يوميات الأخبار

عندما اختبأ نجم فى حارة العميان!

محمد الشماع
محمد الشماع

ما يجرى فى السودان الشقيق  يدمى القلب ويدمع العين، فليس أقرب لنا فى مصر من السودان وأهل السودان

ما يجرى فى السودان الشقيق اقتتال يدمى القلب ويدمع العين، فليس أقرب لنا فى مصر من السودان وأهل السودان. يوجع قلوبنا ما يحدث فى الخرطوم من اقتتال أهلى، لكن هذه الدماء التى سالت يجب ألا تذهب هباء دون أن نعى الدرس التاريخى، ذلك لأن الدرس الذى تعطيه أحداث السودان يرتبط ارتباطا وثيقا بنا فى مصر.

لو أن السودان وشعبه نجح فى إقامة حوار وطنى يحترم التعددية السياسية والتعددية العرقية والاختلاف الثقافى بين سكان السودان الممتد عبر أفريقيا لما وصل الأمر إلى هذا الصراع على السلطة بهذا الشكل المرعب كل ذلك دون حوار وطنى يحترم التنوع الذى يعج بالقوى السياسية، وكذلك يشمل عدداً كبيراً من المثقفين ليصبح على هذا الصفيح الساخن الذى يوشك أن يفتت السودان ويحطمه.

مايدور حولنا فى المنطقة الإقليمية يؤكد أهمية الحوار الوطنى وأهمية احترام الآخر وأهمية احترام المجتمع الدولى، ذلك ما يجب أن نعطيه الأهمية القصوى فى بنائنا الوطنى.

ان حوارنا الوطنى الذى تنطلق اعماله اليوم اصبح محط انظار العالم لانه يمثل نقطة تحول جوهرية، من المنتظر ان تتجاوز كثيرا من الثوابت لكى نقر ونؤسس لجمهورية جديدة وبالتالى فإننا امام فرصة تاريخية نادرة لكى نضع محاور وابعاداً لوطن يعيش زمانه ويتطلع لمستقبل أفضل.

نتطلع لمسقبل أفضل والامال كبيرة نتمنى ألا نستهلك تلك الفرصة التاريخية فى استعراض تفاصيل مهلكة، لاننا لو تركنا هذه الفرصة التاريخية تتوه من بين ايدينا فإن خسارتنا ستكون كبيرة. نريد أن نقفز بالوطن للمستوى الذى يستحقه، نريد أن نؤسس لمجتمع متقدم سياسيا وانتاجيا واخلاقيا وينبذ الخرافة وينتج عقولا مبدعة لانريد أن تتعثر مسيرتنا وألا يتخلف ركبنا.

أتمنى أن نخرج ببرنامج لترميم المجتمع والنهوض به وان تكون نظرتنا للاجيال القادمة هو ألا تتوه فى دهاليز المصالح الصغيرة.. نريد برنامج عمل حقيقىاً ونحذر من أن يتحول هذا النقاش الوطنى إلى مناقشات وحوارات تستهلك عزيمتنا وقد آن لنا أن ننهض نهضة كبرى وان نتبوأ مكانتنا فى هذا العالم، ولسنا هنا فى مجال ايضاح حجم التحديات التى يواجهها العالم والتى ارتجت لها اركان المعمورة الاربعة والتى توجب علينا شدة الحرص على أمن وسلامة الوطن.

عثمان أحمد عثمان والعربى

تدخل الدولة فى الاقتصاد هو أمر معروف ومعهود يعرفه علماء الاقتصاد ويطلقون عليه رأسمالية الدولة، وهو مصطلح يعنى فى أبسط تعريف له أن الدولة تقوم بعمل المشروعات التى يعجز القطاع الخاص عن إقامتها نظرا لضعف قدراته.

وتجارب رأسمالية الدولة تنتشر عبر الكرة الأرضية لتمتد من اليابان إلى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وبالطبع فإن مصر الناصرية ينطبق عليها هذا المفهوم. علينا أن نتذكر مثلا أن مصر الناصرية شاركت المقاول الشاب المهندس عثمان أحمد عثمان برأسمال وتركت له رئاسة مجلس الإدارة لكى تتحول شركة المقاولون العرب عثمان أحمد عثمان من شركة بسيطة إلى أكبر شركة مقاولات فى مصر والوطن العربى، واقتصر دور الدولة على الرقابة العامة وحماية حقوق العمال، فكان العامل ولايزال الذى يعمل فى شركات عثمان أحمد عثمان يحظى بامتيازات يفتخر بها.

وربما لا يعرف الكثيرون أن تجربة تبنى شركة عثمان تتشابه إلى حد بعيد مع قيام اليابان بتبنى صانع الدراجات هوندا وتحويل ورشته إلى أكبر شركة إنتاج سيارات على مستوى العالم.

الخلاصة أن المهندس هوندا لم يكن يملك رأس المال الذى يمكنه من إقامة مصانع ضخمة فتدخلت الدولة لدعمه ومراقبته، وذلك أيضا ما حدث مع المهندس عثمان أحمد عثمان، والتجربة الثانية الرائعة النجاح تجربة الرأسمالى الوطنى الحاج محمود العربى التى يفخر بها كل مصرى، فرأسمالية الدولة إذن تتنوع تجاربها من مستوى تقوم فيه الدولة بالنشاط الاقتصادى بنفسها أو تدعم من يقوم بهذا النشاط، يعنى الغاية والهدف هو إحداث التنمية.

حدث ذلك فى ألمانيا ولايزال يحدث وحدث ذلك فى اليابان وصنع نهضتها وفى كوريا الجنوبية وفى مصر الستينيات، لأن المشروع هو مشروع تنمية اقتصادية للحاق بالعصر، أما إذا حاولت الدولة عبر موظفيها أن تتدخل فى مصادرة أصحاب المصانع الصغيرة أو الورش ذات العمالة المحددة لمجرد التحكم والسيطرة وتحصيل الضرائب والرسوم فإن ذلك لن يحقق التنمية الاقتصادية ويؤذى الطبقات الوسطى، وأوضاعنا الاقتصادية تحتاج مقاربة علمية مدروسة من الاقتصاد الخفى ـ السرى وادماجه فى العلن ـ ولا تحتاج التوسع فى فرض الرسوم المتعددة، لأنه فى المرات السابقة التى قامت الدولة بتغليظ الرسوم وفرض الإتاوات على القرى المصرية هجر الفلاحون الزراعة وطفشوا فى البلاد نتيجة لتعسف السلطة وسطوة الإدارة المحلية.

التبنى والتدخل فى التنمية!

ذلك أن خيطا رفيعا بين تبنى الدولة لمشاريع التنمية وبين تدخل الدولة ومحاصرة أصحاب الورش الصغيرة أو الصناعات المحدودة!

هناك تجارب لتدخل الدولة فى عدد من الأنشطة الاقتصادية السرية منها مثلا صناعة السجاد الحرير بقرية ساقية أبو شقرة ـ مركز أشمون ـ محافظة المنوفية والتى غزت بإنتاجها دول العالم واكتسبت شهرة عالمية فى هذه الصناعة اليدوية رائعة القيمة. عندما تدخلت الدولة فى الثمانينات توقفت المصانع التى كانت تملأ منازل القرية وشوارعها وأزقتها وتعددت المشاكل وهجم على القرية مندوبو مكتب العمل ومكتب التأمينات والضرائب ومندوبو وزارة الشئون الاجتماعية وممثلو جهات لم يعرف من أين أتت وماذا تريد بالضبط، وبدلا من جلوس الشباب والفتيات الصغيرات وباقى أعضاء الأسرة أمام الأنوال جلسوا فى الطرقات وفى المقاهى!

التجربة الدمياطية

 وهذا ما أكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أحد لقاءاته مطالبا الحكومة بالدراسة الشاملة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتم تصحيح بعد القرارات التى صدرت فى هذا الشأن، فالعامل والصانع يقيم فى منزله الذى أقام فيه ورشته أو مصنعه الصغير وهو يعرف تماما آليات السوق التى يعمل بها والأزواق التى تجذب العملاء وطريقة التعاقد والبيع والشراء والصانع الصغير لديه آلية أو منظومة تحكم حياته العملية والمعيشية، ومحاولة كسر هذه الآليات والثقافات تكون نتيجتها غير إيجابية وهذا ماحدث فى التجربة الدمياطية «مدينة الأثاث فى دمياط»!!

وهناك أيضا مشروعات متعددة تدخلت فيها الحكومات بدون دراسات اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية وأرادت أن تفرض نظاما جديدا على هذه الاقتصادات الناجحة بهدف تنميتها فتكون النتيجة مزيداً من العقبات بدلا من حلها وكثيراً من المشكلات والخسائر ونتاج لهذا خرجت «مبادرة أبدا» وحققت نتائج مبهرة!

ساويرس وأبو النجوم!

هذا الشهر تمر الذكرى الرابعة والتسعون على ميلاد الشاعر المصرى الصميم أحمد فؤاد نجم لم يكن مجرد شاعر ولكنه كان ظاهرة انفردت بها مصر، فقد عاش حياته بين سجن وبين تكريم، إذ قضى ١٨ عاما فى السجن وبينهما فترات كان يعانق فيها حماس الشعب ونبضه.

لقد عاش عمره مستعليا عن المادة مكتفيا بالقليل وقد جاب بلاد العالم هو والشيخ الضرير إمام عيسى. وفى إحدى المرات صدر ضده حكم بالسجن ناتج عن إنشاده إحدى القصائد التى تضمنت نقداً حاداً واختفى نجم ولم تستطع أجهزة البحث الجنائى الإمساك به!

وبعد أن تغيرت الأيام وتبدلت السياسات علمنا أن الشاعر أحمد نجم كان مختبأ فى حارة العميان، وذلك يشير إلى القدرة الإنسانية الفائقة التى تملكها هذا الشاعر فى التواصل مع الجماهير على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، ولما بلغ نجم السبعين من عمره قرر أصدقاؤه ومحبوه أن يقيموا له احتفالا ضخما بعيد ميلاده على مسرح الجمهورية، وقبل الموعد بأيام تم إلغاء الاحتفال لأسباب أمنية، فتقدم الملياردير نجيب ساويرس وأعلن أنه سوف يحتفل بنجم على نفقته الخاصة. وقد حضر نجم بالفعل هذا الاحتفال والمشكلة أن الدعوة جاءت من نجيب ساويرس! وردا على العزومة الكريمة قام نجم بدعوة ساويرس على وجبة «وليمة» من فتة بالتوم فوق سطح منزله العامر بمساكن الزلزال بالمقطم وقد استجاب ساويرس للدعوة.

لكن تلك العلاقة بين الملياردير والشاعر الفاجومى لم يستسغها البعض وكذلك علق الكاتب الكبير عادل حمودة منتقداً هذه العلاقة، ويومها أثيرت زوبعة حادة بين نجم وعادل حمودة لكنها رغم تلك الزوبعة فقد كان لدى عادل حمودة الشجاعة لكى يقول رأيه الذى يحمل بعض الوجاهة فى حياة نجم، صحيح أن رد نجم كان عاصفاً، لكن المعركة شكلت تحريكا للوعى الثقافى المصرى. إن المشكلة التى فجرتها دعوة ساويرس للاحتفال بنجم أن البعض اعتبرها مصالحة بين الطبقية بين الشعر النضالى وبين البيزنس!

أما بعد رحيل نجم فإن المساس به أو التطاول عليه هو جرأة فى غير ميدان وشجاعة فى غير معركة وبطولة بعد نفاد الوقت، فالكل يعلم أن العلاقة بين ساويرس وبين نجم كانت علاقة عابرة ومجاملة مؤقتة لا تعنى حلفاً طبقياً نشأ بين الملياردير الشهير وبين الشاعر الأشهر فلا ساويرس انحاز لمساندة طبقة نجم ولا أحمد فؤاد نجم انضم إلى فئة الأغنياء أو دافع عن قضاياهم.

ربما لا يعلم الكثيرون أن نجم حينما حصل على جائزة دولية تصل إلى مليون جنيه تبرع بها لمستشفى علاج أورام الأطفال وأعطى السائق الذى قام بتوصيله مبلغ خمسمائة جنيه. رحم الله نجم الشاعر العظيم الذى سكن مكانة رفيعة تقارب مكانة ابن عروس فى ضمير الأمة.