يوميات الأخبار

..ويتألق «فن النسخ» المصرى فى يونيو

علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب

 فى كل لحظة من تلك اللحظات تجلى مفهوم «النسخ» فكان أن أزال المصريون واقعاً مريراً، أو مشهداً بغيضاً، ليرسوا دعائم أمل جديد، أو هدف طال الشوق لبلوغه.

للنسخ معانٍ عدة.

ولصاحب القلم ما انتوى.

وما قصدت إلا أحد المعانى بعينه.

فى سياقى هذا، نسخ الشىء نسخاً، أى أزاله، أو أبطله.

وتناسخ الشيئان نسخ أحدهما الآخر.

وفى ساحة التاريخ المصرى، تميز شهر يونيو بالتألق فى «فن النسخ»، بدرجة تستدعى التأمل والتفكير.

ولأن الإنسان ـ فى تعريفه الذى يستهوينى ـ حيوان ذو تاريخ، فإنه عبر مسيرته وانعطافاته، يتوقف ليعتبر، وربما يرى أن عليه أن يقرر تغيير مساره.
هنا مربط الفرس.

فى هذه اللحظة بالذات يدرك حتمية التحول الذى قد يتخذ شكلاً دراماتيكياً جذرياً، وأن عليه أن يستدير دورة كاملة، أو يتجه عكس ما كان يمضى.
إنها اللحظات الفارقة فى حياة الشعوب، والمصريون برعوا فى اقتناصها ولو طال الزمن بهم، وتجرَّعوا خلاله مرارة الصبر.

عندئذ تتجلى إرادة التغيير فى أروع معانيها، فى جدلية تتفاعل فيها الأدوار: الفرد، الجماهير، ودور الثانية هنا ليس مجموعاً حسابياً، وإنما مُحصلة تفاعل الأفراد، ووسط هذا المشهد يبرز دور آخر لأفراد من نوعية مختلفة، إنهم القادة المنوط بهم تحقيق انسجام الفكر، ووحدة الحركة.

فى يونيو حدث ذلك مراراً.

عندما تم إعلان الجمهورية فى ١٩٥٣.

فى لحظة جلاء المستعمر البريطانى، العام ١٩٥٦.

حينما وأفتتحت قناة السويس من جديد فى ١٩٧٥.

حين هب الشعب ملايين فى ٢٠١٣ لإسقاط حكم المرشد.

فى كل لحظة من تلك اللحظات تجلى مفهوم «النسخ»، فكان أن أزال المصريون واقعاً مريراً، أو مشهداً بغيضاً، ليُرسُوا دعائم أمل جديد، أو هدفاً طال الشوق لبلوغه.

چينات الوطن

حدثان من بين ما ذكرت، لم تكن عينى قد تفتحت بعد على الحياة، لكن لأنى شأن كل مصرى يحمل چينات هذا الوطن، وبحكم انتماء أسَّس لوعى تمتد جذوره لتربته الطيبة، وتسمو فروعه لتُطاول عنان السماء، ونهم لاستيعاب تاريخه بانتصاراته وانكساراته، ودوراته التى توالى عليها الغُزاة، والمخلصين من أبنائه، مَن باع، مَن ذادَ، مَن جَبُن، ومَن استشهد، مَن نام خانعاً، ومن سهر ناقماً، لأنى خيط فى هذا النسيج، ثم أننى ابن جيل عشق وطنه إلى حد الذوبان، والتهم سطور تاريخه دون أن تصيبه تُخمة أو يصده شَبَع.

لكل هذه الحيثيات وغيرها كُثر، فقد حرصت أن أعرف كم من التضحيات بُذل عبر قرون، ليولد على أرض مصر نظام جمهورى قبل ٧٠ عاماً، للمرة الأولى فى تاريخ امتد لـ ٧٠٠٠ سنة !

بعد ثلاث سنوات من الحدث الأول؛ كان الجلاء، ولا أظنها صدفة تمثل مفارقة على نحو ما، أن يكون ١٨ يونيو عنوان الحدثين زمنياً.

بعد استعمار استمر ٧٤ عاماً جاثماً على صدور الأجداد، حققت ثورة يوليو الحلم الذى راود الملايين جيلاً بعد جيل. وفى سبيله اندلعت ثورة، انتفاضات، وإضرابات، وكفاح مسلح، ونضال سياسى، ومن حُسن حظى أن التقيت ببعض من شارك فى هذه الفعاليات، وكانت حكاياتهم ما تزال طازجة، تشم فيها رائحة الدم، ونكهة الصدق المطعَّمة بالوطنية الخالصة.

فى الحدثين يفوح عطر عبقرية مصر القادرة دوماً على أن تهضم فى أحشاء حضارتها كل قادم، مُهاجراً كان أم غازياً، مُستعمراً كان أم عابراً.
كنت أتأمل سمات مصر، وملامح أبنائها، ومعالم مراحلها التاريخية، فلا أرصد إلا الثراء والتفرد، دون أن أشعر لوهلة بالوقوع فى مصيدة الشوفينية، أو رذيلة التحيز الأعمى.

إبداع أجمل اللوحات

كنت محظوظاً أن أكون ضمن شهود تلك اللحظة التى «نسخت» حدثاً لم أتذوق مرارته قط.

كان اختياراً عبقرياً من صاحب قرار العبور، أن يقرر إعادة افتتاح قناة السويس فى ٥ يونيو ١٩٧٥ «لينسخ» يوم النكسة قبل ثمانية أعوام.

كنت ابن تسع سنوات يوم وقعت الهزيمة، كان وقعها قاسياً، أكبر من أن تستوعبهُ طفولتى، فكان أن تضاعف عمرى فى أيام قلائل، غير أن المفارقة أننى فى ١٩٧٥ كنت قد غادرت الصبا، أطرق بوابة الشباب، ورغم ذلك فإن الفرحة العارمة بما شاهدته حينذاك، ردتنى إلى الطفولة البريئة دون سابقِ إنذار!
لكن بين التاريخين كان «فن النسخ» لا يهدأ!

لم يمض إلا أقل من شهر على صدمة النكسة، لتبدأ مصر فعلياً حرب الاستنزاف، فى ممارسات جزئية لمفهوم «فن النسخ»، لتُعيد الثقة للجيش فى قدراته، وللشعب فى جيشه، لتبدأ المرحلة الأولى من حرب الألف يوم، مرحلة الصمود، براً وجواً وبحراً.

ومن الصمود إلى الدفاع النشط ثم التحدى والردع.

وفى ١٩٧٠ كان حائط الصواريخ على وشك الاكتمال، وفى ٣٠ يونيو ـ لاحظ اليوم ـ أسقطت دفاعاتنا العديد من طائرات الفانتوم، فتتخذه قوات الدفاع الجوى عيداً، ألا يعد ذلك إضافة إلى «فن النسخ» مبكراً فى مواجهة شبح النكسة؟.

وبعد أقل من عامين على العبور العظيم فى ٦ أكتوبر ٧٣ والثأر للنكسة، وإبداع إحدى أجمل لوحات «فن النسخ» بملحمة تاريخية رائعة، جاء يوم إعادة افتتاح القناة ناسخاً للأبد من ذاكرتنا الحزينة تلك اللحظة، بكل آلامها العظيمة.

بعد كل هذه السنوات، وقُرب نهايات العمر، أتأمل هذه القدرة الفائقة على الإبداع المصرى لـ «فن النسخ»، ليستقر يقينى على أن نار المحنة ساعدتنا فى إنضاج مئات، وربما آلاف الأعمال عنوانها الرئيسى «فن النسخ»، منذ اندلاع حرب الألف يوم، ثم العبور العظيم، وصولاً إلى عبقرية تحديد تاريخ إعادة افتتاح القناة.

تناقض غير محتمل

ربما كان فعل «النسخ» حينها الأسرع إيقاعاً بين كل ما شهد يونيو من النماذج التى تناولتها السطور السابقة.

كان عاماً مضطرباً، يتسم بقلق غير مسبوق، ذلك الفاصل بين ٣٠ يونيو ٢٠١٢ و ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

دون شك فإن تهديد الهوية الوطنية كان العامل الحاسم فى تحول «فن النسخ» إلى سلاح فى التعاطى مع هذه الحالة الاستثنائية.

العُمق الحضارى الضارب بجذوره عشرات القرون، فى مهب أخطار عاتية.

الصبر، أو الترقب، أو الانتظار، ألوان من الترف من شأن ممارستها وضع  الوطن فى مواجهة المجهول، وآفاق مستقبل معتم.

منذ البداية، لم تهدأ الصدامات والتجاوزات، وبراكين الغضب، وانتهاك القانون والدستور، وتصدر رجال ما لهم دراية أو خبرة بمفهوم «رجل الدولة» لقيادة الدولة، لا عصمة لدم أو روح، لا احترام لاختلاف فى الرأى مهما كانت درجته، التصعيد مع أجهزة الدولة السيادية مستمر، توقيعات سحب الثقة من الرئيس بالملايين،.....، ........، باختصار أصبحت البلاد فى قبضة الخوف!

الحل: لا شىء سوى موجة ثورية، أو انتفاضة شعبية، وصولاً إلى ثورة هدفها استعادة مصر ممن خطفها.

نُذر الثورة تتجمع فى سماء الوطن.

بعد ٢٥ يناير لم يحكم الثوار، بل صعد إلى سدة الحكم من انحرفوا بوقاحة عن أهداف الثورة، لا يهدفون إلا لاحتكار السلطة، واحتقار الشعب، وفرض أيديولوچية متطرفة، وتثمين الوطن حفنة من تراب!

«فن النسخ» هذه المرة رُسمت لوحته بسكين، وألوان نارية، بحشود غاضبة رافضة إزاء غياب لحرمة الدم المصرى، بل وإراقته بدم بارد!
من ثم كان النصر حليفاً لمن ثاروا فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

كنت فى هذه الأثناء شاهداً على مجرى الأحداث من موقعى فى صالة تحرير «الأخبار»، موقناً من أن حتمية الثورة قائمة، لأن شروطها متوافرة، فثمة تسلط وديكتاتورية، ووعى شعبى، وإرادة تغيير محمية بذراع قوية وطنية حتى النخاع،...،....،....، هكذا كانت رؤيتى التى يشاركنى فيها الملايين ممن تجاوزوا مرحلة الغضب السلبى، والاقتناع بأن الثورة عمل إيجابى بالأساس.

المثير أن هناك من كان يحمل تناقضاً بين موقفه العملى، وقناعاته النظرية، وكأنى بهم يحتاجون لجسر يعبرون فوقه هذه الفجوة!

قلت لهؤلاء الذين يطلبون منح الحاكم فرصة إضافية حفاظاً على الشرعية:

يا سادة مشروعية الثورة تنبع من عدالتها، وحرمان المظلوم من مقاومة المستبد يقود لإقرار مشروعية الاستبداد، لا أن يُراجع المستبد موقفه، الأمر الذى يتجاوز دائرة المنطق قبل القانون.

وأضفت حاسماً: يا سادة الأمة صاحبة السيادة، والثورة على المستبد بحد ذاتها عُذر مانع من العقاب، تتساوى فى ذلك مع قاعدة الدفاع الشرعى عن الذات حفظاً للنفس والحق فى الحياة.

هكذا، كان يونيو فضاء تألق فيه «فن النسخ».. بالمصرى الفصيح، وكان أروع تجلياته ٣٠ يونيو ٢٠١٣.