مديح آخر للقراءة

أدونيس
أدونيس

 1 
الأخوات والأخوة الحضور، منذ نشأت الكتابة، أشعلت القراءة أنواعاً كثيرة من الحروب. الكلمة، هى أيضاً، أمٌّ للشِّقاق، كما هى أمٌّ للاتّفاق. وبين أسوأ الحروب التى سببتها القراءة يمكن أن نعدّ الحروب الدّينية. ونعرف جميعاً أن التباين فى قراءة الكتب المقدّسة، على الأخصّ، نوعٌ من الحروب المتواصلة، ثقافياً واجتماعياً، كمثل قراءة الواقع، سياسياً واقتصاديّاً. فالواقع كمثل الكتاب عالمُ اتّفاقٍ وانشقاق.

ولو كان الإنسان يعرف أن يقرأ الأرض التى جاء منها ويعود إليها لما كانت عرفت هى نفسها غير السّلام والحرّية، وغير الحبّ والصداقة والشعر ، لكننى لن أدخلَ فى هذا كلّه، مفصّلاً، وإنما سوف أستضيء به ـ بوصفه واقعاً حيّاً، متواصلاً وفَعّالاً.

 

اقرأ ايضاً| أنطونيو جالا يعود إلى حقول عدن الخضراء

3
"اقرأ": كلمةٌ مفتاحٌ فى الرؤية القرآنية للإنسان والحياة والكون . باسم هذه الكلمة، أشكر أصحابَ هذه الدعوة الكريمة، وأحيّيكم أيها الأخوات والأخوة الحضور، واحداً واحداً.

 


وفى ضوء هذه الكلمة، أشير إلى أنّ القراءة هي، بطبيعتها، فعلٌ خلّاق. وإلى أنّ الكونَ كتابٌ يُقرأ بلا نهاية، ويُكتب أيضاً بلا نهاية. وفى هذا الإطار، تحديداً، يمكن القول: قل لى ماذا تقرأ، أقُل لك من أنت.


أشير أيضاً إلى أننى أرى فى كلمة "اقرأ" ما يذكّر بصوت المتنبي:
أعَزُّ مكانٍ فى الدُّنى سَرجُ سابحٍ  وخيرُ جليسٍ فى الأنام ِكتابُ.
وهو صوتٌ يؤكّد أن القراءة الخلّاقة لكتابٍ أو لنصٍّ إنما هى قراءةٌ لما يقوله مكتوباً، ولما يقوله كذلك إيماءً وإشارةً وتلويحاً.

 2 
ندركُ جميعاً كيف أنّ المعرفة سلطة، وكيف أن السلّطةَ المعرفيّة لا تتحقّق، فى جانب أساسيّ منها، إلّا بالقراءة.
الإنسان يحيا ويفكّر ويعمل، قارئاً. فهو، فى صيرورته، قارئٌ فى المقام الأوّل – وفى هذا نجد ما يميّزه عن الكائنات جميعاً. خصوصاً أنّ القراءةَ فى عمقها سؤالٌ أكثر ممّا هى جواب.

والسؤال امتيازٌ يتفرّد به الإنسان بين الكائنات. وانطلاقاً من السؤال، ابتكر الأبجدية، ووضع اللّغة – فنّاً وعلماً. هكذا ابتكر هُويٌتَه وهاويته معاً: الكتابة بوصفها مكاناً لا يَعلو إلاّ به وفيه ومنه، ولا يهبط أيضاً إلا بهِ وفيه ومنه.


بلًى: الأبجدية، كتابةً وقراءةً، هويّة الثقافة وهاويتُها فى آنٍ. تنبّه أسلافُنا الكبار إلى هذا كلّه. هكذا، أجمعوا على المبدأ القائل بأن كتابهم الأول، الذى يقدّسونه جميعاً، إنما هو "حمّال أوجه" – وإذاً لا تستنفده القراءات مهما تعدّدت. وهذا فى ذاته معيارٌ أول فى تقويم النصوص الكتابية العظيمة.


وفى هذا كلّه ما يعنى أن القراءةَ مسئوليةٌ إنسانيّة ضخمة، معرفيّاً وأخلاقيّاً، فى مستوى الوجود نفسه. وفيه أيضاً ما يعنى أنّ القراءة كما أَشَرْتُ فنٌّ وعِلمٌ فى آن. فهى فنٌّ لمعرفة أشكال التعبير وطرائقه، وعلمٌ لاكتناه أسرار العلاقات بين الكلمات والأشياء، وبين الإنسان والعالم.


رُبّما نتّفق جميعاً على أنّ أخطر ما تكشف عنه القراءة يتمثّل فى أنَّ اللغة مكانٌ يمكن أن يحتضن الصّدق كما يحتضن الكذب، ويمكن أن يكون مكاناً لتمجيد الباطلِ، أو لتمجيد الحَقّ. ونعرف جميعاً أن الأيديولوجيات بأنواعها جميعاً، يمكن أن تنهض كتابات أصحابها على إلغاء مفهوم الحقيقةِ ذاتها، وحتى على إلغاء الحاجة إلى الحقيقة. والواقع أن هذه الإيديولوجيات مارستِ الكتابة وتمارسها، جازمةً بأنّ الحقيقة التى لا حقيقة بعدها هى ما تقوله، أو أنها كامنة فى خطابها.


هكذا نرى كيف أن اللغة هى نفسها يمكن أن تكون مكاناً لأبشع أنواع التزوير والتضليل والتحريف. وهكذا، تبعاً لذلك يمكن بمثل هذه اللغة تحويل الحياة نفسها إلى مُحيطٍ من الظُّلمات.
وإذاً، كم هو خطيرٌ فِعْلُ القراءة. وكم هو خطيرٌ أيضاً فعل العزوف عن القراءة.

 4 
"اقرأْ باسم ربّك الذى خلَق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذى علّم بالقلمَ. علّم الإنسان ما لم يعلم" (سورة العلق)، كلامٌ قرآنيّ يؤكد على أنّ القراءة هى أن يتعلّم الإنسان ما لا يعلم. وهي، إذاً، اكتشافٌ لما يجهله. وهو يؤكّد، تبعاً لذلك، أن الثقافة الخلّاقة حركة مزدوجة: كتابةً وقراءةً. وسؤالنا: ما معنى أن نكتب؟ يتضمّن سؤالاً آخر: ما معنى أن نقرأ؟ ومهما كانت الأجوبة هنا، فإنّ تاريخَنا الثقافيّ يتيح لنا القول: إن مسألة القراءة لم تشغلنا، معرفياً وفنياً، كما شغلتنا مسألة الكتابة. ولهذا أسبابٌ لا أرى ما يدعو هنا إلى الخوضِ فيها.

 5 
اسمحوا لى أن أستضيء بمثَليْنِ اثنين من حياتنا الثقافية الماضية، حول الكتابة والقراءة، يتعلّقان بالشعر، النموذج الأعلى للإبداع الكتابيّ العربي.


يجيء المثل الأول من العصر الأموي، وخلاصته أن شاعراً ناشئاً أتى إلى ناقدٍ بارزٍ ليأخذَ رأيه فى آخر قصيدةٍ كتبها. وبعد أن سمعها الناقد، وفقاً للرواية، اكتفى بالقول، مخاطباً الشاعر: اذهبْ واقرأ كلّ ما يمكنك من الشعر الذى كتبه أسلافُكَ، وحاول أن تحفظَ منه ما أمكنك عن ظهر قلب. وعُد إليّ.


أصغى الشاعر الناشئ لهذه الوصيّة، وبعد أن حقّقَها، عاد إلى الناقد وأخبره بما قام به. فقال له الناقد: انسَ الآن كُلّ ما قرأتَ، وخصوصاً كُلّ ما حفظتَ، واكتب قصيدَتك الخاصّة بكَ، وحدكَ.
ويجيء المثل الثانى من العصر العباسي، وهو أن أبا تمّام ألقى، مرّة، قصيدة فى حضرة الخليفة آنذاك، وحوله جمعٌ من نقاد الشعر ومحبّيه. وعندما وصل إلى بيتٍ فى القصيدة هو التالي:
لا تَسقِنى ماءَ المُلامِ فإنّني صبٌّ قد استعذبتُ ماءَ بُكائي
نهضَ أحد الحضور غاضباً وأخذ كأساً، وقال لأبى تمّام ساخراً:
هل يمكن أن تملأ لنا هذه الكأس بماء الملام؟
فأجابه أبو تمّام، بهدوء كامل:
أَعطنى ريشةً من "جناح الذلّ"، وسوف أملأ لك هذه الكأسَ بماء الملام.
فاضطرب الرجل، ولم يعرف ما يقول، وصار موضعَ سخريةٍ من الحضور جميعاً.

العبرة فى المثل الأول تدور حول القراءة – معنىً، وأهميةً، وأفقاً – حول العلاقة العضوية، شعرياً، بين حاضر الشعر وماضيه، لكن بشرطٍ أساسى يتمثّل فى الابتعاد عن المحاكاةِ أو التّقليد، وفى التوكيد على الذاتّية وخصوصياتها المختلفة.


وتدور العبرة فى المثل الثانى حول المعرفة العالية بالشعر ولغته الخاصة، تلك المعرفة التى يجب على ناقد الشعر أن يمتلكَها، على نحوٍ كاملٍ. تدور أيضاً حول عُلوّ الشعريّة عند أبى تمّام، وعلوّ ثقافته المجازيّة القرآنيّة، فى استشهاده بالآية الكريمة: "واخفضْ لهما جناح الذلّ من الرّحمة".


ويرمز المثَلان إلى ما هو أبعد – إلى معنى الشعر فى الحياة العربية. فالشعر العربيّ، فى نشأته الأولى، قبل الإسلام، كينونَةٌ أكثر منه ثقافةً. إنّه جسدٌ آخر للشّاعر. وحياةٌ ثانيةٌ داخلَ الحياة. هو، بتعبير آخرٍ، هويّة وجوديّة، قبل أن يكونَ هويّة ثقافيّة.


وكما أن الإنسان الأول رسمَ على جدرانِ الأمكنةِ التى يسكنُها، شكله كما يراه، أو أشكالَ الأشياء والحيواناتِ، فإنّ الشاعر العربيّ قبل الإسلام، رسم وجوده نفسَه بالكلماتِ على شفتيه أولاً، ومن ثَمَّ تناقلتها شفاه الآخرين الذين يعيش معهم، أو يجاورهم، أو ينتمى إليهم. كانوا يتنشّقون الشعر، كأنّه هواءٌ آخر، ويَزْدَهُونَ بإشعاعهِ كأنّه شمسٌ ثانية، ويحلّونَ ويرحلون فيه وبه ومعه كأنّه فضاؤهم الأكثرُ اتّساعاً وعلوّاً وتلألؤاً، أو كأنّه طبيعةٌ ثانية.

 6 
فى هذا الإطار، تحديداً، أودّ أن أشدّد، استناداً إلى التجربة الحيّة، على أننا نجد فى القراءة مفاتيحَ لاستقراء المستقبل، إضافةً إلى المفاتيح التى تقدّمها لفهم الحاضر والماضي. غير أنّنا نلاحظ فى الوقت نفسه أنّ لدى معظم القرّاء العرب ميلاً واضحاً إلى العزوف ِ عن قراءة ما يخالفُ قناعاتهم أو يظنّون أنّه يخالفها.


هذا الميل إلى اختزال القراءة فى ما يثبّت ما فى أنفسهم، يدفعهم إلى القراءة انطلاقاً من مسبّقات متنوّعة، إيديولوجيّة وسياسيّة، تؤدّي، آلياً وموضوعياً، إلى "تحريف الكَلِمِ عن مواضعه"، وفقاً للتعبير القرآني. ويبدأ هذا التحريف بقراءة كاتب النصّ، انتماءً واتجاهاً، سياسياً وفكرياً ومذهبياً، قبل قراءةِ النصِّ ذاته، أو فى حدِّ ذاته. هكذا مهما كان النصّ عظيماً، فسوف يبدو فى العقول الصغيرة، كمثلها، صغيراً هو أيضاً.


علينا أن نضيفَ إلى هذا كلّه، لكى نُحسن الإحاطة بفهم الوضع القرائيّ فى الثقافة العربية، أنّنا اليوم، استناداً إلى الدراسات والتقارير الثقافية والإحصاءات التى تقوم بها المؤسسات الدولية، كمثل منظمة اليونسكو، تمثيلاً لا حصراً، نُعدّ بين أقلّ الشعوب قراءةً. ولا يعود ذلك إلى النسبة العالية فى الأمّية، وحدها، وهى خطيرةٌ وخَطِرةٌ، وإنما يعود كذلك إلى أوضاعٍ مؤسّسيةٍ، كمثل الرّقابة، والهيمنة السّياسيّة – انقساماتٍ وتَشرْذُماتٍ، وكمثل التخلّف الكبير فى مستوى العلاقات الثقافية بين البلدان العربية، وكمثل ضعف القدرة الشرائية عند أصحاب القدرة القرائية، وكمثل التخبّط والتنافر والضّياع فى كل ما يتعلّق بالترجمة والتأليف والنشر والتوزيع، تمثيلاً، لا حصراً.


وقبل هذا كلّه، يجب أن نُشيرَ إلى أنّ لكلّ منا فى الغالب العام، نحن المسلمين العرب، فى طفولته، وفتوّته وشيخوخته، من يقرأ عنه، أو من يقرأ باسْمه، ومن ينصحْهُ: اقرأْ هذا، لا تقرأ ذلك. ففى كلٍّ منا يعيش رقيبٌ أو قارئٌ مُسبَّقٌ يأمُرُ ويَنْهيَ. لا على الصعيد الفرديّ، وحده، وإنما كذلك على الصّعيد الجَمْعيّ.


وينتج، عملياً، عن هذا كلّه وضعٌ أوجزه كما يلي: إذا كنّا، اليوم، نشكو أزمةً فى الإبداع الثقافيّ، كتابةً وقراءةً، فإن هذه الأزمة ليست ناشئةً من قلّة المواهب الخلّاقة، كما قد يذهب بعضهم، وإنما هي، كما يبدو لى شخصياً، ناشئةٌ من ضَعْفِ القراءة الخلّاقة، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً.

 7 
كيف نكتشف المجهول، أو كيف نرى اللا مرئي؟ سؤالٌ هو، بالنسبة إليّ، السؤال الأكثر عُمقاً بين الأسئلة التى تطرحها القراءة الخلّاقة، كما هو الشأن فى الكتابة الخلّاقة. خصوصاً أن الإبداع، اسمٌ آخر للانفتاح على الآخر المختلف.


أليس عليَّ فى نهاية هذه الدقائق من قراءتى، أليس علينا جميعاً، خصوصاً فى هذه المرحلة غير المضيئة من تاريخ العالم، أن نقول فى صدد القراءة على المستوى الكونيّ، ما قيل مرّة فى صدد الحرّية: آه، أيتها الحرية، كم من الجرائم تُرتكب باسمكِ. فنعيد هذا القول فى صدد القراءة السائدة، ومن على منبر هذا البرنامج العربي: "اقرأ": آه، أيتها القراءة للإنسان والعالم والحقيقة، كم من الجرائم أرتكَبت وتُرتكب باسمكِ!


أحيى ذاكرتنا الثقافية العربية، الشعريّة على الأخصّ، مجسّدةً فى الشعر العظيم الذى أبدعه أسلافنا، على هذه الأرض الكريمة، وأحيى المبدعين العرب جميعاً، مشدداً على أن القراءة والكتابة وحدة لا تتجزأ، وأنهما معاً مسئولية معرفيّة وأخلاقية، فى المقام الأول.


واسمحوا لى أن تكون خاتمة هذه الكلمة كمثل فاتحتها، تحيّة لهذا المركز ولبرنامج "اقرأ"، آملاً فى أن يزداد تأصّلاً وانفتاحاً، تأسيساً لقراءة عربية جديدة وخلّاقة، لهذه الأرض العربية العظيمة العريقة، وعِبرَها، للإنسان والحياة والكون.