بسام المسلّم يكتب: ليلة مع عروس البحر

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

طلَع وجهها من البحر. يتبعه جسدها يتلألأ بالنّدى. فى قبضتيه الحبل يتَحرّك.. يتلبّط مثل سَمكةٍ تُنازع. رويدًا يهدأ اضطرابه.. يتراخى.. بين يديْه يسكن الحبل تماماً، من البدر ينحدر بحرٌ فضّي. يملأ الليل. يفيض منه على «الفِرجان»* يعبِّئُها.يتدفّق عبر الكوّة منتشراً فى الحجرة، ليغمر وجهها الغافي. نائمةً بقربي، أدنو منها. فينشقّ الفراش عن ذراعين مبلّلتين ترتفعان فى الظلام. تحولان بينى وبينها. كفّان يمتداّن إلى عنقي. يخنقاني. بالكاد أتخلّص منهما. وأنأى عنها بجانبي.

وفي ظلُّ الجدار يصطدم بناظري. يفتح أجفانه السّود. تنبثق منهمئة عينٍ حمراء تحاصرنى. ترمينى بشررها. تحت الدثار أتكوّم هرباً، القمر يرتفع من زاوية الكوّة. تهبّ نسمةٌ رطبة. تثور رائحة ماء الورد ممتزجاً بعرقها.

وقد أقترب مرّةً أخرى لينتصب لى وجهه الأزرق دونها. وعيناه جمرتان. أصدّ عنهما إلى السّقف المظلم فيخرّ عليّ أذرعاً أخطبوطيّة. تكبّلني.. تقتلعنى من فراشي. أقوم ذليلاً ألبس ثيابى وأخرج.. إلى الأزقّة المعتمة أتسلّل. ومنها أسرى إلى من يعرف سرّي. إلى البحر.

اقرأ ايضاً| فيصل الحبيني يكتب: أوحى الإنسان لنفسه

وعلى الأرض الباردة أقعد. الزّبد الفضيّ يصفع قدمى ويذوب غائراً فى الرمال. الماء فاتر كعادته ليلاً مثل جسد ميّت. وأنا ألوذ بالبحر فى الليل حينما يسكن كل شيء. أصغى إليه.. يحمل إليّ صوت «جاسم».

وثلاثةً كنّا. أقدم ما نذكر رائحة البحر وهدير الموج وهو يتهشّم على الساحل. بمحاذاته نقتفى أثر أمهاتنا الثلاث. بأقدامهنّ يطبَعن رسْمًا طريًّا على امتداد الشاطئ المتعرّج. نسير على آثارهنّ متلذّذين بوخز القواقع والصّدفات من تَحتنا.

وعلى رأس كلّ واحدةٍ منهنّ صرّة معقودة، تتمايل أمامنا بعيداً تحت شمس الضُّحَى كسراب الهوادج على ظهر الذّلول. يتّخذن من الحجارة مقاعداً. يحللن عقد صررهن. ويغسلن بالبحر حملهنّ.

وأمّا أنا وجاسم فنلقى بثوبيْنا على الرمال الرطبة. و«لولْوَة» مثلنا تتجرّد إلا من قطعةٍ تسترها. معاً نغمس أجسادنا البضّة فى البحر. نرشّ بعضنا بِمائه. نتذوّق ملحه العالق بالشّفاه. ومن بين الرّذاذ المتراشق نلمح وجوه أمهاتنا منهمكاتٍ بعملهنّ.

وأعينهنّ تراقبنا بنظراتٍ متردّدة. يبتسمن لنجوى بينهنّ. ومن نظراتِهنّ نعرف أنّ الحديث يدور حولنا لمّا يطْلِقن قهقهاتٍ خجولة، تصافح أصداؤها ضحكة نورسٍ أبيض، أشرع جناحيه فوق أمواجٍ تتهادى من بعيد.

ولم أزل أذكر ذاك النهارِ الذى أتتْ فيه زوجة خالى إلى السِّيف من غير لولْوَة. حينما سأل جاسم عنها أجابته أمها بابتسامة غابتْ معها عيناها فى ثنايا وجهها السمين:

«البنيّة خلاص كبرت.. صارت مَرَه!»

ولم نفقه كلامها، فقط سبحنا من دونِها. فى ذلك اليوم لم نسمع نورساً يضحك. الْتفَتُّ بصمتٍ مع جاسم نحو البعيد فشعرتُ معه بأن لامتدادِ البحر وحشة. وللمرّةِ الأولى أحسستُ أنّ لِملوحته مرارة. أدركتُ أن بغياب لولْوَة لم يعد للبحر معنَى.

حيث جاسم يعرف أين يجدني. مسنداً ظهرى إلى جذع سدرةٍ عجوز تسلّقناها صغاراً، لمحته يركض نحوى وبيده غترته. أنفاسه المتلاحقة زاحَمَتْ كلماته:

«النّوخذة* «بوسليمان» بالمَرسى.. عزم على الدشَّة!*»

وقد قمتُ معه لَمّا أخذ بيدي. فى انطلاقنا إلى المرفأ رأيتُ النوخذة يقْبلُنى غِيصاً*. من الأعماق أعود إلى الشاطئ بيدى عقْدٌ مبلّل من اللؤلؤ أمْهر به جيدها. لكنه حلمٌ سرعان ما تلاشى حينما تفحّصنى بوسليمان بنظراته الثّاقبة. وأشاح عنى بوجهه:

«أخاف على بدنك الهزيل طولَ الغطس! تدخل السنة معنا سيباً*»

برقٌ خاطف التمع بداخلى مسّ أشرعة آمالي. رجوْته. نَهرَنى بصرامة النوخذة. فأطرقْت. أغمضتُ عينيّ على لولْوَة.. وتقبّلت الأمر على مضض، النّهّام *على السفينة. تجويف صوته أغنية البحر الحزينة. نحو الهيرات وأبحرنا حتى هبط الليل فأضاءت فى السماء لآلئ. تساقط بضعٌ منها شهباً غابت فى طيّات الظلام. هدأ الدّبيب على ظهر المركب. وهجعت الأجساد المُنهكة إلا من بضعِ بَحّارة تحلّقوا حول سفرة حصيرٍ دائرية تناثر التمر عليها.

وعلى طرف المركب وقفتُ عند صفحة الماء.. وجه البدر ينتشر عليها طيفاً فضيّاً. شعرتُ بجاسم منتصباً إلى جانبى. صوته اختلط بوَشْوَشة أمواج تلكز ألواح السفينة الخشبيّة:

«جفاك النوم؟»

صمتُّ برهة.. بشيء من الأسى أجبته:

«الموسم القادم سأكون مع النوخذة «بوغانم»»

كتفه لامس كتفى محاولاً التخفيف عنّي:

«على رسلك.. لا تستبق الأمور!»

التفتُّ إليه.. تابع بنبرةٍ مغايرة:

«خَلّك من بوسليمان وبوغانم..»

رغم ضوءٍ ماجَ على وجهه منعكساً من البحر، كان الغسق قناعاً.. من خلفه أطلقها كالرصاصة:

« أُبوى كلّم خالك أمس.. عزمت على الزواج! سأعرس بلولْوَة يا ابن عمي»

فى لحظة رأيت القمر يسقط فى عرض البحر. تهاوت النجوم تباعاً. ظلامٌ حالك ابتلعني. لم أعد أميّز معه شيئاً من ملامحه. تَمتمْت:

«ب..الم..با..رك!»

صوت بوسليمان يحثّ البحارة على الرقود. انسحَبَ جاسم ووقفتُ أنا بالظلام وحدي. والبحر صدى يردّد:

« سأعرس بلولْوَة يا ابن عمي!»

عمى «بوجاسم».. ما فتئ يتقرّب من خالى مذ مات أبي.  يَحوم حولى وأمى مثل عُقابٍ يتربّص لحظة الانقضاض. الآن أسترجع تلك الرغبة التى تفوح من نظراته. وتتضح لى معالم الشبكة التى تحيكها عناكب خطته. فى تلك الليلة أويت إلى فراشي، لكن عينيّ تعلّقتا بالنجوم.. ولم أنم.

جاسم يضع الفطام*على أنفه. بصَمتٍ أحكمتُ معه ربط الحبل بالمقطف* المعلّق برقبته. نظر فى عينيّ قبل أن يثب إلى البحر. ولسببٍ لا أدركه كنت أنظر إليه وهو يغطس فى الماء نظرة مودّع.

كلمة الرجال فى الديرة نافذة لا محالة. جاسم فى القاع. الحبل بين يدي. ولولْوَة بين أضلعي. رأيتها عروساً تطلع من البحر ساطعةً كمحّارة تحت الشمس. تناديني.. تبْسط إليّ ذراعيها والماء يتقاطر منها حبيباتٍ ماسيّة. بأطيافها سرحْت. أبداً لم أشعر بجاسم ينبر الحبل، أو هكذا ظننت. عاد الغاصة إلى سطح السفينة إلا ابن عمي.. وحين استبطأته سحبتُ الحبل بمساعدة البحارة. كان جاسم..جثةً هامدة.

*  الفريج: الحي، وجمعها «فرجان».

* النوخذة: رّبان السفينة.

الدشة: دخول البحر للغوص على اللؤلؤ. 

* الغيص: من يمتهن الغوص على اللؤلؤ.

* السّيب: من يتولى سحب الغواص من قاع البحر بعد أن ينبر له الحبل، ويكون نصيبه من محصول السفينة أقل من نصيب الغواص

* النهام: مطرب السفينة. 

* الهيرات: مفردها «هير» وهى مغاصات اللؤلؤ.

* الفطام: مشبك يشبه الملقط يثبته الغواص على أنفه لمنع تسرب الماء إليه.

* المقطف: أو «الديين» هو سلّة صغيرة يستخدمها الغواص كوعاء لما يجمعه من محّار.