«عودة» قصة قصيرة للكاتب يحيى أبو عرندس

اللكاتب يحيى أبو عرندس
اللكاتب يحيى أبو عرندس

أشار إلى كومة تراب ..

-        هذا قبر جدِّك الأكبر.. وتعالَ إلى باقي المقابر لأكمِل لك بقية أهلك الذين سكنوا بجوارها..

جلس على حافة قبر .. حكّ لِحيتَه:

-        كنتم خير أمةٍ أُخرِجت للناس

وأشار بعيدًا:

-        هذه المرأة التي تتلقّف الخبز، عمّتُك .. شقيقة والدِك

وكرر قولَه:

-        كنتم خير أمةٍ أُخرِجت للناس 

وأشار إلى رجلٍ، ونظر إلى ثيابِه الرثة .. وهذا للأسف عمُّك!

قلت له منكسِرًا:

-        شقيق والدِي؟!

أجاب بغلظة:

-        نعم، شقيق والدِك .. كنتم تسكنون القصور, أبدلتموها القبور، بمعنى أدقّ، بدّلها الزمن، ليس لكم وِزرٌ في هذا .. يسكن بجوارها خالُك، الأخ غير الشقيق لوالدتِك ...

أيام السجن العمومي، كان يقبع معي في زنزانتي, أكره ثيابَه القذِرة، وسِحنتَه النتِنة, تنتابني هيستيريا من الضحك, ما يزال كلام ضابط الأمن الوطني له، كامل الصراف الذي كان يتحسس أقدام النساء، ويجري خلف مؤخراتهم، هو أمير أكبر جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. تبًا لك يا زمن!

صرخَ في الحراس:

-        خذوه .. سنسِمه على الخرطوم

كامل الصراف لقبه, أطلقنا عليه الاسم, يحِب المال حبًا جمًا, يتخذ مِن المواعظ سبيلا للوصول لغايتِه, ولكن سرعان ما ظهرت حقيقته, وعاد إلى ما كان عليه .. يعيش حياة البؤساء، لزمَ بيته ينتظر ساعتَه ..

صمت قليلا:

-        هؤلاء بقية أهلِك الذين تودّ رؤيتهم, وجئت على قدرْ من القاهرة لتبحث عنهم؛ بعد أن أخذتك الغربة سنين عددًا بعيدًا عنهم ..سَكنوا بجوار قبر جدِّك الأكبر!

سألته بحسرة:

-        هل عاصرتَ جدّي يا سيدنا؟

هزّ رأسَه وقال:

-        لحِقت به في آخِر أيامِه .. يختلف عن بقية أهلِك .. كان رجلا طيبًا صالحًا, وهبَ حياته لدفن موتى المسلمين, وأضاعها أعمامك مِن بعدِه، واتخذوها تجارةً لهم!

قلت له في أسىً:

أخمِّن يا سيدنا أن في كلامك لي تهكّمًا .. أم هو معايرة؟

-        هي الحقيقة .. الإنسان بطبعِه يغضب منها, يصمّ أذُنَيه عنها

-        وماذا تنصح لي؟

-        نصحيتي لك يا ولدي .. ارجع كما كنت .. لن ينفعوك بشيء، بمعنىً آخَر .. لا ينفعك قربُك  لهم .. ولا يضرّك البعد عنهم!

-        لكنهم أهلي!

صاح بعصبيةٍ شديدة:

-        قلت لك ابتعِد عن هنا ..اتركهم وشأنَهم .. أمّا أنت فأرضُ مصرَ أولى بك .. ستعود لهم في يومٍ من الأيام.

 

في هذه اللحظة التي أردتُ الخروج فيها من المقابر, كانت الشمس قد اختفت تمامًا, خيّم الظلام الدامس على أرض المقابر, ازداد المكان ظلمةً ووحشة, انشقت الأرض عن سيدِنا, وهو يقف أمامي, وَكَزني بعصاه ..

-        نسيت أن أحذّرك، المشي وسط المقابر في هذه الأوقات أشد خطرًا! وعلى أية حالٍ واصِل رحلتك للعودة مِن حيث أتيت.

وأشار لي على طريقٍ أسير فيه

الخوف والرعب يتملكاني, أحاول الوصول إلى الطريق الرئيسي .. كلام سيدِنا عن أهلي وعشيرتي يشغل بالي, حدثَتني نفسي كيف لي أن أقطع هذه المسافاتِ ولا أراهم  ولا أتحدث إليهم؟! هذه الأرض التي شهِدت مرتع طفولتي ..أغادرها ولا أعلم هل أعود إليها ثانية؟ ربما تُكتَب لي العودة، وكما قال لي سيدنا ستكون النهاية وتسكن بجوار جدِّك الأكبر!