في روايتها «استغماية» الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية، اختارت الكاتبة كاميليا حسين ألا تطلق أسماء على شخوصها جميعا، وهي ليست مصادفة، فلا أسماء مطلقا للكبار والصغار، ومن يبدون أساسيين، وكذلك من يبدون عابرين.
من جانب آخر، لايخرج العالم الذي رسمته الكاتبة بدقة ورهافة عن الثنائيين الزوج - الأب و الأم - الراوية. تماهى كل ثنائي مع الآخر واختلطا وامتزجا على نحو متعمد.
أكاد أقول إن الكاتبة حاصرت عملها وكبّلته ولجمّته متعمدة. ليست هناك أحداث تجري، ليست هناك حكاية تُحكى. ففي الفقرة الأولى من الفصل الأول تتساءل الراوية» ماذا لو دق الباب غريب يدّعي أنه زوجي؟ بعد كل هذه السنوات هل أسمح له بالعودة؟”وفي السطر الأخير هناك من يختلط علينا نحن القراء الأمر بشأنها هل هي الراوية أم قرينتها التي تخايلها عبر النافذة التي تفصل بينهما طوال صفحات الرواية، وهي تصفع الباب وراءها وتتخذ قرارا مؤجلا بأن تترك كل شيء وراءها وتمضي.
علمتُ أن « استغماية» هي الرواية الأولى للكاتبة، ويهمني أن أؤكد هنا أنها رواية مكتوبة بمهارة ودقة. تمضي هادئة بلا قلقلة أو ارتباك، فالكاتبة تملك أدواتها تماما، وتعرف جيدا دقائق الكتابة، وقادرة على الإحكام، بل هي تحاصر عملها وتحصره في فصول قصيرة وأشخاص يمكن أن تعدهم على أصابع اليد الواحدة. كما أنها ليست مشغولة بالحكاية نفسها، لأنه لا حكاية هناك في واقع الأمر، وليس مؤكدا ما إذا كان هناك وقائع يمكن أن تروى، أو تخيلت الراوية أنها وقعت.
أريد أن أشير أيضا إلى ما أعتبره تأكيدا لقدرة كاتبة تخلّصت تماما مما يسمّى بعيوب الكتابة الأولى، وعرفت كيف تنأى بروايتها عن النهنهة العاطفية، وأوهام النوستالجيا، والذكريات الناعمة، والبكاء على الأطلال، كل هذا شراك خداعية تجتذب الكاتب عادة، لكنها نجت منها بنجاح، واختارت أن تكتب نصا قاسيا صادما، وحصرته في تفاصيل قليلة وشخوصا أقل، يتبادلون مواقعهم.
وإذا كان الزوج يتماهى مع الأب، ويشترك معه في كثير من ملامحه وسلوكه وممارساته، فإن الزوجة (التي تروي الرواية على لسانها بضمير الأنا) تتماهى مع الأم التي اعتاد الأب أن يضربها بحزام ينتهي بحلقة معدنية تفتح رأسها، وتنتهي حياتها والراوية لم تزل في الثامنة من عمرها، والأخيرةسيكون عليها بعد مرورعقود أن تتخذ القرار المؤجل برفض هذا العالم ومغادرته.
يهمني أن أؤكد أيضا أنه من بين جوانب قوة هذه الرواية عدم اللجوء للصوت العالي، وعلى الأخص عندما تحكي الراوية ما يستلزم الصراخ والضجيج، مثل مشاهد ضرب الأم أو تعذيب الزوجة على يد أبيها المريض المعلّق بمحاليله، أو تجاهل الزوج لزوجته وابنته، أو المعارك المكتومة التي يمكن أن تندلع هنا وهناك.لاتكمن قوة مشاهد عنيفة كتلك في اعتمادها على الصوت العالي والصراخ، بل في أن تختصر وتختزل ويُشار إليها من بعيد.
هذه كاتبة حريصة على عدم التورط العاطفي، والكتابة وهي بمنأى عن الحلول الفنية سابقة التجهيز، والاستبعاد والحذف والمزيد من الحذف، وتبقى الحكاية جارحة إلى أقصى حد وغير مؤكدة أيضا، وليس المهم هو ماذا جرى تحديدا بل كيف جرى.
لكل هذا أشكر الأستاذة كاميليا حسين على هذه المتعة الفائقة.. كتّر خيرك يا أستاذة.