يوميات الأخبار

عن العدالة.. والصداقة.. وواقع الحال

محمد بركات
محمد بركات

مع كل خلوة مع النفس تقفز إلى الذهن صورة لأحد الأصدقاء، المتفرد فى صفاته وخصاله بما يحتويه من ثراء بالغ مع المشاعر والقيم الإنسانية

فى بعض الأحيان.. وخاصة فى لحظات الصفاء القليلة التى نلتمسها أو نحاول اقتناصها كلما أتيحت لنا فرصة لذلك،...، وهى عادة لا تأتى ولا تتاح إلا إذا استطعنا الهرب من المشاكل الملتهبة والمشاغل الدائمة والملحة، التى تتزاحم على رءوسنا وتقتحم عقولنا فى كل لحظة طوال النهار والليل، متدفقة فى موجات تتلاطم متسارعة من كل حدب وصوب،...، حاملة معها أنباء تثير القلق وتحمل الألم عن الأحوال المضطربة وغير المستقرة فى كثير من بلادنا العربية سواء فى ليبيا أو السودان أو اليمن أو الصومال أو سوريا،...، وكذلك عن العنف والإرهاب الإسرائيلى فى المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية فى الأراضى المحتلة، والعدوان الممنهج الذى تمارسه الدولة الصهيونية على المسجد الأقصى وضد أهلنا فى القدس الصامدة.

فى هذه اللحظات القليلة التى نختلسها من عمر الزمن لتتيح لنا خلوة مع النفس، نتفكر فيها بأحوال الدنيا وتصرفات البشر، ونترك أنفسنا خلالها لتيارات الفكر المتلاطمة والمتلاحقة،...، تحملنا معها إلى حيث مواطن التفكر والتأمل فى هؤلاء الذين جمعتنا بهم المقادير عبر مشوار الحياة، بكل ما فيه من منحنيات ومطبات وتقلبات.

فى هذه اللحظات عادة ما ترسو قواربنا محمولة بتيارات وموجات الفكر على مرفأ الصداقة وشاطئ الأصدقاء باعتبارهم الأكثر قربا للنفس والأكثر ائتلافا مع الروح ومبعثا للصفاء والراحة.

نهر العطاء

وفى كل مرة تتاح لى فيها هذه الخلوة تقفز إلى الذهن فى نهاية طوافه، صورة لأحد الأصدقاء المتفرد فى صفاته وخصاله، بما يحتويه فى ذاته من ثراء بالغ فى المشاعر الإنسانية الراقية، وفيض وافر من القدرة على العطاء المتدفق فى مودة خالصة ومحبة دائمة لكل معارفه وأصدقائه، وكأنه نهر جار فياض بالمنح والعطاء للجميع، دونما تردد أو تمهل ودونما سؤال أو بحث فيما إذا كان هذا الشخص الذى يمنحه أو يعطيه مستحقا لهذا المنح وتلك العطايا أو غير مستحق،...، هكذا هو تيار جارف من العطاء متدفق بلا انقطاع.

هكذا كان صديقى الذى أتحدث عنه، والذى استحضره فى ذهنى كى أركن إليه واستند عليه، كلما هفت نفسى إلى بعض الراحة من صخب الحياة، بحثا عن السكينة الروحية بعيدا عن ضجيجها العالى وصراعاتها المحتدمة.

صديقنا المتفرد فى صفاته هو «صالح».. وهذا هو اسمه الذى أطلقناه عليه فى إجماع كامل من جميع الأصدقاء الذين شاء حظهم الحسن أن يعرفوه أو يقتربوا منه.

وقد أسميناه «صالح» لما فى الاسم من معنى ومدلول هو الأقرب لصفاته وخصائصه،...، وكنت ولازلت أقول لنفسى ولأصدقائنا المشتركين، إنه لو كان بيننا على أرض الواقع الذى نعيش فيه كائن بشرى يمكن أن يكون تعبيرا صحيحا ونموذجا حيا تتجسد فيه صفات الخير والصلاح، وتشع منه روح التسامح وطيبة القلب ويتدفق منه الإحساس الرائع بسلامة الطوية والسلام مع النفس لكان هذا هو صديقنا «صالح» الذى أنعم الله عليه بكل الصفات التى نغبطه عليها دون حسد على الإطلاق،...، بل نتمنى من قلوبنا جميعا أن يزيده الله صلاحا على صلاح.

قيمة العدالة

وصديقنا الصالح هذا ننظر إليه جميعا على أنه نعمة بين البشر، وهدية من السماء لنا جميعا لا يجود بها الزمان إلا بحساب مقدور بلا إفراط ودون تقتير أيضا.
وقد سألت صديقنا صالح فى اللقاء الذى يجمعنا ببقية الأصدقاء منذ أيام، عن أكثر القيم الإنسانية سموا فى رأيه وتصوره،...، فقال على الفور ودون أدنى تردد، وملامح ابتسامة ترتسم على وجهه الهادئ،...، «أرى أنها العدالة»... قالها وهو يحدق فى وجوهنا جميعا متفرسا ومتأملا وباحثا فى ذات الوقت عن مردود ما قال، سواء كان هذا المردود قبولا أو رفضا، أو حماسا أو حتى فتورا.

وعندما سأله أحدنا.. هل يقصد العدالة فى مفهومها العام كقيمة إنسانية مطلقة، أم أنه يقصد نوعا خاصا وصورة محددة للعدالة؟!.. قال بحماس شديد وبريق عينيه يزداد تألقا وحدة.. «نحن البشر على اختلاف صنوفنا وأشكالنا وتعدد أفكارنا ومعتقداتنا وتنوع قدراتنا وإمكاناتنا، وتفاوت مستوياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يجمعنا رباط مشترك، وهو تطلعنا الدائم واحترامنا الكبير لفكرة وقيمة العدالة، باعتبارها أرقى وأسمى ما يمكن أن يتحقق للبشر فى حياتهم على أيدى البشر أنفسهم، أى على أيدى بعضهم البعض»، ثم صمت قليلا قبل أن يستطرد «وسنظل نحن البشر نرنو إلى هذه القيمة أو قل الفضيلة ونتمناها، يشدنا إليها حلمنا الدائم بعالم خال من الظلم والعسف والعدوان،...، عالم تسوده العدالة والمساواة بين الناس جميعا بلا تفرقة ودون ميل أو محاباة لأحد على حساب أحد ودون أحد.

حلمنا جميعا

لم يكن صديقنا «صالح» وهو يتحدث إلينا يرتدى ثوب المحاضر الذى يخبرنا بما لا نعرفه.. بل كان يتحدث منطلقا من قاعدة مشتركة نقف عليها جميعا ونتفق فيها معه على أن ما يقوله وما يوضحه، هو فى حقيقته وجوهره مجرد بلورة لما نحن متوافقون عليه.

أو قل إنه مجرد صياغة مجمعة لما نحن متفقون بشأنه،...، ولذلك فقد واصل حديثه قائلا: «تعرفون بالطبع كما أعرف أن كل إنسان منا سواء كان حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، قويا أو ضعيفا، يتطلع دائما بكل الشوق إلى العدالة كقيمة ممكنة التحقق على أرض الواقع، وكلنا دون استثناء سنظل نرنو إلى هذه القيمة مشدودين إليها، باعتبارها حلمنا جميعا الذى نأمل أن يتحقق»،...، ثم أكمل قائلا «وأدرك بالطبع أنكم تعلمون أننى لا أعنى هنا بالعدالة حكم القضاء فقط، بالرغم من أنه يمثل بالفعل أسمى صور العدالة فى الفصل بين المتنازعين والمتقاضين، ولكنى أقصد العدالة الشاملة، والتى هى فى شمولها تعنى أسلوب حياة ومنهج دولة وإرادة مجتمع وسلوك أفراد».

«العدالة التى أتحدث عنها هى تلك التى تساوى بين البشر جميع الناس فى الحقوق والواجبات، دون تفرقة على الإطلاق على أساس الجنس أو اللون أو العقيدة أو الدين أو العرق».

والعدالة التى أعنيها هى تلك التى تعطى للكفاءة حقها وتعطى للمثيب حقه، وتوقع الجزاء والحساب على المقصر والمهمل والمسيء والمخطئ،...، وهى التى تعلى من قيمة العمل وتقدر المجتهد والمجيد، ولا تساوى بين الغافل الكسول واليقظ النشط.

وكما تعلمون فإن العدالة التى نرجوها جميعا، هى أن يكون تقديرنا للناس على أساس قيمتهم العلمية والأخلاقية والسلوكية وكفاءتهم العملية ومهاراتهم المهنية، بغض النظر عن المعارف والأقارب والأنساب، وأن يحصل على الوظيفة أو الشقة أو الأرض أو الفرصة من يستحقها بالفعل، وليس من هو ابن أو قريب أو نسيب لأصحاب المقام العالى،...، هذه هى العدالة التى أقصدها.. وأعرف أنها هى ذاتها التى تتطلعون إليها، كواحدة من أكثر القيم الإنسانية سموا.

الواقع.. والحقيقة

بالقطع يستطيع الأديب أو الفنان التعبير عن الواقع بصور وأشكال ووسائل متعددة، لكنه فى كل هذه الصور وتلك الأشكال لا يستطيع مهما أوتى من مهارة أو مقدرة على الرسم بالريشة أو الكلمات، أن يعطى صورة مغايرة للواقع فى مجملها وتفاصيلها،...، وهو بالقطع يستطيع تجميل الواقع بعض الشيء فيما يخطه بقلمه أو يرسمه بريشته،...، لكنه أبدا لا يستطيع خلق واقع آخر يخالف بالكلية هذا الذى يحيط به ويقف عليه وفيه إذا ما أراد أن يرسمه أو يكتب عنه،...، إلا إذا كشف وأعلن بوضوح أنه يعبر عما يتمناه أو ما يأمله، وأنه لا يقف عند حدود الواقع القائم بكل حقائقه ومكوناته.

وفى هذا السياق ليس واردا على الإطلاق أن يدعى أحد أن الصورة للواقع الحالى صورة وردية أو أننا نعيش أزهى عصور الرخاء الاقتصادى، ونسبح فى بحور الديمقراطية الكاملة بكل صورها وأشكالها،...، وأحسب أن من يدعى ذلك لن يصدقه أحد حتى ولو كان ما يقوله نابعاً من حُسن النية، ولذلك فهو يعبر عما يتمناه ويطمح إليه ويأمله.

ولكن.. على الرغم من ذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل أو ينكر، أن مصر لا تقف مستسلمة راضية بهذا الواقع، الذى فرضته عليها التطورات شديدة السلبية الناجمة عن جائحة وباء «الكورونا»، التى أطاحت بالاقتصاديات العالمية، ثم ما أعقبها من أزمة اقتصادية عالمية وإقليمية ناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية التى زادت الأمر سوءاً على سوء.

وإذا ما أردنا أن نعبر عن الصورة الحقيقية للواقع الحالى، فعلينا أن نقول بكل الوضوح والشفافية، بأن الدولة المصرية تبذل غاية الجهد لمواجهة هذه الأزمة والتغلب عليها وتجاوز آثارها السلبية، وتوفير سبل الحياة الكريمة للمواطنين، فى إطار خطة متكاملة للإصلاح والتنمية الشاملة فى كل محافظات ومدن وقرى مصر.