عاطف محمد عبد المجيد يكتب: أن تذهب إلى الأمل لترتمي فى أحضانه!

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كتبت أحلام مستغانمى كتابها الشهير عن النسيان، وأنا هنا قررت أن أكتب عن التذكر، تذكّر كل لحظة أليمة والغوص فيها، لا لأتألم، بل لأتعلم.   هذا ما جاء على لسان ميرنا الهلباوى فى كتابها « تنذكر ما تنعاد» التى صدرت منه طبعتان حتى الآن عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وفى صفحاته تبحر الهلباوى فى أكثر الذكريات والحكايات والأفكار وجعًا حتى تتطهر بكل كلمة فيه من كل ذنوب سذاجة قلبها، كما يتطهر الحاج فى الكعبة مع كل طواف حولها من ذنوب وقع فيها أحيانًا بإرادته، وأخرى رغمًا عنه. 

لقد جعلت الهلباوى هذه الصفحات كعبة قلبها، تتخلص بها من كل الماضي، وتذكرة بالحاضر وتحسبًا لأى أضرار فى المستقبل، متذكرة ومسترجعة ومتأملة، مشيرة إلى أن هذا ليس سوى تفريغ مشاعر عشوائية مختلطة متفرعة، لكنها كُتبت من نفس الجرح، موجهة صفحات كتابها هذا إلى كل من جُرح، وإلى كل من يُجرح، وإلى كل من سيُجرح، مؤكدة أنها كتبت هذه الصفحات حتى تنذكر ما تنعاد.

اقرأ أيضاً| أب أم ضمير شعري؟.. كيف ينظر الشعراء الشباب لأمل دنقل؟


على متن هذه الصفحات، وعبر مراحل الالتياع السبع : الإنكار، الخوف، الغضب، الاكتئاب، التقبل، الانتكاسة، الأمل، كانت الهلباوى فى رحلة استمرت أكثر من عام للبحث عن نفسها بنفسها دون مسكنات ودون تجاهل لمشاعر سلبية، بل باحتوائها واحتضانها لحين انتهاء مرورها الكريم داخل روحها.

أفكار ومشاعر
لقد اعتبرت الكاتبة نفسها هنا فى مستشفى لعلاج أمر شديد لحق بها، متنقلة بين هذه المشاعر وبين أفكارها فى محاولة كشف كل جروح الالتياع قديمها وحديثها، مُعرّفةً الالتياع قائلة إنه هو كل الحب الذى لا تستطيع تقديمه لنفس الشخص، كل الأحداث التى كنت تريد عيشها معه، كل الأمنيات التى كنت تريد تحقيقها وأنت ممسك بيده، كل المشاعر التى تُكنّها لهذا الشخص، رغم عدم وجوده، فى الوقت الذى  ترى فيه أن أسوأ ما فى الإنكار أنك لا تستطيع إلقاء اللوم على شخص آخر إلا نفسك، وأنت وحدك تمامًا تتحمل قسوة هذا الشعور وجفاء وحدته داخل عقلك وتشعر به يتسلل إلى كيانك، أما أفظع مراحل الإنكار فهى مرحلة الهلع الذى ينتابك فجأة ليجعلك تنتبه أن ما تفعله لرفض الواقع لا ولن يفيد. 

وفى كتابها الذى تضم فيه عددًا من المقالات الخفيفة سلسة الأسلوب وبسيطة اللغة ومؤلمة للمشاعر حاملة بين طياتها أحيانًا سخرية لاذعة، تتحدث عن مشاعر تنتاب الإنسان وتسيطر عليه فترة من الزمن نتيجة لما يمر به فى حياته، محاولة نقل حالة إنسانية أحاطت بها الآلام والأوجاع إلى قارئها الذى لابد وأن يتعاطف معها ويشفق عليها مما ألمَّ بها، مشاركًا إياها معاناتها طوال هذه الرحلة.

هنا تحكى لنا الكاتبة عن أسوأ أنواع الخوف ومنها: الخوف فى مكان كنت تجد كامل راحتك فيه، والخوف من أشخاص من المُفترَض أنك كنت تثق بهم، ذاكرة أن أعظم درجات الخوف هى الخوف من الفقد، أما الخوف الأصعب فهو الخوف من النفس. ما يمكن لنا معرفته هنا من قراءتنا لكتاب الهلباوى هو أن كل المشاعر والتجارب ليس مقدرًا لها أن تكتمل، بل يكفى أن تكون حقيقية، وأن العالم مليء بالقصص الحزينة منذ فجر التاريخ فى حين أن كلًّا منا يظن أن ما يحدث معه الآن هو المأساة العظمى، وأن أضعف حالات الغضب هى عندما تدرك أنك لا تستطيع التعبير عن هذا الشعور إلا بالبكاء كالأطفال، وأن المتلاعب لن يستطيع التلاعب بدون كائن هش يتلاعب به، وأن الفرق بين المرأة والمرأة القوية هو اتخاذ قرار، وأن الاكتئاب هو أن تفقد قدرتك على تجميع المفردات لتكون جملة تستطيع بها التعبير عما تشعر به، لأنك مخدر كخروف سيق إلى المذبح فى طابور طويل ممل من الخراف فى انتظار قدرها المحسوم، وأن تجربة الحياة لكل منا تجربة فريدة لا يمكن مقارنتها بالآخرين ولا يمكن استخلاص الدروس نفسها منها.

كذلك تدعو الكاتبة هنا قارئها ألا يبحث فى أماكن قديمة عن مشاعر جديدة، وألا يبحث فى أماكن جديدة عن مشاعر قديمة، وأن يستمر رغم كل شيء، رغم الحزن والألم والإخفاق والانهزام، وأن يتقبل الفشل وأن يلعق جراحه بخفة، وأن يتقبل النجاح والحرص على الشعور به وتقديره وعدم المرور به مرور الكرام، مُذكرة إياه أن أعظم قوة خُلقت على الأرض هى قدرة الإنسان على الاختيار.

محور الكون
هنا أيضًا تكتب الهلباوى فتقول: إن الحقيقة لا يفوقها أحد، ولها فعل واحد فقط هو أن نتقبلها كما هى بمذاقها اللاذع الذى سنعتاد عليه لاحقًا، وإن التقبل هو أن نخلع رداء الخوف والقلق والتوقعات، ونرتدى رداء الشجاعة، شجاعة مواجهة الأحداث والواقع، شجاعة النظر لجراحنا دون الشعور بالشفقة تجاه أنفسنا أو الشعور بالرغبة فى البكاء المفاجىء، داعية القارئ لأن يتقبل أنه ليس محور الكون، وأن لكل واحد منا جرحه الغائر الذى يرافقه، أن يتقبل أن جرحه توازيه جراح أخرى، وأن ما يجب فعله الآن هو الخضوع للحقيقة بدلًا من الخضوع للأيام.

ميرنا الهلباوى لا تريد هذا العالم بأشخاصه الذين لا يكترثون بأى شيء إلا بمشاعرهم وأفكارهم فقط دون مراعاة للغير، ولا تريد إلا ما هو فى خيالها، ذاكرة أن جحافل من البشر قررت عمدًا أن تتجاهل أن النفس البشرية أكثر هشاشة ورقة من السيارات الفارهة، والاعتزاز بالنفس معناه أعمق وأبعد من الاحتفال بمنصب جديد وخطير.                                                                       
الكاتبة التى تعترف بأنها تختلق صورًا ومشاعر كثيرة فى خيالها حتى تستطيع تقبل افتقادها لها فى الواقع، ترى أن الحياة لا تخلو من الصدمات النفسية تقول إن التعايش تحت ظلال مآسى الماضى لن يشفع لنا أخطاءنا الحاضرة ولن يكون مبررًا لأخطاء مستقبلية ولن ينقذنا ولن يجعل لحياتنا قيمة، وأننا لسنا كائنات خارقة للطبيعة ولسنا مضطرين لأن نلعب دور البطل فى حياتنا وفى حيوات الآخرين.

وفى الصفحات التى خصصتها للحديث عن الأمل تتساءل الكاتبة: لماذا تجد نفسها تدندن لأم كلثوم كلما شعرت بالأمل؟ معرّفة الأمل بالشرارة التى يطلقها القلب ليجعلك تستفيق وتشعر بحلاوة صغائر الأمور، وهو، تقصد الأمل، رجل واثق من نفسه دون غرور، معسول الكلام، مبتسم رائق المزاج، لذيذ الصحبة، رائحته ترد الروح وتظل ملتصقة بأنفك حتى بعد رحيلك عنه، ذاكرة أنها لا تعرف عدد المرات التى ذهبت مهرولة إلى الأمل لترتمى فى أحضانه، طالبة منا أن نتعامل مع حياتنا كحلقات مسلسلنا المفضل، البطل يمر بأزمات عملية وعاطفية وحياتية، البطل يبتسم ويضحك ويتألم وينهار ويتجاوز، لكنه فى النهاية بطل قصته، مضيفة أنه لا أحد مسئول عن شعورك بالأمان، فإحساس الأمان إن لم ينبع من داخلك فلن تجده أبدًا.