وسط هذا الكم من الأحداث التى تجتاح العالم غير الجيدة فى أغلبها ينتج عنها آلاف الأخبار والتقارير تغطى العديد من الصراعات والحروب والمنافسة الاقتصادية وترتفع معدلات هذا الإنتاج الإخبارى فى ظل حرب باردة فى أى لحظة قد تشتعل بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى لأجل غرض وحيد وهو من يفرض كلمته على هذا الكوكب وشعوبه التى تدفع من استقرارها ثمن هذا الصراع الامبراطورى الشرس .
بالتأكيد لا تحتاج وسائل الإعلام بكافة نوعياتها جهدا كبيرا في الحصول على الأخبار فالحاضر الساخن والمشتعل يزودها فى كل ثانية بخبر عاجل وهام.
أيضا السياسيون الذين يقفون بأفعالهم وراء هذه الأخبار فوقتهم مشغول بملاحقة أحداث الحاضر ولايحتاجون عودة الى التاريخ ليظهروا فى الصورة الإعلامية ،لذلك عندما تجد على المستوى السياسى أو الإعلامى من يفتح ملفات التاريخ ليصنع خبرا أو تقريرا ولا يكفيه كل مايراه من أحداث مشتعلة فهنا يبدو الأمرغريبا أو أن هناك من يستدعى التاريخ ليزيد الحاضر اشتعالا وقد يكون هذا الاستدعاء من أجل إبعاد الأنظار عن مشعلى الحرائق الحقيقيين
كل هذه الفرضيات السابقة تطرح نفسها عند قراءة خبر قادم من برلين قبل أيام عن تشكيل الحكومة الألمانية لجنة دولية من أجل التحقيق فى حدث وقع قبل نصف قرن وهى العملية التى نفذها مجموعة من الفلسطينيون تابعون لمنظمة " ايلول الأسود" أثناء دورة الألعاب الأولمبية بمدينة ميونخ سبتمبر 1972 ،كان هدف العملية احتجاز رهائن من البعثة الأولمبية الإسرائيلية والمساومة بالرهائن مقابل الإفراج عن 236 معتقلا فى سجون الاحتلال الإسرائيلى وانتهت العملية بمقتل 11 إسرائيليا و5 فلسطينيين من منفذى العملية وشرطى وطيار مروحية ألمانيين.
خلال النصف قرن أو تحديدا 51 عاما تغيرت بشكل كامل العديد من موازيين القوى فى العالم ،وقع الفلسطينيون والإسرائيليون معاهدة أو تسوية أوسلو وظهرت حماس على الساحة ووقع الانقسام الفلسطينى ،اختفت قيادات وأغلب التنظيمات الفلسيطينية التى كانت تعمل فى القرن الماضى ضد الاحتلال الإسرائيلى بل اختفى الاتحاد السوفيتى الذى كان فى كثير من الأحيان يرعى العديد من هذه التنظيمات التى تتوافق عقائديا معه ، وانتهت لعبة استخدام التنظيمات الفلسطينية فى الحرب بالوكالة بين العرب بعضهم البعض حيث تلاشت الأنظمة العربية التى أدمنت اللعبة ومعها التنظيمات التى حصدت الموت والدولار .
أما على مستوى عملية ميونخ نفسها فقد تم الكشف عن أغلب أسرارها وتفاصيلها على مدار 50 عاما ووصل هذا الكشف الى السينما فقام المخرج الأمريكى الشهير ستيفن سبيلبرج بإخراج فيلم عن العملية فى العام 2005وتصفية إسرائيل لمنفذيها أو من خططوا لها ،وفى العام الماضى بمناسبة مرور نصف قرن على وقوع هذه الأحداث أحيت ألمانيا ذكرى الأحداث فى حضور عائلات الإسرائيليين الذين قتلوا وترأس الذكرى الرئيس الألمانى فرانك شتاينماير ولم يكتف بحضور الاحتفالية بل طالب شتاينماير أقارب من قتلوا بالصفح «أناشدكم كرئيس الدولة في هذه البلاد وباسم جمهورية ألمانيا الاتحادية الصفح عن الحماية الناقصة للرياضيين الإسرائيليين آنذاك خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ وعلى التقصير في كشف الملابسات بعد ذلك».
لم تكتف ألمانيا بطلب الغفران والصفح فأقارب الضحايا طلبوا قبل الحضور صرف تعويضات لهم حتى يحضروا الاحتفالية ورفضوا مبلغ 10 ملايين يورو كتعويض وطالبوا بزيادة قيمة التعويض وبالفعل رفعت ألمانيا قيمة التعويض الى 30 مليون يورو وهنا وافق أقارب القتلى على الحضور وأعلن وقتها المتحدث باسم الحكومة الألمانية، ستيفن هيبيست، بأن المستشار الألماني أولاف شولتس سعيد للغاية بالاتفاق الذى تم التوصل إليه مع الأسر وأن ألمانيا تؤكد مسؤوليتها عن الأخطاء التي ارتكبت عام 1972، وكذلك في العقود التي تلت ذلك".
حتى قبل إغلاق ملف عملية ميونخ بالتعويضات والاعتذار الألمانى الرسمى على كافة المستويات فإسرائيل فى العام 2012 بعد مرور 40 عاما على العملية نشرت الوثائق السرية المتعلقة بها والنقاشات التى دارت بين جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل فى هذا التوقيت ومدير الموساد تسيبى زامير وأعضاء اللجنة التى أدارت الأزمة ومنهم مناحم بيجين الذى طالب باقتحام مقر البعثة الأولمبية وتصفية الفلسطينيين حتى لوتم قتل الرهائن الإسرائيليين.
كشفت الوثائق أيضا أن مدير الموساد سافر الى ألمانيا لمتابعة ماجرى وقدم تقريره بأن المسئولية تقع على الألمان الذين تصرفوا برعونة وكان كل مايهمهم عدم تأثير الحادث على دورة الألعاب الأولمبية فى بلادهم وأن الهدف الرئيسى للفلسطينيين كان الإفراج عن الأسرى وليس قتل الرهائن ولو تمت مفاوضات كان يمكن تجنب ما حدث.
رغم أن إسرائيل كعادتها لم تعلن رسميا إلاأن هناك عمليات تصفية واغتيالات طالت قيادات فلسطينية اتهمتهم إسرائيل بأنهم وراء التخطيط والتنفيذ للعملية ولم يكن الأمر سرا لأن الفيلم الذى أخرجه ستيفن سبيلبرج تناول هذه الاغتيالات ودور الموساد فى تنفيذها .
على الناحية الأخرى أو من قاموا بالعملية وهم الفلسطينيون فمحمد داود عودة ( أبو داود) القيادى الفلسطينى الذى خطط وأشرف على العملية أصدر كتابا فى العام 1999 بعنوان "فلسطين من القدس إلى ميونخ" بالتعاون مع الصحفى الفرنسى جيل دو جونشيه يشرح فيه كافة التفاصيل الخاصة بعملية ميونخ ومسئوليته عنها ،وقد توفى (أبو داود ) فى العام 2010 فى دمشق عن 73 سنة ودفن فى العاصمة السورية .
قبل وفاته طالبت ألمانيا بتسليمه لمحاكمته بعد أن تم توقيفه فى باريس ولكن عادت ألمانيا وتخلت عن طلب التسليم والغريب أن إسرائيل التى طاردت واغتالت العديد من القيادات الفلسطينية سواء من شاركوا فى ميونخ أو غيرهم لم تصل للرجل الذى اعترف فى كتاب تم نشره بأنه المسئول بالكامل عن عملية ميونخ وتوفى بأمراض الشيخوخة فى دمشق ،... لعل الحظ أنقذ ( أبوداود )من مصير الأغتيال .
أمام كل هذه الحقائق أو أن عملية ميونخ أصبحت عملية بلا أسرار بعد كشف كل من لهم علاقة بها ماحدث والحكومة الألمانية اعتذرت وطلبت الصفح وصرفت تعويضات لأسر القتلى فالمفترض أن ملفها أغلق نهائيا يأتى هذا الخبر بتشكيل لجنة دولية للتحقيق فى العملية بعد 51 عاما .
فى حالة أن هذه اللجنة قررت البحث فى التاريخ فالتاريخ كشف كل أوراقه من خلال كم المعلومات التى ظهرت طوال نصف قرن حول العملية بكافة أطرافها ولا يوجد جديد للبحث فيه ،لكن إذا عدنا للفرضيات السابقة المتعلقة بالحاضر هنا يبدأ الخبر يأخذ أبعاد أخرى ويطرح مزيد من الأسئلة حول إعادة النبش فى حدث من الماضى يلقى تغطية إعلامية موسعة كأنه حدث قبل ساعات .
عند مراقبة هذا الحاضر الساخن أو المشتعل بدقة خاصة فى الشرق الأوسط وربطه بملفات الماضى الذى يعاد فتحها وأيضا متابعة من وراء سحب هذه الملفات من أرشيف التاريخ سواء الظاهرين منهم أو محركى الأحداث خلف الستار لأجل استخدامها فى تحقيق أهداف حالية قد نصل الى إجابة عن كثير من الأسئلة معلقة بين الماضى والحاضر .