهوة للحاج نُونو.             

- إبعت الشاي للأسطى سيد بَلا.                   

حمدي المجنون:

 يعني أنت جاي من حماة في سوريا, علشان تقرفنا هنا, هي كانت ناقصاك؟!

يتمتم الحموي بكلمات شامية، لطالما تغنى بها:

زمنٌ غادر غااااادر

واه يا حماة يامن اغتالوك

في تدبير ليل ذبحوك.

 

ثم ينشد موالا بصوت شجي:

واحماة ع حماة ع حماة ياللا ودوني

ع حماة بترابه بترابه كحل عيوني.

يقاطعه عبده الجبان:

- إوعى تقوم من جنب البيت يا حموي أحسن يقع.

_ريتني حملتها ع كتافي يا جبان.             

وصلت أم عايدة الفلاحة بائعة الجبن،  من قريتها البعيدة تسعى على رزقها، تتمايل على إثر عرجة بقدمها اليسرى، يبادرها الحموي:    (اتمخطري واتمايلي يا خيل)                     

يحتقن وجهها خجلًا وغضبًا وترد:

- (تروماي ياكلك يا بعيد)

يضج الشارع بالضحك، تقهقه نفيسة العرجاء بصوتها المخيف، وفمها الواسع الأجوف إلا من سنٍّ صدئة وحيدة، كشجرة خبيثة في فلاة.

 

بسيوني الطعمجي أمام وجائه:                

- عجبت لك يازمن! عرجاء تضحك من عرجاء، كما سكران محفوظ!!

أحدهم: وما سكران محفوظ يا مثقف الفول والطعمية ؟

_يحكي نجيب محفوظ  في إحدى قصصه عن سكران (طينة)، سقط من طوله أمام أحد المخابز, لم يجد عمال المخبز أمامهم، إلا أن يحملوه على طاولة الخبيز، ليوصلوه إلى بيته، وإذا بمخمور آخر يترنح في طريقهم، فما كان من المحمول السكران على طاولة الخبيز إلا أن اعتدل من نومته ليوبخه:

(رااجل ومش قادر تصلب طولك من الخمرة! إتفوااا)

يضج السامعون في الشارع بالضحك.

 

تخبو الصباحات الودودة بين الجيران، ولا يخبو صخب الحياة فيها،

 

يحمل الحموي طقم صالون خشبي كامل، إلى الصدفجية في حي المغربلين, يبدأ أول مشوار ليوم طويل, ما أن رآه ترام رقم 2 حتى شيعه إلى آخر الخط، ودعناه كأنه وُلد بيننا.