ممدوح رزق يكتب: كل يوم تقريبًا: أحجية الضجر

كل يوم تقريبا
كل يوم تقريبا

ثمة مهمة أساسية النقد الأدبى وهي الكشف عن التشذر الكامن فى ما يبدو بنية متماسكة موضوعها «التيه» أو «الاضطراب» أو «التأرجح»، الحديث هنا ليس عن «المعنى» أو «المسكوت عنه» بالتعبير الشائع، وإنما عن الاندماج والتشابك بين فقرات سردية متباعدة شكليًا ضمن الترتيب السردي، الحديث هنا عن أسلوب خفى فى نظام اللغة تتجاور داخله وتتصل وحدات حكى منفصلة فى الظاهر، وحين تعيد إليه الممارسة النقدية وضوحه فإن العلاقة الجدلية بين هذه الوحدات تصبح متنًا مستندًا إلى هوامش البنية المعلنة أو فراغات النسق المشيّد للكتابة.

لنتفحص مثالًا لهذا من رواية «كل يوم تقريبًا» لمحمد عبد النبى والصادرة عن دار المحروسة:

«قبل سنين من رحيل أبيه الحقيقى كان قد خطف لمحة حلوة من أبيه الذى فى السماء. كان فؤاد طفلًا رضيعًا، محمولًا على ذراعين مطويتين لرجل أسمر. الرجل ثابت مثل تمثال، كأن شخصًا ما ترك الرضيع هناك بين يدى التمثال وذهب، وكأن الرضيع انتبه للوجه الثابت للرجل الغافل أعلاه، وتطلع إليه وضحك أو نغى محاولًا لفت انتباهه؛ فانتبه عندئذ التمثال من جموده وحرك رأسه خافضًا بصره نحوه وباسمًا كأحلى ما يكون البسم. بدا كأنه ملك الملوك وهذا الرضيع فؤاد أول أولاده، أو ربما ولده الوحيد».

اقرأ ايضاً| منصورة عز الدين تكتب: كأن الديستوبيا هي الأصل

و«بعد فترة لا بأس بها، روى هذا الحلم فى ساعة صفاء لصديقتين طيبتين؛ إحداهما كانت معها طفلتها الصغيرة يتيمة الأب، ربما كانت فى الخامسة أو السادسة آنذاك، وقد تحمست للمشاركة فى التأويل قائلة ما معناه إن من يُحمل إما العروسة فى يوم زفافها وإما «البيبي»، فأجابها ضاحكًا إنه ربما يكون هو الإثنين معًا».

«كان يجد صعوبة شديدة فى النوم؛ لذلك اختار ثلاثة معلمين، يتباينون فى شكل الوجه وتكوين الجسد  بقدر الإمكان  لضمان التنويع، وأخذ يبدل بينهم كل ليلة فى تشكيل خيالات فاحشة».

«ويزوره أيضًا، فى عز الليل، هذا الرجل أو ذاك، ممن لا يناقشون كتابات أو يكترثون لأفكار، يريدون فقط أن يفرغوا فيه، على عجل وبلا متعة حقيقية، عبء شهوة تثقلهم».

مقاطع متفرقة لا يبدو أنها ترتبط بمنطق أو انسجام، ولكنها حين تتعاقب بهذه الكيفية دون حواجز سردية أخرى فإنها تكشف عن أساس للبنية المخبوءة للرواية، يُظهر التلاحم بين هذه الشظايا عن أن أجساد «الرجال» تشكّل ممرًا قهريًا لمحاولة الوصول إلى «رجل» الحلم، إفراغ شهواتهم محاولة عسيرة وشائكة لإرضاء شهوة «الأب» الغائب، ومن ثمّ الحصول على «ابتسامته» بكل ما يمكن أن تعنيه وينتج عن حدوثها.

و«لفت انتباه» ملك الملوك غير المرئى الذى لا يقودك لأن تكون «بيبى» السماء، أو عروسها، «لفت الانتباه» الذى يعادل نبذ «التمثال»، استبداله بالأجساد الحقيقية، انتهاك وهمه عبر «المتع الحية» بكل ما تنطوى عليه من ألم، هكذا تقوم إعادة تشكيل «الشذرات» بانتزاع «الكتابة» المتوارية داخل المتن المعلن انطلاقًا من مساحاته الصامتة، المهمة التي، لاعتبارات عديدة، يتخذ الحديث عن الأفكار والرؤى موضعها ومساراتها فيصبح تأويل العمل مشيرًا بصورة ضمنية إلى تفكيك نظامه اللغوى دون تبيين لهذه الخلخلة التى تستهدف تكوينها، أيضًا تناول «البنية» المضمرة بهذا المسمى لا يعكس استقرارًا بديلًا، وإنما صلات مدبّرة بين مواطن مستترة لتحفيز التشتت، مكامن للتجاوز «تبنى» فى ما بينها تواطؤًا حكائيًا كطيف مخاتل.

«ثم اضطر هو نفسه للانصياع بعد أيام معدودة من تلك الواقعة، وقال: «كنت سأطلقه آجلًا أو عاجلًا على كل حال»، وقال: «أنا فى غِنى عن أى مسؤولية زيادة». وكتب فى ذلك الوقت فى دفتر يومياته: «الجرو الآن فى الشارع يلعب به الأطفال، ربما هذا هو الأفضل له، ولي، وللجميع.، لا أدري. على الأقل، فى الشارع سيلعب ويمرح، ويعتاد على أن يصنع حياته ويعثر على أكله بنفسه، مثلنا جميعًا يعنى».

أفكر فى «الأشباح» داخل الرواية باعتبارها تكتب نفسها بواسطة حياة «فؤاد»، لكن هذه الكتابة لا تجسّدها أو تعيّنها ذهنيًا، أى الأشباح، وإنما تضمن محوها، تجرّد صورها من المعرفة، تبقيها «أشباحًا»، حياة «فؤاد»، ككل حياة، تُستعمل لهذا الغرض، غير أن هذا الاستعمال فى حد ذاته ليس «كتابة» بالنسبة لفؤاد إلا حينما يفكر هو فى ذلك، الوعى الذى قد يتمثّل فى «خلق» أو «تدوين» أو «توثيق»، أو حين يظل «فكرًا» وحسب، الكتابة عند «فؤاد» هى نقيض الاستعمال، النقيض الذى لا يضع حدًا للاستعمال، ولكنه يمتلك إمكانية تقويض «مفاهيمه» المتسلطة، يتوقف «فؤاد» عن كونه «مستعملًا» حينما يوقن بأنه كذلك، حينما يربط هذا اليقين بما يتخطى الأيدى الملموسة التى تحرّك خيوطه، حينما يكتب، بأى طريقة، عن كونه «كتابة» أشباح.

«نعم، أى هؤلاء فؤاد؟ أليس من المستحسن أن نرسم له صورة مبدئية؟ فهو شخصيتنا الرئيسية، وربما شخصيتنا الوحيدة، وقد شرعنا نتحدث عنه هكذا، بلا مقدمات، وكأننا متفقون حول من يكون. أليس من الضرورى أن نضع له تاريخًا مختصرًا حتى ننطلق من شيء ملموس؟».

وعلى هذا النحو يمكن النظر إلى «الأشباح» وكأنها المزيج السرى الذى يتكوّن منه «رجل الحلم»، كأن كتاباتها / حيوات الواقع هى رسم «تعتيمي» للأب الغائب، لهذا فكتابات الأشباح دائمًا فى حالة صراع / اقتتال / إقصاء متبادل، الكتابات التى لا تجعل للتمثال معنى حيث يمكن لكل كتابة أن تحل مكانه، أن تصير هو ونقيضه معًا، تثبته وتنفيه، تشير إليه وتطمسه فى نفس الوقت، هل هذا هو تعريف «الشر» كوجود شامل؟ بصفته الاستحواذية التى تستبعد ما يُحتمل أن يكون ضدًا له؟ إن هذا تحديدًا ما يجعل الكتابة البشرية نقيضًا لكتابة الأشباح، الكتابة البشرية -كما ذكرت فى كتابى «الشر عاريًا» حول المقارنة بين قصائد «يانيس ريتسوس» ولوحات «رينيه ماغريت»- تمثل «انتباهًا» أو «إفاقة» بشكل ما على أن الجسد ليس إلا كتابة أشباح، هذا يشبه تغييرًا رمزيًا فى المعادلة أو ما يطلق عليه «انقلاب السحر على الساحر» على مستوى الفكر، الكتابة البشرية تستخدم حينئذ كتابة الأشباح  حيواتها المجهولة فى ملامسة عمائها ببصيرة أخرى، لا ترى ولا تكتشف، ولكنها تحدس بكينونتها الغامضة، بفنائها الحتمى كما لم تفعل من قبل، نتحدث عن غضب، ثأر، الرغبة فى امتلاك ذات غيبية تعويضًا عن نفسٍ مؤقتة حتى ولو كان ذلك غير مدرك ل «الكاتب» الذى تحوّل إلى لاعب مع الأشباح، إلى شبح مضاد، الشبح القادر بالضرورة أن يكون هو نفسه «رجل الحلم»، أن تكتب صيغًا لغوية كالآيات عن حياتك، أن تحاول «الاختباء» من روحك، أن تكون الشيء وعكسه، أن تكون «أبًا» لنفسك فقط، أن تحاول تحطيم «تمثالك» كى لا يبقى لك أثر.

«كان مجرد العثور على ورق أبيض متاح للكتابة والرسم غنيمة كبرى، ولا نعرف أيضًا كيف قرر أن يتخذ منها مساحة ليملأها بملاحظات عمّا حدث له خلال يومه».

وإذا كان بالإمكان الشعور بأن ثمة صدى متوقعًا لكل خطوة يتحركها «فؤاد» فى الرواية منذ اللحظة الأولى، صدى جاهز، مترصد، محتوم، يدهس النجاح والإخفاق، الحرمان والإشباع، الاندماج والانعزال إلخ، وأن هذا الصدى ليس سوى «الضجر»؛ فإنه فى الحقيقة ليس «صدى» وإنما «أصل» وما خطوات فؤاد إلا أصداءً له، الضجر المتجذر فى مقولة سيوران «الأيقونية» والتى لم يتراجع صوتها الباطنى أثناء قراءتى ل «كل يوم تقريبًا»: «لا أقاوم العالم، أقاوم قوة أكبر! أقاوم تعبى من العالم».

و«كان الاندماج التام فى فِعل الكتابة هو طريقة صاحبنا لمواجهتنا والهرب منا فى نفس الوقت، وقد أخلص فى ذلك كأن خلاص العالم كله متوقف على ما يكتب وكيف يكتب، والحق أنه لم يكن يريد إلا خلاصه هو، وإن كان خلاصًا مؤقتًا سريع الزوال، له مفعول قرص مُسكّن يعدنا بملكوت السماء فى غفوة ننتزعها من بين أنياب السهر والحُمّى». 

لنتأمل استفهام «الحنين» الذى تضعنا الرواية فى مواجهته، لننتهز الفرصة -كما يفعل البعض -ونستدعى صيغة التساؤل الشهيرة عند «ريموند كارفر»: عم نتحدث حين نتحدث عن الحنين، نتحدث عن ما يبدو «تبرؤًا» ملحًا من «عاطفة ساذجة» فى مقابل استخدام مفردات ومجازات وتركيبات لغوية تنتمى إلى ما يمكن تسميته ب «معجم الكتابة البدائي» فى حياة الكاتب بكل ما يتضمنه من عواطف طفولية أقرب للكليشيهات، الاستخدام الذى يتم فى مواضع سردية لا تخص ذلك الماضى، وإنما باعتبار هذه المفردات والمجازات والتركيبات  أدوات عفوية لحكى الحاضر أو ما أصبح لاحقًا لذلك الماضى، الأدوات التى لا يبررها تعمّد توظيف أسلوب «البوح البسيط» وحده، حيث إن ذلك الاستخدام ليس الشرط اللغوى الوحيد ل «الفضفضة»، نتحدث عن أن كل رغبة «متحسرة» فى استعادة زمن ما تنطوى بالضرورة على ما يتجاوزه، الدافع الأعمق الذى قد لا يكون مستوعبًا لمن يشعر بالحنين، الحصول على ذلك التحرر الغامض الذى كان هذا الزمن وعدًا له بطريقة أو بأخرى دون أدلة فعلية على ذلك، ما يسبق الوعى بأنك لا تمتلك قدرات سحرية حين نتذكر «فالتر بنيامين»، نتحدث عن الرفض الراسخ فى النفس، وبلا مصارحة أحيانًا أو غالبًا، لعدم امتلاك قدرات سحرية.

وهو ما قد يجبرنا بالتمادى الذى لا يتعطل لسطوته على التطهر الانتقامى من ذواتنا القديمة التى كانت تؤمن بهذه القدرات داخلها وفى أغوار العالم، نتحدث عن أن استخدام «معجم الكتابة البدائي» هو الباطن الماكر للتبرؤ من النوستالجيا، الرغبة المخبوءة للحاضر فى استعادة البدايات، كل بداية محتملة ربما يمكنها  فضلًا عن العودة «المستحيلة» للحياة نفسها كما كانت استرداد هذه الإمكانية المبهمة الضائعة للانفلات غير المفهوم من شروط الواقع، الإمكانية التى كان الواقع ذاته يتعهد بتحقيقها ضمنيًا وبصورة مستترة تمامًا، نتحدث عن أن كل «حنين» هو تكذيب للماضى بما أنه يتضمن دائمًا مطالبة بتنفيذ معجزات مجهولة تتعدى ما نتصوّر أنه كان صادقًا فيه معنا.

ولنتحدث عن أن كل «حنين» هو قتل للماضى بما أنه يتضمن دائمًا إرادة القبض على ما يتخطى حدوده المباشرة التى عاشها المرء بالفعل، مرة أخرى نحن نتحدث عن استجواب غاضب تجاه خيانة ملغزة «الإيماءات المخادعة للطفولة مثلًا» ربما نعتقد أننا سنكون أفضل حالًا لو لم نعترف بها، شهوة للثأر من السر الملتبس «الخارق» للخيانة ربما نعتقد أننا سنكون فى أمان لو تظاهرنا بعدم مطاردته أو تغافلنا عن محاكمته، نتحدث عن ما يختبئ طوال الوقت داخل المحاولات المستمرة لإثبات التخلى أو التجرد من «السذاجة».

«ثم إنه يسمع النداء باسمه فيفيق وينهض، طوعًا أو كُرهًا. عندما نزل فؤاد (قبل عامين أم قبل خمسة أم سبعة؟) منخطفًا على السلم، ملبيًا صراخ أمه الملتاع، لم يعرف آنذاك أن نداءها هذا باسمه سوف يتواصل على مدار السنوات التالية».

فى كتابه «مفهوم الفزع» يتناول سورن كيركيغارد علاقة الفزع ك «لانهائية للإمكانية»، يستهلك كل النهايات المحدودة، بدوار «الحرية» والشعور ب «الذنب» - دون محدودية - الناجم عنها، بصرف النظر عن «الحرية» و»الذنب» كما يحددهما السياق الدينى أو «الإيماني» عند كيركيغارد؛ فإننى لا أقاربهما إلا بوصفهما عتبتين «لغويتين» خبيثتين، بالمعنى السيئ  للخبث، تفضيان  بالمنطق الواجب الإنسانى والأخلاقى والفلسفى  إلى هدم خرافاتهما، وبالتهكم اللائق لو أمكن، إننى أنظر إلى النداء الصارخ للأم على فؤاد بطل رواية «كل يوم تقريبًا» لحظة الوفاة المفاجئة لأبيه باعتبارها تثبيتًا لانتزاعه  أى فؤاد  خارج الغايات «المتناهية» وليس خلاصًا منها، تحوّلها بشكل دامغ إلى ما يبدو «إمكانية لانهائية» على نحو ما وهى «الكتابة»، «تشريح الذنب»  بالتالى  وإن لم تنفك من أسره، بدلًا من الاستسلام له فحسب، التشريح الذى يعنى المقاومة التلقائية، المراوغة، مراقبة النداء الصارخ داخل الذات وعبر كل لحظة وفى الأشياء العابرة التى يخترقها الفزع، الفزع الذى يصبح غريزة للمداعبة بالطريقة التى يُقصَد أن يكون المطلق كارهًا لها.