علاء زريفة: تحررت من فكرة الأدب كرسالة

سلوى عباس تكتب : علاء زريفة: تحررت من فكرة الأدب كرسالة
سلوى عباس تكتب : علاء زريفة: تحررت من فكرة الأدب كرسالة

بدءاً من ديوانه «المسيح الصغير» مروراً ب« شوكولا» و«شيطان» وصولاً إلى ديوانه «عازف الكلاشنكوف الضرير» يرسم الشاعر علاء زريفة ملامح تجربته الشعرية، ليحقق حضوراً لافتاً على خارطة الشعر السورى والعربى فى فترة زمنية قصيرة، فهو كما يعرّف نفسه إنسان بسيط، يتعامل مع الحياة ومعطياتها بطفولة وبساطة وبراءة، لكن شعوره تجاهها، وما يعتمل بداخله من أحاسيس ومشاعر ليس سهلاً، فأبسط الأمور تسبب له القلق وتجعله يسهر ليلة كاملة دون أن يعرف تفسيراً لهذه الحالة، منقذه الوحيد هو الشعر الذى يمثل صديقاً قديماً يلجأ إليه دون تكلف أو تصنع، وبالتالى يفسّر حقيقة مشاعره وانطباعاته عن كل شىء يحسّ به ويعيشه.

زريفة مشغول بهمومه وهموم الآخر الذى هو إنسان هذا الزمان المحاصر والمسحوق غالباً، والباحث عن الأمل، يرتل له زريفة فى دعوة لقيامة وانقلاب على الكابوس الذى يرزح تحته هذا الإنسان، وكأنما يعمل زريفة على أن يصب فى كل مجموعة من مجموعاته الشعرية عصارة أفكاره وما أثمرت عنه سنوات عمره من تجارب وأفكار، أمال وآلام، انكسارات وخيبات أيضاً، يلقيها هكذا فى وجهنا يتخفف منها ينزلها من على كتفيه عازماً على المغادرة خفيفاً.

أفكار فلسفية ورؤى أوردها الشاعر زريفة فى مجموعته الشعرية «عازف الكلاشنكوف الضرير» والتى ضمنها خلاصة تأملاته فى حالة الخراب والدمار الذى يعيشه الوطن بسبب عبثية الحرب التى قلبت معايير الحياة وموازين الزمن رأساً على عقب، لكن برغم الألم والهم الخاص لا بد للشأن الوطنى أن يكون حاضراً، وقد كان شاهداً على الآلام والآمال فى سنوات الحزن الأخيرة التى عاشها أبناء هذه الأرض، حزن كان لا بد أن يصبغ بعضاً من بوح شاعر يحمل الوطن فى قلبه ووجدانه.

تجربته الشعرية مستقاة من الحياة إذ يرى أن كل شخص فى هذه الحياة يرى الدنيا من منظوره الخاص الذى صنعه لنفسه، فيُكْبِر ما يتناسب مع أفكاره ويهمش أو يحذف ما لا يتناسب مع هذه الأفكار، والموضوعية التى ندّعيها كثيراً ما تكون خرافة، فحتى لو اعتقد الإنسان أنه موضوعى فلابد أن تحتوى نظرته على جانب كبير من الذاتية.

وفى بعض قصائده يسعى الشاعر إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛ فهى لغة تكاد تكون خاصة به، لغة تنطلق من الواقع ومن وعيه بأدواته الفنيَّة، ولعل عبارة الشاعر هانى نديم فى تقديمه لمجموعة «عازف الكلاشنكوف الضرير» بأن الشاعر أطلق نار الشعر المقدسة فى كل الاتجاهات ليحررها من صمتها، تلك النار التى تقتل وتحيى معاً» تعبّر أصدق تعبير عن رؤية الشاعر زريفة للشعر، وللوقوف على تفاصيل أكثر فى مجموعة «عازف الكلاشنكوف الضرير» كانت لنا هذه الوقفة مع الشاعر علاء زريفة التى بدأناها بالسؤال حول عنوان المجموعة وإلى أى مدى مستوحى من أجواء الحرب التى عاش تفاصيلها فأجاب:

وفى آخر ثلاث أو أربع سنوات من خدمتى العسكرية بدأت باستخلاص نتائج هذه الحرب من خلال تجربتى الشخصية، فجاء العنوان بشكل شخص يطلق النار أنا أسميته عازف لكنه ضرير، فالضرير يطلق النار بشكل عشوائى، وأضاف علاء: خلطت أيضاً مابين فكرة الحرب بشكل عام ومابين الحرب الشخصية وفكرة وجود الإنسان أو انطلاقه من العدم، من عدم الولادة لعدم الوجود أصلاً، هناك عزف على وتر المقدس ومحاكمة هذا المقدس، ففى نص «ابن الله ينزل عن الصليب» حاولت مقاربة هذه الفكرة وقيمة أن الإنسان يموت فداء لأشخاص آخرين، والغاية من محاربة فكرة الخطيئة، إذا كانت بالأصل موجودة فى الإنسان الذى على مر البشرية كلها يعود ويرتكب الأخطاء ذاتها، فالعنف واغتصاب حرية الإنسان موجود على امتداد التاريخ البشري.

وتابع حديثه: أيضاً قراءاتى لسيوران كانت بالنسبة لى هى المدخل لفكرة العدم، فهو تحدث عن عدم الوجود وأنا رغبت أن أكون متمرداً أكثر بشيء متخيل أن أحداً ما لايزال موجوداً فى رحم والدته لكنه يحاول أن يتبصر هذا العماء الخارجى، كما فى نص «طائر آخر يطرد من الجنة» إذ اعتبرت أن هذا الرحم هو الجنة الحقيقية بالنسبة لكل إنسان يعيش فيه، وهو أساس سكينتنا.

حواسى الخمس مشت فى جنازتى

كنت كاملاً بكل نقصانى

وكأن طائراً آخر

يُطرد من الجنة

وعن تجديده بتقنية الكتابة مابين هذه المجموعة والمجموعات الأخرى قال علاء:

فى المجموعات الأولى أسرفت بالاتكاء على الأسطورة، كنت أبحث دائماً عن بطل لقصيدتى أحمّله عبئها، لكن فى هذه المجموعة اتكأت على أناى الشخصية وأن المصير الفردى يمكن أن يكون سوداوياً جداً لشاب دخل فى معترك هذه الحرب وخرج منها صفر اليدين، خسر فيها حياته والكثير من أحلامه كشاب موجود فى هذا البلد، فحاولت الاعتماد على المأساة بأن تكون هى البطلة، وكذلك اعتمادى على الدراما والحوار الداخلى، كما اعتمدت على السرد فى الكثير من المقاطع كنت أكتبها بشكل سردى أو نثرى، وهناك قصائد كثيرة فى المجموعة تدور حول هذه الفكرة مثل قصيدة «أيها الطغاة المبجلون» أنا أحاكى هذا التاريخ البشرى كله، وخرجت من فكرة الأنا الشاعرة أو الشاعر المخلّص المبصر الرؤيوى، ففى هذا الزمن أعتقد أننا نكتب ذواتنا بالدرجة الأولى، أى نكتب تجربتنا الشخصية وإسقاطاتها على هذا الواقع الذى يمكن أن يشبه كثيراً أناساً يحبون أن يسمعوا هذا الكلام، أو أحداً يتحدث عن الأمور التى يفكرون بها ولا يستطيعون التعبير عنها بالصيغة التى يمكن أن يقولها شاعر، وهذا الذى اعتمدت عليه بالدرجة الأولى.

-تحررت من فكرة الشاعر كنبى أو كمخلص، ولكن ما الرسالة التى يمكن أن يقدمها الشعر فى عصرنا الراهن؟

أنا خرجت عن فكرة الأدب كرسالة وحتى الفن بشكل عام، أنا أتوقع أنه تاريخ لحياتنا الشخصية مع هذه الحياة أو مع هذا العدم الذى افترضته بنصى، وبرأيى على الإنسان أن لا يحمّل نفسه عبء التاريخ وعبء الرؤية الخارقة أو المتجددة، فالحياة أبسط بكثير، وكذلك الشعر يمكن أن نحرره من هذه الايدولوجيا، وأنا لا يعنى لى كثيراً أن أكون صاحب قضية، فقضيتى الأساسية هى الإنسان.

-هل يمكن القول إنها حالة تمرد على القضايا التى حملها الشعر على مر التاريخ؟

أنا تقريباً قتلت جميع آبائى فى الشعر، وكنت حتى المجموعة الثالثة متأثراً بشدة بالشاعر محمود درويش فحاولت أن أقلده حتى أثبت نفسى، فهو أعطى مأساة الإنسان الفلسطينى بعدها الإنسانى، وأنا كنت أتحدث عن الإنسان العادى بيومياته وتفاصيل حياته والضغوطات المتعددة التى يعيشها، كانت الفكرة بالنسبة لى تدور حول الصراع ضمن دائرة الحرب السورية، إنسان يحارب هذا المقدس الذى يمكن أن يتحول إلى سلاح ضده، أى يقتل فداء لهذا المقدس وحتى من أجل ادعاءات دينية يمكن أن تكون مزيفة تُحمّل مالا تستطيع أن تحمله، هذه هى الفكرة التى حاولت أن أشتغل عليها.

وفى المجموعة الثانية بقيت متأثراُ بمحمود درويش وفى المجموعة الثالثة أتوقع أنى كنت أعيش فى الصحراء فحاولت أن أخرج هذا النص الخام كما هو دون أن أشتغل عليه كثيراً من حيث التعبيرات والفعل الثقافى المعرفى، وهناك نصوص حاولت فيها أن أتبنى فكرة نيتشه كبطل لقصيدتى وفكرة المهدى أو المخلّص، أنا لم أكن أنتظر خلاصاً ما ولا أطلب من القيامة الغفران، أنا كنت أريد أن أعيش مصيرى الشخصى كما هو وأموت بالطريقة التى أحبها.

إلى أى مدى وظفت دراستك للتاريخ فى خدمة نصك الشعرى؟

أعتقد أنى تأثرت بدراستى للتاريخ فى المجموعتين الأولى والثانية، وربما لاحظ قارئ المجموعتين مدى اتكائى على التاريخ والأسطورة، لكن فيما بعد كما تخلصت من آبائى الشعريين حاولت التخلص من أثر المثيولوجيا، وفقاً لنصيحة الشاعر السورى عادل محمود الذى قال لي: «اكتب حياتك وتجربتك الشخصية لأنها هى المعيار، لا تستطيع الاتكاء على الأسطورة مثل أخيل أو حتى عطيل، ولا تستطيع أن تأخذ القصة المباشرة وتركّب عليها قصتك، فزمنك يختلف عن زمنهم.. حاول أن تخلق من هذه الأسطورة شيئاً جديداً، لأنه دائماً وبكل الأزمان يوجد أخيل وعطيل ودونكيشوت، وكلنا فى مكان ما فى مواجهة هذه الحياة أو هذه الضغوطات، دائماً نحمل شيئاً من دونكيشوت الذى يرمى سهمه باتجاه أعداء ما»، أنا دائما حامل للقصص التاريخية وحافظها وأبقى أكررها وأناقشها مع أشخاص وأصدقاء مقربين، وفيما بعد أصبحت أرى الشعر حاجة فى هذا العصر، بحكم أن الشاعر اليوم ليس هذا النجم الأوحد فى زمن الاتصالات السريعة وثورة التكنولوجيا، فهو باعتقادى يجسد تجربتى الشخصية بالدرجة الأولى، وإلى أى مدى تلامس هذه التجربة الشخصية حياة آخرين موجودين معى، وما أكتبه يلامس هؤلاء الناس.

هل نستطيع القول إن وعيك الذاتى أو وعيك الحياتى جسدته عبر قصائد هذه المجموعة؟

أتوقع ذلك، وهذه المجموعة أكثر مجموعة أحببتها لأننى كنت أكتب بشكل فوضوى بعيداً عن فكرة إصدار مجموعة جديدة، لكن عندما جمعتهم شعرت برابط بينهم، شعرت أن هذا الإنسان الذى هُزم بشكل ما فى الحرب يحاول أن يعبّر عن ذاته أو أنه يريد أن يعود ويطلق النار بطريقة ما.

انطلاقاً من فكرة إن العنوان عتبة أولى للنص أراك تختار عناوين غريبة ومختلفة، إلى أى مدى تدرس العنوان بما يجذب القارئ ويثير فضوله لقراءة الكتاب؟

فى معظم العناوين، ففى المجموعة الأولى كنت أبحث عن مخلّص، فأسميته «المسيح الصغير»، هذا الشهيد الذى يقاتل فى سبيل الوطن ويحارب عنه.. يحارب عقلية ويدمر ثقافة، يدمره ويهدمه ويعيد بناءه.. اعتبرت فكرة الموت ليس لمجرد فكرة الفداء وإنما لبناء شيء ما، ربما كنت رومانسياً بهذا الطرح فأسميته «المسيح الصغير» حتى أن هذا العنوان رُفض رسمياً لأنهم اعتبروه مساً بالدين.

أما مجموعة شوكولا فاعتبرت أن هذا العنوان يمكن أن يكون جذاباً ناعماً، كنت أؤرخ تاريخ علاقتى العاطفية بإنسانة ما فاخترت عنوان «شوكولا» واعتبرت أن الحب يشبه قطعة الشوكولا التى نأكلها يبقى طعمها مرافقاً لنا إلى الأبد، أما فى «شيطان» فكنت أعيش فى الصحراء لا أرى أحداً، كنت دائماً غضوباً وعصبياً وانفعالياً، فكنت أترك النص الذى أكتبه كما هو دون أى رتوش، فأسميته «شيطان» وكانت الفكرة أن اسميه شيطان برىء، بمعنى أنه لماذا لدينا تصور نمطى لفكرة الشيطان المحرض للشر والدافع باتجاه الخطيئة، ذلك الكائن الذى يمكن أن يجعل الإنسان يرتكب ذنباً ما، أعتقد أن هذا العنوان هو خلاصة تجربتى بكل مراحلها، فأنا لم أكتب بظروف مثالية أو مترفة، أجلس إلى طاولة وأكتب على ضوء الشموع، كنت أكتب فى «المحرس» أثناء خدمتى العسكرية على المحرمة أو ممكن أكون فى نقطة بعيدة مثلاً تحت خيمة.. معظم قصائدى كتبتها بهذا الجو، وعندما انتهيت من الخدمة العسكرية لم أكتب كثيراً، ربما لأننى فارقت هذا الإحساس الأول، وربما أصبحت أحتاج لتجربة جديدة أو اختبار لوجودى كشخص.. ممكن علاقة عاطفية، ممكن حالة جنون ما يخرج شيئاً من داخلى، لكن بالتأكد لن أكتب شيئاً لا يشبهنى، ومجموعة «عازف الكلاشنكوف الضرير» أراها تشبهنى، وحتى بقصائد الحب كنت أحاول استكشاف الحب وصورة المرأة الأولى، وختمت المجموعة بقصيدة «أمى صباح الخير» فبعد كل هذا العدم والصراع والصدامية مع هذا العالم الإنسان يعود للأم وحضنها، وبالنسبة لى أمى هى أهم كائن بحياتى ورغبت أن أقدم لها شيئاً تذكارياً.

أمى

صباح الخير

أزور نعناع وجهك..أرشه بندى الابتسامة

أداعب بكفى رؤوس الحبق فى بستان شالك

أزكيّه بملح العاطفة

أفرش ماجنيته من زعتر برى على أرض دارك

وأزكم كأس شايك الصباحى بدمعة

أمشى على إيقاع ظلك العالى

كمن يتمشى فى جنته

-ربما لا تدرك والدتك كثيراً ما تتضمنه المجموعة لكن عندما تحدثها عنها كيف تلاقى تقبلها لها، أو تفاعلها معها كأم وكإنسانة ثقافتها الأساسية الحياة؟

بصراحة أمى من أوائل الناس الذين قرأت لهم قصائدى، وربما كنت أقرأ لها من باب المزاح أو التسلية فكانت تشتمنى وتقول لي: «بدك تضيّع حالك»، أما بصفة عامة فأمى ليست من النوع الذى يستهويه هذا النوع من الشعر، يستهويها الشعر الذى فيه موسيقى ويشدها أكثر، لكن أمى دائماً موجودة بقصائدى، فالأنثى بالنسبة لى هى الشكل الآخر لأمى، لأنى دائماً أرى نفسى طفلاً وبحاجة لمن يساعدنى ويعمل شيئاً عنى، والأم هى الوحيدة التى يمكن أن تعمل هذه الأشياء بدون مقابل، وحتى عندما أحببت كانت الحبيبة تتمثل لى كأم أخرى. وحتى النصوص التى كتبتها هى إعادة إحياء لشيء بقى فى حنايا الروح.

وكيف هى علاقتك بوالدك؟

جيدة، لكن ربما عندى فكرة المتنبى الذى كان دائماً يخفى والده لأنه وفقا للروايات التاريخية كان سقاء، فكانت مهمته لا تليق وكان المتنبى ينظر لمواهبه ومكانته كشخص موهوب جداً، فكان يعتبر أن هذا الأصل قليل جداً عليه، وفى بيت شعرى له يذكر فيه أمه يقول:

لو لم تكونى بنت أكرم والد/ لكان أباك الضخم كونك لى أمّا

كان يعتبر أن وجوده هو فخر أمه وموهبته هى بمثابة الأب الذى أنجبه، طبعاً أنا ليس عندى هذا الغرور والنرجسية التى عند المتنبى، لكنى أركز على فكرة الأمومة والأنثى وأعتقد أن الشاعر أو الإنسان لا يمكن أن يعيش حياة طبيعية دون أن يدرك هذا الجزء الأنثوى بداخله، أو يحترمه، ففى كل أنثى رجل ما، وفى كل رجل أنثى، فإذا الإنسان لم يفهم هاتين الطبيعتين المختلفتين بداخله لا أعتقد أنه يمكن أن يعيش متوازناً، ففكرة عدم وجود الأنثى أو عدم وجود الأم وعدم الإشباع من هذه المشاعر العاطفية وعدم اعتراف الإنسان بضعفه أمام هذه الحالة هو نوع من الإنكار حتى يؤكد شخصيته الذكورية أو السلطوية.