محمود قرنى يكتب : الشعر دائماً لا سيد له

محمود قرنى
محمود قرنى

إنه لمساء جديد بحق.. ونحن ننتظر إشراقة جديدة لشمس الشعر، فى لحظة هى موضع احتفاء العالم بـ «ربيع الشعر» ، ونحن إذ نعلم شراكتنا فى تلك اللحظة .. نقول إن انحيازنا للشعر هو انحياز لما هو نبيل فى التاريخ الإنسانى، انحياز يماهى بين لحظات الصدق النادرة التى نهضت فيها الحضارة .. رغم أنف القتلة .. والساسة .. والسلطة الأبوية، وحروب العشائر.. لتنزع المعرفة العامة من أسر الكهانة بكل صورها، لتشكل الإرث العام لصناع التاريخ الحقيقيين، ولتنزع اللغة من أفواه كهنة المجاميع.. لتتشكل فى خناجر الفلاحين والصيادين والعصافير وكافة الكائنات. 


من هنا نستطيع أن نتفهم الدور الذى كان على الشعر أن يلعبه باعتباره آخر الصكوك الروحية التى تمنحها القوة المجتمعية لشاعرها، وكذلك يمكننا أن نتفهم لماذا تثير قصيدة شعرية تفرز الساسة ورجال المال والمحافظين، الباحثين عن منتجعات للراحة، بعيداً عن الضجيج الذى يعيد إنتاج الألم الروحى غير المحتمل لكائنات – ستظل فى نظرهم – حالمة وضالة. فهل كان نقاد العالم الكبار يدافعون عن هذا السلوك السلطوى والمتعالى عندما وصموا الشعر بالتخلف؛ باعتباره يتغذى على الطفولة البشرية، ويعيد إنتاج الرعوية فى إطار شيق ميتافيزيقى للعدالة والحرية؟!. 


ومع ذلك لن نتراجع عن طرح السؤال الذى نراه جوهرياً: لماذا لم يساهم الشاعر العربى والشعر معه .. قديماً وحديثاً – فى إنجاز الثورة المجتمعية .. ولماذا يقف الشاعر نفسه – فى نهاية المطاف – ضد حق مجتمعه وإنسانه فى التطور؟. 


نعتقد أن الإجابة على مثل هذا التساؤل تقتضى منا أولاً أن نُقصى من المدونة الشعرية العربية أكثر من ثلثيها. 


وحضراتكم تعلمون بالطبع أن ما نقصده يتمحور حول الطبيعة البنائية للنظامين السياسى والثقافي؛ اللذين أبقيا – لمئات السنين – على الأشكال الشعرية البطريركية التى خدمت – فى أغلب الأحوال – الشكل التراتبى لأنظمة الحكم بكل تخلفها واستبداديتها. 


فكما حافظ السياسى على موقعه بإطاحة آلاف الرؤوس، حافظ الشاعر على موقعه بعقده صفقة دائمة مع المنتصر. وهو عمل يقع خارج فهم الأخلاقيين من البسطاء، الذين يقدسون العمل، ومنظومات الإنتاج .. التى صنعت مشروعيتها عبر وسائط عقلية محضة. كذلك يقع خارج وعى الشعر بذاته، باعتباره عملاً ضاغطاً .. ضد التكيف .. وضد نفسه أحياناً .. ومشايعاً للحرية الإنسانية فى كل صوره. 


فهل يليق بالشاعر أن يتحول كلية إلى الدفاع عن اللا مساواة، وإلى احتقاره التطور كقيمة إنسانية ومجتمعية، فيستبدل الموهبة بمقلديها، ويشطب اسم الشاعر لصالح ظله، بحثاً عن الثريات المخملية على أكتاف الأقنان، وعن مقعد ويسير تحت أقدام الخليفة.. أى خليفة. 


إننا نعتقد أن الشاعر الذى يعمل دون امتلاك القدرة على تحليل الواقع والحدس بآلامه الروحية .. يعنى أنه وشعره يعملان على تكريس وتعظيم الفوضى. 


من هنا كانت العديد من المذاهب الشعرية، ربما كلها، تعتقد أن الشعر فعل تحرير، لذلك كان «لوتريامو» صاحب «أناشيد مالدرورو» يقول: «إن الشعر يجب أن يكتبه الناس جميعاً». 


فى هذا السياق ثم افتئات كبير على دور الشعر الآن ومستقبلاً .. بعد أن اهتزت الكثير من معتقداتنا والكثير من التقاليد التى آذنت بالانهيار، لذلك يعتقد المتفائلون – ونحن معهم بطبيعة الحال – أن للشعر مستقبلاً عميقاً فهو «القادر على تحقيق توازن بين دوافع متضادة، وخليق بأن ينقذنا، لأنه وسيلة من الوسائل التى يمكننا بها أن نتغلب على الفوضى». 


شاع فى الفضاء العام؛ أن «الملتقى الأول لقصيدة النثر» ما هو إلا ردة فعل غامضة وعشوائية على الملتقى الرسمى الذى يعقده المجلس الأعلى للثقافة. وإننا إذ لا ننكر أن جانباً من فعلنا يأتى رداً على شرطيى الشعر وحاملى عصاه، إلا أن اعتقاد هؤلاء فى جوهره، يصلح أن يكون نموذجاً للعقل الشمولى الذى يحتقر كل نشاط يتم بعيداً عن مضللة المؤسسة، وهو اعتقاد على ما ينطوى عليه من نظرة شمولية، يصادر حق الجماعة الوطنية ونخبها فى الوجود كلية، وإذا قُدر لها أن توجد؛ فلابد أن يتم تدشينها عبر آليات التسلط نفسه لا تتخلى أبداً عن عنفها وتنكيلها بخصومها. 


ورغم ذلك فإن الاستحقاق الذى يسعى إليه ملتقانا لا ينعقد له لأنه يقدم صورة لحقيقة المشهد الشعرى المصرى والعربى فى لحظته الراهنة فحسب؛ ولكن لأن المؤتمرين فيه يعتقدون بقيمة التغيير والتطور فى حياتنا على نحو عام، وفى الشعر على نحو خاص، فقد طال الإقصاء والنفى وتجاوز حدود القبول الإنسانى، ولا تعكس الشتائم المجانية للشعر الجديد أزمة غياب الموضوعية فحسب، بل تعكس رغبة «متعسفة» فى مصادرة المستقبل لصالح الماضى. 


ففى الوقت الذى ينبرى فيه نقاد وشعراء الكتب الصفراء لشتيمة قصيدة النثر.. بدافع الزود عن أشكال يعتقدون بقداستها فى وجه شعراء موصومين بالتفلت، فإنهم يعتزمون لأنفسهم بفضيلة مكذوبة – وعلى غير الحقيقة – هى الإحاطة الشاملة والعميقة بالنص الجديد. لذلك فإن حاجتنا ماسة للتأكيد على أن الأشكال الشعرية – مهما كانت قداستها – يجب ألا تبقى طوطمية داخل الموروث الإنسانى. فكل الأشكال المستحدثة للكتابة وليدة الصراع التاريخى، ومن ثم الاحتياجات البشرية، المتغيرة بطبيعة الحال.


فالشعر بدأ بالمحاكاة وتقديس المثالية .. وارتمى فى أحضان الطبيعة.. ثم سرعان ما جاء من يقول بضرورة إبطال أثر الطبيعة، وجاءت الرومانسية لتتحدث عن شعر التشخيص التعبيرى، وسرعان ما امتهنت الواقعية هذا الاعتقاد وربطت بين الإبداع وبين الطبيعة المتغيرة للتقدم العلمى .. كل ذلك يؤكد أن التطور قيمة تدل على العصر الذى تشكلت فيه حواس الشاعر، ومن هنا يمكننا التفرقة بين الحاجة الإنسانية فى نص شعرى نشأ قبل مئات السنين، ونص شعرى نكتبه اليوم، على أن ذلك لا يقلل من قيمة الطاقة الإبداعية التى يبتعثها فينا هذا النص أو ذاك، ففى نظرنا تتحدد حداثة النص بمدى قدرته على البقاء فى الزمان، ومن ثم فإن الشكل الشعرى يظل عديم الأثر، ما لم ينطو على قيمة إبداعية تضيف لتاريخ الكتابة. 


لكن السؤال يبقى: لماذا تذهب الدعوة إلى التجاور والتنوع أدراج الرياح؟.. هل لأن النقد العربى أسرف على نفسه – كما يقول إحسان عباس – فى تقييد الشعر، بالدعوة المسرفة بمراعاة المقام واللياقة، ودعم روح الاعتدال، وعدم الإيغال فى الاستعارة والخيال إجمالاً.. والإعلاء من مقام اللفظ على المعنى والشكل على المضمون؟ 


وهل يأتى هذا الإقصاء لقصيدة النثر تعقيداً لتلك الروح المحافظة، ولماذا يتبدى الواقع الذى تستجيب القصيدة لحاجته معادياً لها، هل لأن معانى التحرر التى تنطوى عليها تلك الشعرية أكثر اتساعاً من حاجة الواقع الذى تُكتب فيه، وهل تبدو حريتها فائضةً عن حاجة مستهلكيها؟!


لا أتحدث بالطبع عن صواب النص الشعرى أو خطئه، فالنص الشعرى لا يملك خطأً ولا صواباً، لكننى أتحدث عن قوة غاشمة تخلق أنساقاً مجتمعية مضادة ومناهضة لذاتها. الفن إذن يحتاج إلى الدفاع عن قيمته الجوهرية كطريقة رمزية من طرائق الخلاص.. والشاعر الحقيقى هو الذى يملك دائماً القدرة على قتل سادته .. الشعر دائماً لا سيد له. 

بقيت حقيقة يجب أن نقر بها وهى أن هذا الملتقى جاء نتاجاً لجهد شاق، ومجالات واسعة كانت بالفعل أكبر من طاقتنا، لاسيما وأن اللجنة التحضيرية لم تكن – طيلة 
الوقت – كلاً واحداً، فالشفافية تقتضى الاعتراف بأن صراعات شتى سادت أعمال هذه اللجنة، بعضها كان شديد السلبية ومعظمها كان إيجابياً رغم المرارات التى خلفها. 
وفى كل الأحوال فإن نجاح هذا الملتقى أو فشله.. لا يعنى أن الشعر بات حكراً على أحد منا، فالشعر ليس ملكاً لشاعر، أو جماعة، وبطبيعة الحال ليس ملكاً لنا. 


لذلك نعلن بوضوح أننا إذا كنا نتحدث بصوت جماعة شعرية ضيقة فى نوعية يف جوهرها سياسية فى مظهرا، فإننا على مستوى الإبداع لا يمثل كل منا إلا نفسه، بل لا يجب أن تسمح جماعتنا تلك؛ لأى منا أن يحرز سبقاً يتجاوز قيمة نصه، وإلا فقدنا جميعاً شرعية هذا التمثيل الرمزي. بل ربما فقدنا الشعر نفسه.