يوميات الأخبار

طاهر قابيل يكتب: من الأهرامات إلى الملكة «حتشبسوت»

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«كان العمال يستيقظون مبكراً قبل طلوع الشمس، بعد سماع قارع الطبول، ويواصلون عملهم حتى غروب الشمس، أى ما يزيد على 10 ساعات يومياً».

فى طفولتى كان والدي رحمة الله عليه - حريصا على أخذى فى رحلة اسبوعية فى يوم الجمعة لزيارة قلعة صلاح الدين الايوبى، والمتحف الحربى، والزراعى، والاثار، والتجول بحديقة الحيوان بالجيزة، وزيارة الأهرامات التى كنت أراها قريبة من بيتنا، وأشاهدها من فوق عمارتنا بعمارات الأوقاف بمدينة إمبابة، والتى جمعت مع الأهرامات بكتب التاريخ بمعركة امبابة والاهرامات، وكانت الاعياد فى عيدى الفطر والاضحى، فرصة للذهاب اليها بعيدا عن الحرس العائلى، وزيارتها والجلوس على احجارها، وحاولت اكثر من مرة صعودها، عندما كان ذلك مسموحا للزائرين وفشلت.

كنت ومازلت من عشاق اثارنا المصرية القديمة، وخاصة هرم خوفو إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.. أقرأ عنه وعن المعابد، واستمتع بالتواجد بين الاهرامات الثلاثة، ومشاهدة ابى الهول. وفى شبابى جاءت لى فرص ان ازور الأهرامات واتجول مع الزائرين من ضيوفنا القادمين من الخارج، واتذكر انه تم تكليفى بمرافقة أحدهم، وكان احد الوزراء الامريكان.. وكان يستقبله ويصطحبه فيها الاثرى العالمى الرائع الدكتور زاهى حواس، عندما كان يتولى مسئولية مفتش أثار الهرم.. وشاهدت معه مركب خوفو، وطفت بأبى الهول، ولمست وشممت رائحة التاريخ المصرى الاصيل.. تكررت الزيارات، ولكنها لم تكن مثل تلك الزيارة التى جعلنا فيها الوزير الامريكى يركب الجمل ويرتدي العقال.. بصراحة كنت وما زلت شغوفا بأجدادنا قدماء المصريين، وابحث عن اى معلومة او قصة عنهم، ولا اترك فرصة للسفر الى الاقصر واسوان، والتجول فى وادى الملوك والملكات، والشعور بالعظمة والفخر فى معابدهم وخاصة معبد الدير البحرى.. لم اترك اى كتاب يصدر إلا واضمه الى مكتبتى فى المنزل، او بمكتبى بأخبار اليوم، حتى ان اصدقائى القريبين منى يقولون اننى دودة قراءة.. فلدى ثروة من كتب تاريخنا الذى افتخر به وأتألم من الاوصاف التى اراها غير صحيحة او غير مناسبة لحضارتنا.. ولذلك كنت سعيدا بحوارى مع الدكتور زاهى، ووصوله الى حفريات انهت خرافات كثيرة حول بناء الاهرام، ومنظومة العمل بها، وخاصة الهرم الأكبر الذى وصموا تشييده بالسخرة، رغم ان مصر لم تعرف العبودية غير الموجودة بها منذ الازل. فالأهرامات مشروع  قومى ورمز لقوة وسلطة الملك الحاكم.. وتشارك فى بناء الهرم كل الدولة.. وكانت كل اسرة تساهم بدورها فى هذا المشروع القومى.

◄ فلاحون وحرفيون
شارك فى تشييد هرم الملك خوفو عمال وفلاحون وحرفيون مهرة طوال العام، وكان الفلاحون من القرى والاقاليم القريبة من الهرم، ويعمل به المتميزون من الشباب، يتعلمون ويتدربون بالعاصمة الملكية، وينقلون أفكارهم وخبراتهم واساليب عملهم الى قراهم والاجيال التالية.. وكانت فترة فيضان النيل ذروة الكثافة العمالية للمشاركة فى البناء.. لأن الأرض المغمورة بالمياه لا تحتاج اليهم.. وقد قسم العمال الى فرق، وكل فرقة تتكون من 2000 عامل، والفرق مقسمه الى فيالق، ثم الى مجموعات اصغر واصغر فى العدد، حتى الوصول الى مجموعة صغيرة من 20 الى 50 لها مشرف وتخضع لنظام دقيق.. واثبت ذلك فى بردية عثر عليها فى «وادى الجرف»، وهناك فرق تذهب لتقطيع الأحجار من طرة.. واحضار النحاس من سيناء.. وكان بساحة الهرم مدينة عاش بها الفنانون والمشرفون والعمال.. وعثر على بقايا اثارية تدل على وجود مصنع للبيرة، وأوانٍ فخارية ودقيق وفرن لخبز «العيش».. وبالقرب من المدينة مقابر لدفن الموتى.. وكان العمال يتناولون لحوما فى طعامهم اليومى.. ووجدت اثار تدل على ذبح الماشية والخراف والماعز.. وتناول الخبز والبيرة كعنصرين اساسيين فى وجبة العمال.. بالاضافة لتناول الثوم والبصل.. وكانت هناك مغسلة للحفاظ على نظافة الملابس المصنعة من الكتان.. واهتم المصرى القديم بإرسال البعثات الى المحاجر والمناجم لاستخراج «الجرانيت» من اسوان، والأحجار الصلبة من النوبة، والالباستر بتل العمارنة وطرة، واستخراج الحجر الجيرى المتميز من الواحات، والاحجار الكريمة والمعادن النفيسة بسيناء.

◄ قارع الطبول
كان العمال يستيقظون مبكرا قبل طلوع الشمس بعد سماع قارع الطبول، ويواصلون عملهم حتى غروب الشمس، اى ما يزيد على 10 ساعات، واعطاهم طعامهم القدرة على العمل ونقل الاحجار يوميا.. وعندما تقرع الطبول مرة ثانية، يعلن انتهاء يوم العمل.. فيعود العمال الى تجمعاتهم ويغتسلون ويتناولون وجبة العشاء.. ثم يذهبون للنوم مبكرا.. واخذ قسط من الراحة ليبدأوا يوم عملهم التالى. وكانوا يحصلون على يوم إجازة كل 10أيام، بالاضافة الى الأعياد الرسمية، مثل عيد الحصاد والعام الجديد والميلاد ويوم تدشين الهرم.. وكان للمرأة المصرية دور فى بناء الهرم والحياة الاسرية، وتتمتع بالاستقلال فى حياتها، وخير مثال على ذلك «درة الاميرات» الملكة «حتشبسوت»، أبرز الملكات، وأقواهن نفوذًا. وكان حكمها نقطة بارزة فى تاريخنا القديم.. وحكمت بعد وفاة زوجها الملك تحتمس الثاني كوصية على الصغير تحتمس الثالث.. ثم ملكة.. بعد أن نشرت قصة نقشتها في معبدها بالدير البحرى.. وكان جدها الاكبرأحمس الأول صاحب الانتصار العظيم بتحرير مصر من الهكسوس يعتبرها الوريثة الشرعية للعرش.. لانه لم يكن لديه وريث من الذكور.. وكان لها أخ غير شقيق من أبيها من زوجته «موت نفرت».

ولدت حتشبسوت الابنة الكبرى للملك تحتمس الأول، أحمس فى عام 1508 قبل الميلاد، وتلقت تعليمها عن علوم الأخلاق والسلوك الصحيح والقراءة والكتابة والحساب والفلسفة والطقوس الدينية وقواعد اللغة والإنشاء والحكم المأثورة عن الحكماء المصريين القدماء، مثل الأمراء والأميرات الصغار، وأبناء الوزراء والأسر النبيلة، وكانت حتشبسوت تخشى من معلمها وأساليبه العنيفة مع تلاميذه مهما كانت منزلتهم، وكان هذا مثالا للعدالة التي تطبق على الجميع بدون خوف أو محاباة، وأصبح ذلك جزءا أساسياً في حياة المجتمع مما جعلها لا تطالب بأى امتيازات خاصة فى معاملتها، وكانت المدرسة الملكية تبدأ فى الصباح الباكر، وتنتهى عند الظهيرة كما تفعل مدارس مصر فى الوقت الحالى.

◄ حورس الأنثى
تزوجت الملكة من أخيها غير الشقيق تحتمس الثانى، والذى لم يكن أمامه ليقبض على صولجان الحكم سوى أن يتزوج منها، وأنجبا ابناً وبنتين، ومات الابن فى طفولته، والابنتان كان اسمهما «نفرو» و»مريت»، وأنجب زوجها ابنه «تحتمس الثالث» من إحدى محظيات البلاط الملكي وتدعى إيزة.. لم يكن طريق «حتشبسوت» للحكم ممهداً ومفروشاً بالورود.. فقد واجهت عناداً مجتمعياً وسلطة دينية رفضت أن ترى الحاكم فى صورة أمرأة.. وعاشت حتشبسوت وقتا عصيبا وهى في العشرين من عمرها.. عندما توفى والدها.. وكانت قبل ذلك شريكة معه بالحكم والوريثة الشرعية للعرش.. وكان من المعقول أن تلى «تحتمس الأول» على العرش.. ومنعت تقاليد البلاط  الملكى، و »دسائس» الكهنة، أن توضع جميع السلطات فى يد أمرأة، فهو أمر ليس على هواهم مطالبين بضرورة أن يشترك معها أخوها غير الشقيق فى الحكم.. رغم انه شخص نحيل واهن الصحة وقليل الخبرة.. وفشل الاحتجاج.. وحصل «تحتمس الثانى» على شرعية الحكم.. وقامت ثورة بالجنوب.. وبدلاً من أن يقود الجيش بنفسه ويسير إلى الأعداء كما كان يفعل أبوه.. أعطى تعاليمه لجنوده بأن يكونوا قساة لأبعد درجة على الخارجين عن حكمه.. وفى الحقيقة كانت «حتشبسوت» هي التى تدير الأمور وتحكم البلاد باسمه من وراء الستار، وهى صاحبة الأمر والنهى.. وبعد وقت قصير أصبح واضحا أنه فى طريقه للموت، وأخذ رجال البلاط يتساءلون.. ما الذى سيحدث عند موته؟ وليس هناك أمير آخر يخلفه.. وكان زوجها يريد أن يمنح ابنه «تحتمس الثالث» حق تولى العرش من بعده.. واستمر احد الكهنة يدبر المؤامرات ضد قيام امرأة بالحكم.. ومات تحتمس الثانى.. وبعد موته بوقتٍ قصير كانت حتشبسوت فى المعبد لتشهد احتفالاً يخرج فيه موكب آمون.. ووقفت المحفة التى تحمل التمثال أمام كاهن صغير.. ورفضت أن تتزحزح.. وقال الحاضرون إن ما حدث علامة بأنه اختاره ليشاركها الحكم.. وكان هذا الكاهن الصغير هو ابن زوجها المتوفى.. فترك عمله كأحد صغار الكهنة ليدخل القصر الملكى.. وكانت «حتشبسوت» فى ذلك الوقت بالرابعة والثلاثين من عمرها.. وسادت بينهما المنافسة والمرارة.. فجمعت حولها مناصريها.. وكونت حزباً لدعمها.. واشتدت قوتها.. والفرعون الصغير لم تكن لديه الخبرة الكافية.. فأصبح عاجزا عن الحكم.. واضطر لإخلاء مكانه لها.. وتم إعلانها ملكا على الصعيد والدلتا.. وحكمت وحدها مصر وممتلكاتها في الخارج.. وكانوا يسمونها «حورس الأنثى» ملك «الصعيد والدلتا» والسيدة القوية.. وحكمت حوالى 22 عاما..

◄ تحتمس الثالث
دائما ما يثار تساؤل ماذا فعلت الملكة حتشبسوت بتحتمس الثالث بعد أن أطاحت به.. وقال البعض أنها قتلته أو نفته.. ولكن الحقيقة أنها عهدت إلى تربيته وتعليمه فنون إدارة الدولة ليقود بعض الحملات العسكرية ضد الثائرين على الحكم خارج البلاد.. وتولى حكم مصر بعد موتها وزواجه من ابنتها «مريت»، مما أعطى له شرعية الحكم.. وكان من أقوى المحاربين.. وكون أول وأقوى إمبراطورية مصرية عرفها التاريخ.. فقد اتسمت فترة حكم «حتشبسوت» بالسلام والرفاهية، وتميز عهدها بقوة الجيش ونشاط البناء والرحلات البحرية التى أرسلتها للتجارة مع البلاد المجاورة، واستطاعت مصرنا الحبيبة أن تزدهر، وأعادت فتح المحاجر والمناجم التى أهملت، خاصةً فى شبه جزيرة سيناء. وأعادت استخدام قناة سنتروريس لربط النيل عند نهاية الدلتا بالبحر الأحمر، وتنظيفها بعد أن حفرها المصريون أيام الدولة الوسطى. وذلك لتسيير الأسطول البحرى ليخرج منها إلى خليج السويس، وبعدها إلى البحر الأحمر، وأمرت ببناء معبدها في الدير البحرى بالأقصر، وأنشأت السفن الكبيرة لنقل المسلات التي أمرت بإضافتها إلى معبد الكرنك، والمشاركة فى بعثات التبادل التجارى. واتسم عهدها بالرفاهية، وزاد الإقبال على مواد ترفيهية مثل البخور والعطور والتوابل والنباتات والأشجار الاستوائية والحيوانات المفترسة والجلود..

تاريخنا مليء بالقصص والحكايات التى لا تنضب ونفتخر بها.. تحيا مصر.