سامح حنا يكتب: تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة: تفاوض المقدس والدنيوي

د.سامح حنا يكتب: تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة: تفاوض المقدس والدنيوى
د.سامح حنا يكتب: تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة: تفاوض المقدس والدنيوى

د.سامح حنا يكتب

تواريخ، وجغرافيات، وهويات: أسئلة افتتاحية

لماذا نكتب؟ وما الذى يستحق الكتابة؟ وكيف نكتب؟ ثلاثة أسئلة بسيطة تستنفر كل كتابة إبداعية تتوسل بالخيال فى محاولةٍ منها لفهم الوجود وموقع الذات الكاتبة منه، فى علاقتها ب التاريخ والجغرافيا.

ربما الإجابة المبدئية على سؤال «لماذا نكتب؟» تكمن فى هاتين الكلمتين التى أجبرتنا اللغة على استخدامهما فى صيغة المفرد، ربما لتقنعنا أن التاريخ والجغرافيا مفهومان مُصمَتان لا يقبلان القسمة، ولا يسمحان بالتعدد؛ فالتاريخ رواية واحدة بصوتٍ واحد، والجغرافيا سطحٌ أملس، أحادى البُعد، أو هكذا أوهمتنا اللغة.

وربما نحن نكتب لنسخر من هذا الوهم، لنكسر هيبة التاريخ الواحد والجغرافيا المُسَطَحَة. كلُ كتابةٍ جيدة هى نتاج وعيها بتراكم وتفاعل التواريخ التى أنتجتها: تاريخ العائلة والطائفة والتعليم، التاريخ الاجتماعى والثقافي، التاريخ السياسى، المكتوب منه والمسكوت عنه.

اقرأ ايضاً

منصورة عز الدين تكتب: كأن الديستوبيا هي الأصل

وكل كتابة مائزة هى نتاج وعيها بالجغرافيات التى شكلت بصرها وصاغت بصيرتها. إن كانت كل كتابة جيدة هى نتاج هذا الوعى بتقاطع التواريخ والجغرافيات، وتفاعلها، بالتصادم أو بالتفاوض، وإن كانت الكتابة الجيدة هى التى تحفزنا على إعادة قراءة حكاياتنا الشخصية فى ضوء هذا التقاطع، فظنى أن شادى لويس بكتابته ل «تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة»  قد أجاب عن سؤال ’لماذا نكتب؟، على نحوٍ يضع هذا النص فى مصاف الكتابة الجيدة، الجديرة بالالتفات والتأمل.

تعددية التاريخ والجغرافيا نراها بوضوح فى العتبة الأولى للنص «العنوان» ؛ فالتاريخ الكونى يتقاطع مع تاريخ الحى، وجغرافيا الخليقة تتجاور وجغرافيا منطقة شرق القاهرة على نحوٍ يخلق مفارقاتٍ وأسئلة: أما المفارقات فتكمن فى الجمع بين النقائض: الكونى والمحلى؛ الموغل فى القِدَم والمُتأخر الحادث؛ المخلوق بقدرة الإله والمصنوع من البشر؛ كما تكمن المفارقة أيضًا فى إيهام القارئ بإمكانية تدوين «تاريخ موجز» لهذه النقائض جميعها فى نصٍ تجاوز بالكاد ال 180 صفحة.

وأما  عن الأسئلة المطروحة فهى: ما العلاقة بين الخليقة وشرق القاهرة؟ وما الحاجة إلى كتابة تاريخ الخليقة مقرونًا بتاريخ شرق القاهرة؟ هل نحن بصدد تاريخين أم تاريخ واحد؟ هل نعيد قراءة تاريخ الخليقة فى ضوء تاريخ شرق القاهرة، أم العكس؟ أم أن التاريخين يتناوشان ويتبادلان المواقع داخل النص الواحد؟ أيضًا تحمل عبارة، شرق القاهرة، تعددًا فى الجغرافيا تستعرضه الرواية فى البعد المكانى الذى نرى من خلاله تداخل مساكن الحلمية مع حى عين شمس ومنطقة جسر السويس ومصر الجديدة؛ كما نرى تشابك الشوارع التى تحمل أرقامًا مع تلك التى تحمل أسماء (شارع التلاتين وشارع صعب صالح مثلًا)؛ كذلك فالشارع الواحد يضم طبقات من الجغرافيا التاريخية، تجعل الشارع الواحد فى الستينيات أو ما قبلها مثلًا مختلفًا فى جغرافيته عن الشارع الحالى.

وفيما يتعلق بمحتوى الرواية ومادتها الخام، فربما لا ترى القراءة المتعجلة فيها ما هو جديد: فرواية شادى لويس ليست بالقطع الرواية الأولى فى الأدب المصرى الحديث التى تتناول عالم الأقباط؛ وهى ربما ليست الرواية الأولى التى تُروَى أحداثها بعيون طفل ربما يكون مصابًا ببعض سمات مرض التوحد، وهى ليست بالطبع الرواية الأولى التى ترصد التبعات الاجتماعية والسياسية لحدث تاريخى سياسى بعينه.

ما الذى يجعل محتوى الكتابة فى هذا النص متفردًا، إذًا؟ ظنى أن التميز يكمن فى تحدى الصور الأحادية لشخصية المسيحى المصرى؛ تلك الصور التى تقدم القبطى معزولًا عن تاريخه «أو تواريخه، إن شئنا الدقة»؛ وإن وضعته داخل التاريخ، فهو إما التاريخ السياسى المُسطح الذى يقدم لنا مرويةً مستهلكة عن المواطن المُهَمَش سياسياً أو التاريخ الدينى الذى لا يرى فى المسيحى المصري إلا الشخص الذى وُلِد وعاش ومات فى الكنيسة الأرثوذكسية ولم يخرج خارج حدودها.

وعلى النقيض من ذلك يتحدانا شادى لويس فى «تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة» «وأيضًا فى «طرق الرب» بطيفٍ من الهويات القبطية، ونرى – ربما للمرة الأولى – الهويات المتعددة داخل المسيحية المصرية، نرى تاريخ الإرساليات الأجنبية ونشأة الكنائس البروتستانتية بأطيافها.

كما تعرض الرواية فى إيجازٍ موظف جيدًا لتاريخ الترجمة الشائعة للكتاب المقدس، ونشأة حركة الملاجئ المسيحية فى مصر وعلى رأسها ملجأ ليليان تراشر فى أسيوط. أيضًا نرى التوتر بين هذه الهويات ومخاطرة عبور الحدود بينها. كذلك تفتح لنا الرواية نافذةً على عوالم الممارسات الدينية للطوائف المختلفة داخل المسيحية المصرية.

والتى ربما لا يعرف عنها المسيحى الأرثوذكسى شيئًا، وقطعًا يجهلها القارئ غير المسيحي: من تلك الممارسات: الترانيم داخل الكنائس الإنجيلية (وبالمناسبة هناك مشهد بديع هو مشهد دخول الأم والابن إلى أحد اجتماعات الكنيسة الإنجيلية، إذ يتطور هذا المشهد من خلال إحداث تناص مع كلمات ترنيمة شهيرة وهى «تعالوا تعالوا يا تعابى» والتى يستخدمها الراوى لتوصيف الحالة الذهنية والنفسية للأم وهى تصعد درج الكنيسة فيما تأتيها كلمات الترنيمة من داخل الاجتماع؛ وظاهرة التفرغ للخدمة المسيحية من جانب بعض الأشخاص الذين يتركون أعمالهم ليتفرغوا للترنيم والوعظ فى الاجتماعات الكنسية «كما نرى فى حالة الأخ عزيز الذى ترك مهنته كطبيب أسنان ليتفرغ للترنيم وتسجيل الشرائط»؛ أَضِف إلى ذلك ممارسات العبادة فى بعض الطوائف الخمسينية والرسولية كالتكلم بألسنة، التى لا أعرف نصًا روائيًا عربياً أو مصريًا قد صورها بهذه الدراية.

تَجَسُدات المُقَدَّس فى الدنيوى

مرويات الكِتاب المقدس هى لُحمَة وسُدَى رواية «تاريخ موجز للخليقة». النص المقدس هُنَا ليس عنصرًا مفروضًا على النص من خارجه، أو حِلية بلاغية أُلحِقَت به لتمنح شخوصه نكهةً مسيحية. إنما السرد فى محتواه وشكله وبنائه وبلاغته مفتولٌ من خيوط مرويات الكتاب المقدس ومغزولٌ على منوال مُعجمه وتراكيبه وبلاغته.

وهذا الحضور اللافت – الذى ربما لم يتوافر لنص روائى آخر – لا تخطئه العين، متمثلًا فى  اقتباسات عديدة مباشرة وأخرى غير مباشرة وإشارات صريحة وضمنية لشخوصٍ من التاريخ المقدس. عبارة -كما يقول الكتاب- تتكرر مرارًا وكأنها قرار «ترنيمة»، لتذكرنا دائمًا بحضور النص المقدس.

وربما تُذَكِّر هذه العبارة القارئ بعبارات شبيهة فى نصوص الأناجيل – لا سيما إنجيل متى – والتى يحاول من خلالها كاتب البشارة الإنجيلية أن يمنح الشرعية لسرديته عن المسيح المخلص وأن يضعها داخل إطار تأويلى يُفسر من خلاله الحاضر بالماضي، وذلك بالإحالة إلى نبوات سابقة من أسفار العهد القديم كانت قد أشارت بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر إلى بعض تفاصيل المروية التى يقدمها لنا البشير متى. لكن هل هذا هو الحال هنا فى نص شادى لويس؟

وللوهلة الأولى ربما يبدو للقراءة المتعجلة أن استدعاء نصوص الكتاب المقدس هدفه إضفاء الشرعية على ما يسرده الراوى من وقائع وهذا صحيحٌ  إلى حدٍ ما، فمرويات الكتاب المقدس تتيح للراوى أداة تفسيرية يعلق بها على الأحداث ويمنحها معنى.

فى أحيانٍ كثيرة ومن فرط حضور الكتاب المقدس فى نسيج الرواية يتصور القارئ أن حكاية الأم المغبونة وتغريبتها هى وابنها على مدارِ يومٍ عصيبٍ هى نفسها جزءٌ من التاريخ المقدس، تُفَسره بقدر ما يُفسرها. هذا ما يدلنا عليه العنوان الذى يشير إلى تاريخٍ واحدٍ يجمع الخليقة وحى شرق القاهرة «وفى القلب منه حكاية الأم الهاربة من قهر الزوج» فى سيرةٍ وصيرورةٍ واحدة، دونما فصل. بناء الرواية نفسه دالٌ على ذلك، ففصول الرواية السبعة تستدعى سبعة أيام الخلق، تبدأ بحالة البراءة والفطرة، يعقبها خروج الأم المقهورة من البيت بصحبة ابنها، وفى مشهد يستدعى السقوط والخروج من الجنة، لتبدأ تغريبتها التى تستدعى تغريبة بنى إسرائيل حال خروجهم من مصر وترحالهم فى برية سيناء.

وإن كانت تغريبة الأم لا تطول أكثر من يومٍ واحد، نرى فيه إنسانيتها ومخاوفها وتشوهات شخصيتها بفعل سنوات القهر المضاعف، من الزوج ومن المجتمع، كما نرى تجاربها الروحية وبعض انتصاراتها الصغيرة حتى تعود مرة أخرى إلى بيتها فى الفصل السابع، فى مشهد يستدعى العودة إلى فردوسٍ مُستعاد. يمكن القول إن مسار الرواية يتطور فى خطٍ موازٍ للمروية الكتابية، بدءًا من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا، من السقوط والخروج من الجنة حتى الدخول إلى الحالة الأبدية فى أورشليم السمائية، مرورًا بالارتحال فى ’برية عين شمس، والطواف على أماكن العبادة فى محاولةٍ لسد جوع الروح من المَن السماوى أو إطفاء نار العطش بالمياه.

والتى خرجت من الصخرة المضروبة فى قصة نبى الله موسى؛ طوال تلك التغريبة التى دامت 24 ساعة تمر الأم وابنها الراوى الذى يروى حكايتها على مشاهد الموت، ويسمعان أصوات القنابل التى تستدعى أبواق غضب الله فى سفر الرؤيا، كما تستدعى ذاكرتهما حرائق الاضطهاد ومشاهد النار المشتعلة فى أجسادٍ محترقة، تلك المشاهد التى تتناص مع المشاهد الرؤيوية عن «النار التى لا تُطفأ والدود الذى لا يموت».

يمكن القول إن واحدة من وظائف هذا الحضور اللافت لمرويات الكتاب المقدس هى إضفاء الشرعية على مروية الأم والزوجة المقهورة، ومنحها بعض القداسة التى تتمتع بها حكايا البشر فى المرويات المقدسة؛ فى نهاية الأمر، فإن المرويات المقدسة تحكى لنا عن بشرٍ انكسروا وانتصروا، قُهِروا وقَهَروا، واستنزفتهم متاهاتهم، وتركوا وراءهم آثار النزيف الذى خلعنا نحن عليه لاحقًا هالة القداسة.

ولكن استدعاء حكايا البشر فى المرويات المقدسة لا يقف عند هذا الحد. فمرويات الكتاب المقدس تتقاطع مع مروية بطلتنا «أم شريف» لتفجير المفارقات «التى لا تخلو أحيانًا من السخرية» ولطرح الأسئلة عن طرائق تعاطينا مع النص المقدس، إما بتحويله إلى أداةٍ للقهر وتثبيت الوضع الراهن أو بتحويله إلى أداةٍ لتحرير الروح وتفعيل دور العقل وتحقق الجسد. 

وقد تبدأ الرواية فى فصلها الأول بتقديم الشخوص على نحوٍ يستدعى حالة البراءة الأولى التى فُطِرَ عليها آدم وحواء قبل السقوط. يقول الراوى مستدعيًا تلك الحالة الفردوسية: «ولصبيٍ فى عمرى حينها، كان أبى هو آدم، وأمى هى حواء، وكان شارع 30 هو جنتى، أو كما سأكتشف لاحقًا بأنه الطريق الكرب الواصل بين الفردوس والجحيم» (12-13). حالة البراءة تلك هشة وخادعة رغم الصورة المثالية البادية؛ وخلف شفافية اللغة وبراءة الكلمات وتجسد المعنى تجسدًا كاملًا فى حروف اللغة، خلف هذا كله تكمن بلاغة الكذب لتطل برأسها عند لحظة السقوط، ليتعدد المعنى وتتسع الفجوة بين الظاهر والباطن وبين العقل والقلب وبينهما واللسان.

أيضًا حالة البراءة الأولى كما يصورها الراوى فى الصفحات الأولى للرواية تهيئ القارئ لمروية أم شريف، أو حواء كما رآها الراوى، وهذا التقاطع بين المرويتين يضع القارئ أمام السؤال: من أين أتت أسباب القهر على أساس النوع والتمييز بين الرجل والمرأة؟  فى الصفحة الأولى نرى آدم متسلطًا على كل المخلوقات التى أحضرها الرب لآدم كى يمنح كلاً منها اسمًا، والرب – كما يقول الراوى –»ترك لآدم أن يدعو الكائنات بأسمائها لكى يتسلط عليها، فمن يعطى الشيء اسمه يصبح سيدًا له» (11).

ولا يُستثنى من هذه الكائنات المرأة التى خلقها الرب الإله لآدم فأسماها حواء «لأنها أم كل حى». المفارقة أن بطلة الرواية لا نعرف لها اسمًا، هى تنسب إلى ابنها، هى «أم شريف» لكل من يعرفها وللقارئ؛ فهل إغفال الاسم هنا إشارةً إلى تمردها على سُلطة التسمية التى مُنِحت لآدم، أم أن إغفال الاسم الشخصى هو إقرارٌ بغياب شخصيتها المستقلة التى لا تحضر إلا نسبةً إلى ذكر، إلى أى آدم، حتى لو كان ابنها؟

الأمثلة عديدة على الإحالات إلى نصوص من الكتاب المقدس لتبيان إساءة توظيفها من جانب بعض المسيحيين فى شرعنة القهر ومأسسته. منها مثلًا تلك الآية التى تستدعيها «أم شريف» لتبرر خضوعها لزوجها رغم سوء معاملته لها: «وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك». ربما المثال الأبرز فى الرواية على تبرير القهر من خلال إساءة القراءة هو ما نجده فى مشهد محاولة الانتحار عندما كبت أم شريف على نفسها الجاز وحاولت إشعال النار فى نفسها؛ وعندما فشلت المحاولة.

كان أول ما طلبته الكتاب المقدس لتفتحه على أى صفحة طلبًا لكلمة تعزية من الله، فانفتح النص أمامها على إصحاح المحبة الشهير الوارد فى رسالة كورنثوس الأولى والفصل الثالث عشر؛ وفيما كان الابن الراوى يهتف فيها «يا ماما يلا نسيب البيت» تقرأ هى بصوتٍ تغيم معالمه وهو يخرج من بين الدموع: «المحبة تحتمل كل شيء...المحبة تصدق كل شيء...المحبة ترجو كل شىء... المحبة تصبر على كل شىء.» (145-147).

يُفتتح الفصل السابع والأخير من الرواية بعبارةٍ تشبه كثيرًا العبارة التى يفتتح بها الفصل الأول، وإن كانت تنفيها: فى افتتاحية الفصل الأول وجد الراوى بعض اليقين فى الأعداد التى لا يمكن أن تكذب، فهى لا تحمل دلالات متعددة ولا تخاتلنا بدلالات ظاهرة وأخرى باطنة. فى الفصل الأخير يكتشف الراوى بعد تغريبته هو وأمه أنه لا يوجد حياد ولا يوجد معنى واحد يقيني؛ حتى الأرقام نفسها فى المروية المقدسة يمكن أن تكتسب دلالات مختلفة، بل ومتضاربة؛ المعنى مشروطٌ دائمًا بعدسة التفسير.

ويقول الراوى: «لرقم شارعنا معنى، وللحساب قواعد أخرى. ثلاثون رقم مقدس، ثلاثة مضروبة فى عشرة، الإله مُنزِلًا فى شريعته للبشر قانون الثواب والعقاب على ما اقترفوه فى حق أنفسهم. ثلاثون رقم الخلاص، خمسة مضروبة فى ستة، النعمة الإلهية ممزوجة بنقص الإنسان، الخير الكامل والشر الكامل، الاثنان معًا، معنى كل ما حدث، وسيحدث لنا، هذا نحن أنفسنا وما سنصبحه.» (ص 168). من هنا تأتى أهمية التأويل وفتح النصوص، مقدسة أو دنيوية، على القراءات المتعددة، المُقَدَّس ووساطة الترجمة والأيديولوجيا: ’تاريخ مُوجَز للبروتسانتية العربية.

ثمة توتر يكمن خلف السرد فى ،،تاريخ موجز للخليقة،،. على الرغم من الحضور اللافت لمرويات الكتاب المقدس، إلا أن الراوى لا يفوت فرصة تذكير القارئ ببشرية المرويات المقدسة نفسها، وبأنها لم تصلنا إلا من خلال وساطة الترجمة والأيديولوجيا، تلك الوساطة التى تعيد تعريف معنى «المقدس» – من جانب – وتمنح القارئ المسافة المعرفية اللازمة لفحص هذه المروية بعيدًا عن أى سلطة. هنا تكمن أهمية استدعاء الراوى لتاريخ تشكل المسيحية العربية، خصوصًا فى العصر الحديث، لا سيما من خلال تقديم «تاريخ موجز، للترجمة العربية الشائعة للكتاب المقدس المعروفة بترجمة «البستاني-فانديك» والتى نُشِرَت طبعتها الأولى عام 1865، وأيضًا من خلال الإشارات السريعة إلى دور الإرساليات الأجنبية فى صياغة الطوائف البروتستانتية العربية عمومًا.

وفى القلب منها البروتستانتية المصرية. الإشارة إلى الترجمة العربية للكتاب المقدس فى الرواية أكدت على أمرين: عدم حيادية اللغة عمومًا فى ترجمة المروية المقدسة؛ والدور الذى لعبته الترجمة العربية للكتاب المقدس فى نسخة «البستانى فانديك» فى صياغة تصور المسيحيين العرب عن أنفسهم، فى علاقتهم بالوجود وبالآخر الديني. الإشارة إلى هذه الترجمة تُمَكِّن الروائى – من خلال صوت الراوى – من إبراز المفارقة التى شكلت البروتستانتية العربية. على الرغم من أن تميز البروتستانتية – فى تصور أصحابها – يقوم على زعمها برفع وساطة الكهنوت بين النص المقدس والناس؛ إلا أن النص المقدس فى ترجمته العربية الحالية وصل فعليًا إلى المسيحيين العرب من خلال وساطة الترجمة التى قام بها إثنان من أفراد الإرسالية الأمريكية فى الشام  وهما إيلى سميث (1801 – 1857) وبعده كرنيليوس فانديك (1818 – 1895)، مدعومين بجهود بطرس البستانى (1819-1883) وناصيف اليازجى (1800 – 1871) ومعهم الشيخ الأزهرى يوسف الأسير (1817 – 1889). جاءت الإرسالية الأمريكية – على حد تعبير الراوى – «لخلاص النفوس، كى تعود للكلمات مرة أخرى معانيها، وأن تخرج الكتب من خزائنها ليفهمها الناس وحدهم دون وسيط» (ص 86)، لكن كانت المحصلة ترجمة بعربيةٍ لها سمت الفصحى ولكنها غريبة فى صياغتها لهوية عربية جديدة خاصة بالبروتستانت العرب أنفسهم، هوية شكلت ملامحها لغة صنعت جدارًا بين المسيحيين العرب وشركائهم فى الوطن. هذه المفارقة تنطوى على سخرية أحيانًا، لا سيما عندما يشير الراوى إلى عبارة «مدارس الأحد» التى دخلت العربية، على الرغم من أن هذا النوع من التربية الدينية الكنسية كان يتم غالبًا أيام الجمعة وهو يوم العطلة عند المصريين عمومًا.

على سبيل الخاتمة

رواية «تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة» كتابة تدخل تحت جلد الشخصية القبطية لتُرينا الوجود بعينيها دون أن تقع فى واحدٍ من فخين، غالبًا ما يقع فيهما من يتناولون الأقباط فى الأدب: فخ التوثين الذى يضع الأقباط خارج الزمن ليحولهم إلى كائنات أسطورية تحمل على أكتافها عبء الحفاظ على هوية الأجداد واستعادة ما ضاع من لغةٍ وثقافة؛ وفخ التحقير الذى يجعل منهم هدفًا للتلصص المتربص، المتعالى على واقعهم. فى الحالتين - توثينًا وتحقيرًا - الشخصية القبطية توضع داخل إطار غرائبى يتنكر لتاريخيتها وصيرورتها فى الزمن بتجميدها، إما داخل إطار أسطورى مُتخيل أو داخل صورة نمطية مفتعلة.

هنا كتابة تنبش حفريات العنف الذى تمأسس باللغة وبالعلاقات الأسرية وفى علاقة المرأة بالرجل، كما تمأسس فى الدين والطائفة والنصوص المقدسة وترجماتها وتفسيراتها عبر حدود المذاهب المتباينة داخل الدين الواحد.

هنا كتابة «مشهدية» تستخدم الصورة لتروى بإيجاز تاريخًا من الألم المكتوم، الفردى والجماعى. راجع مثلًا مشهد الأم وهى تحكى معاناتها للكاهن الشاب، فيما يقوم الابن الراوى بإزاحة طبقات الرمل عن أرضية الكنيسة المحروقة ليكتشف تحتها طبقات من الرماد الذى خلفته الحرائق التى تعرضت لها الكنيسة.

هنا كتابة «تعمدت» بنار فحص الذات وإعادة بناء التاريخ المؤسسى للدين، على نحوٍ يسمح بالخلاف مع النسخة القديمة والنسخة المتبناة دون أن يعادى المرء بالضرورة محاولة إعادة الصياغة أو يقبلها على عِلَّاتها، هنا تأريخٌ متخيل لحركات التبشير فى مصر، ونشوء الطوائف- تأريخٌ لا يدعى الكمال ولا الموضوعية، أو الدقة، وإن كان يصطادنا بشبكة التخييل وفتنة السرد ليغوينا بالزاوية التى يغزل منها الراوى مرويته.

نصٌ يحفر به شادى لويس لنفسه وللأدب العربى مسارًا متميزًا فيما يتعلق بتقديم الشخصية القبطية فى الأدب وفى القلب منها تمثيلات مرويات الكتاب المقدس.