المؤرخون المصريون يُواجهون المؤامرة.. ألاعيب لصوص الحضارة وسارقى التاريخ

المؤرخون المصريون يُواجهون المؤامرة ألاعيب لصوص الحضارة وسارقى التاريخ
المؤرخون المصريون يُواجهون المؤامرة ألاعيب لصوص الحضارة وسارقى التاريخ

ليس مجرد فيلم مُثير للجدل ولا نزوة درامية تحاول إعمال الخيال، ولكنها جريمة مُنحطة فى سياق متآمر يستهدف نشر البلبلة، وسرقة الأمجاد، وتزييف التاريخ، والسطو على بصمات حضارتنا العريقة التى تسكن فى ضمير الدنيا، فما فعله صانعو ومنتجو الفيلم المشبوه «كليوباترا» - الذى تبنت قناة «نتفليكس» عرضه - ما هو إلا إحدى حلقات مؤامرة مكشوفة لانتحال مجد الآخرين وتفوقهم الحضارى، مما أثار غضب حشود المخلصين وفى مقدمتهم المؤرخون المصريون الذين تصدوا لمواجهة هذه الجريمة النكراء التى تستهدف توظيف الدراما لتزييف التاريخ، وتشويه الحضارة، حيث يقترح ستة مؤرخين بارزين خطوات عملية وخارطة طريق لمواجهة تلك الكارثة.


فى البداية يقول المؤرخ الكبير والمحقق البارز د.أيمن فؤاد سيد؛ رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية: نحن فى زمن لا يقرأ فيه الكثير من الناس، وبالتالى يتلقون معلوماتهم التاريخية من الدراما وماشابه ذلك، فإذا لم تقدم الحقيقة التاريخية كما وقعت، يصبح هناك خلل كبير عندما تصل إلى المتلقى، والدراما التاريخية تنتج - حاليًا - عن طريق القطاع الخاص الذى لا يهتم باللجوء إلى المتخصصين من أجل تحرى دقة المعلومات، والإلمام بالتفاصيل؛ كالملابس، والأداء، والمصطلحات المُستخدمة، والمشكلة أننا لا نستطيع التعامل مع هذا التزييف قبل أن يصل إلى المتلقى، وللتصدى إلى التزييف، يضيف المؤرخ الكبير بقوله: علينا أن نكتب مقالات فى جهات مقروءة وصحف عالمية مرموقة تعرف بالحقيقة، كما أنه من المحتم إنتاج مسلسلات للرد، لأن الخطورة تكمن فى أنه بمجرد عرض المسلسل تلتصق المعلومة عند المشاهد، ويصبح من السهولة تشويه التاريخ.


أسطورة العصر الكبرى
التاريخ قضية جدلية، الهدف والمُستهدف منه يحدده المؤلف، بهذه الجملة بدأ المؤرخ وعالم الآثار البارز د. علاء شاهين؛ عميد كلية الآثار الأسبق بجامعة القاهرة، وأضاف: إذا كان إنتاجًا وطنيًا يكون الهدف تعظيم وتفخيم حدث أو شخصية معينة، والعكس صحيح بالنسبة إلى الأجنبى، إذا أراد تحريف التاريخ وتزييفه، ولدينا نموذج لأكبر أسطورة فى التاريخ المعاصر هو إنشاء دولة على أساس دينى، وهى إسرائيل، فتاريخها كله قائم على أحداث دينية، حقيقى أم غير حقيقى؟ مسألة جدلية، جوهر الصراع حتى هذه اللحظة «هيكل سليمان»، موجود أم غير موجود؟ بالطبع غير موجود، لأن المدينة المقدسة دمرت مرتين فى مرحلة تالية لسيدنا موسى «عليه السلام»،  وفيلم «كليوباترا» الحالى نموذج لعملية تزييف التاريخ، نعلم أن الجذور والنشأة الأمريكية كانت من خلال الزنوج الأفارقة عن طريق تجارة العبيد المنتشرة قديمًا، و«الأفروأميركان» - الآن - يريدون القول إن لنا تاريخًا مجيدًا وتليدًا، وأننا أصحاب الحضارة الفرعونية - قصة «الأفروسنتريك» الآن - وهذا غير صحيح تمامًا، فالتاريخ الفرعونى حتى عام 330 قبل الميلاد، والحضارة الإفريقية تأخرت فى الظهور لما بعد ذلك بكثير، ويستطرد د.علاء شاهين، أن الهدف واضح من وراء ذلك وهو تغيير التاريخ وتأصيل حضارة على أخرى، ببساطة نحن مقصرون فى التصدى إلى هذه المحاولات، فنحن دائمًا نخاطب الداخل، لكن يجب مخاطبة الخارج أيضًا من خلال هيئة الاستعلامات، ونشر مطبوعات باللغات الأجنبية.


استباحة تاريخنا
ويقول المؤرخ المتميز د. محمد عبد الغنى أستاذ التاريخ والحضارة اليونانية بجامعة الإسكندرية، إن تزييف التاريخ لأغراض «أيديولوجية» أو سياسية أمر مرفوض تمامًا شكلًا وموضوعًا، والتاريخ المصرى تعرض للعديد من محاولات السرقة والتشويه، ولا ننسى عندما تبجح «مناحم بيجن» رئيس الوزراء الإسرائيلى - أيام كامب ديفيد - قائلًا إن أجداده هم بُناة الأهرام المصرية، وهو أمرعارٍ تمامًا عن الصحة شكلًا وموضوعًا، لأن سيدنا إبراهيم - أبو الأنبياء «عليه السلام» - عاش فى بداية الألف الثانى قبل الميلاد تقريباً، والأهرامات بُنيت قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وبالتالى كلامه كذب صريح وافتراء، ولعظمة الحضارة المصرية وإنجازاتها العظيمة، فالكثير من ذوى النفوس المريضة، والأغراض السياسية الهدامة يتناولون التاريخ المصرى بشكل مُستباح، ويجب الرد عليهم ردودًا علمية موثقة، ولدينا الوثائق، والأدلة والبراهين التى تقنع أى عالم منصف سواء كان أجنبيًا أوغيره.

 

 


أما «كليوباترا» فهى آخر ملكات الأسرة «البطلمية»، وهى «كليوباترا» السابعة، وتنتمى إلى جذور مقدونية بالأساس، حفيدة «أنتيخوس الثالث» أحد ملوك الدولة السلوقية - كانت فى سوريا وفلسطين وبلاد مابين النهرين - وإبنة بطليموس الثانى عشر، وتولت حكم مصر، وهى فى السابعة عشرة من عمرها فى الفترة من 51 إلى31 قبل الميلاد حتى موقعة «أكتيوم» التى انتصر فيها «أوكتافيوس» على «ماركوس أنطونيوس» الذى كان زوجًا لكليوباترا، بكل التفاصيل التاريخية، هذه الملكة ليست لها أية جذور إفريقية، أمر محسوم وما يحدث الآن «فبركة» تاريخية لأغراض سياسية و«أيديولوجية»، والرد العلمى الرصين بالرجوع إلى المصادر العلمية والأكاديمية الحقيقية هو الطريق الأفضل لمواجهة الافتراءات، وعلى الإعلام دور كبير من خلال استضافة العلماء والأكاديميين ذوى الثقل العلمى لتقديم مالديهم من القرائن، والمستندات العلمية التى تدحض هذه المزاعم.


تآكل الوعى!
وتقول مؤرخة الأدب والناقدة السكندرية د.كاميليا عبد الفتاح: نحتاج قبل تناول هذه المسألة إلى استعادة الوظيفة، أو الوظائف، التى تضطلع بها الفنون، ومنها فن الدراما، المرئية والمسموعة، من هذه الوظائف: الإمتاع، النظر إلى الحياة من وجهة نظر صُناع العمل الدرامى - وعلى رأسهم المؤلف  والمخرج - استثارة الوعى بالواقعين: المجتمعي، والوجودى عامة، بما يتضمن إضاءة حقائق التاريخ، واستشعار خُطى المستقبل، ومن هذا المنطلق، يؤدى تزييف التاريخ فى الأعمال الدرامية إلى تخريب الوعى - أو إضعافه أو تشتيته - من خلال الوجبات الفنية القائمة على المغالطات والأكاذيب، ويُفضى بنا هذا إلى عجز الدراما على تزويد الفرد - والمجتمع - بأية فائدة سوى التسلية والمتعة الآنية العابرة، التى يضعف تأثيرها بمرور الوقت، وتوالى الأجيال، وتغيّر الثقافات والذائقة التى تستقبلُ الدعابة، نحنُ فى هذه الحال أمام مشكلتين كبيرتين: تآكل الوعى المجتمعى بالهوية والتاريخ والوضعية الحضارية، وتراجع قيمة الفن بسبب انسحابه من ساحة  التأثير فى تشكيل الوعى والحفاظ على الكينونة. 


ضد الأفكار المُمنهجة
أما المؤرخة البارزة د.وفاء أبوبكر أستاذ التاريخ اليونانى بجامعة الإسكندرية فتقول: من الضرورى أن يكون هناك تحرك سريع من الوسائل الإعلامية المختلفة، ولا نكتفى بمقال أو عدة مقالات بالصحف، بل لابد من إنتاج فيلم تاريخى قوى يوضح الحقائق، ولا نترك تاريخ مصر الحضارى العريق لهذه الأفكار المُمنهجة للذين يريدون تزييف التاريخ كما يشاءون، وأرجو من جميع الإعلاميين تحرى الدقة والتواصل مع الأساتذة المتخصصين فى التاريخ بمراحله المختلفة للحفاظ على تاريخنا، حتى تستطيع الأجيال الجديدة فهم التاريخ بدقة أكبر، ولا نتركهم للتزييف الدرامى والأدبى.. وفى ذات النسق يتحدث المؤرخ د.محمد رمضان مدرس التاريخ اليونانى والرومانى بآداب القاهرة قائلًا: التزييف الدرامى للتاريخ أصبح مُثارًا بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، فليس كل الطبقات تقرأ التاريخ من الكُتب والمراجع التاريخية المتخصصة، ولكنهم يعتمدون على الدراما فى معرفة التاريخ، وهنا تكمن الخطورة لما لها من تأثير كبير، وفى الفترة الأخيرة جرى عرض أعمال تاريخية تحمل العديد من الأخطاء العلمية الفادحة، وهو ما يبقى - للأسف - فى الأذهان، وللتصدى إلى مثل هذه المحاولات للتزييف والتشويه، لابد أن نقرأ التاريخ من مصادره الحقيقية، وليست المُزيفة التى تحاول تحقيق أغراض سياسية و«أيديولوجية» من وراء ذلك، لذا يجب أن يقوم الإعلام بالتوعية بتاريخنا من خلال مجموعة من المتخصصين، وأن يجرى إنتاج أفلام وثائقية دقيقة وحقيقية بعيدًا عن التزييف، والاهتمام بالدراسات الاجتماعية التى يدرسها الطلاب فى مراحل التعليم الابتدائى والإعدادى، ويجب أن يحصل الطالب على معلومات دقيقة وحقيقية فى هذه المرحلة تحصنه من محاولات التزييف والتشويه والسرقات التاريخية.