أعيش في جلباب أبي

الكاتب الصحفي عبدالله عسكر ووالده- رحمه الله
الكاتب الصحفي عبدالله عسكر ووالده- رحمه الله

صرت أهتدي على بوصلته، التي طالما اصطدمت بها، أقول مثل ما يقول، أفعل كما كان يفعل، ردود أفعاله التي انتقدت معظمها على طول الخط أصبحت جزءا من واقع حياتي، التحذير من أخطاء المستقبل أضحت جانبا من نصائح الحديث في بيتي لأبنائي حتى عدت طوعا أو كرها إلى جلباب أبي بعدما رطنت بها كثيرا إنني «لن أعيش في جلباب أبي».

 

في هزله وجده كانت آيات القرآن الكريم حاضرة، حتى في نكاته التي كانت تتردد على لسانه فيما يطلقون عليها «نكات المشايخ والصالحين»، أصبحت دون أن أدري مكرها أو مخيرا أسير على خطاه كأنني قطار يسير على قضيبين حديديين دون إرادة منه أو اختيار، عند الحق يبتعد عن كل خيوط الدبلوماسية فكان سيفا نصاله قطَّاع في حقوق الغير.

 

أغضب ويشتعل الغضب في أم رأسي حتى أكون كبركان هائج لا يقدر على إخماده أحد، ثم ما ألبث إلا أن أتحول كطفل صغير يطبطب هنا ويلملم ما وقع من بركان غضبه هناك، أندم لكن لا أعرف طريق الاعتذار، أصلح خطأي بخفض الطرف لمن أسأت له كأنه اعتذار الكبير الأبي.. هكذا كان يفعل أبي.

 

كشمعة تحترق حقا لإرضاء الآخرين ليست جملة تقال في ساعة صفاء وأجواء شتوية يعتصرها الهدوء، بل كان أبي يتحمل فوق ما يحتمل أي بشر لإرضاء من يحبه، يبذل في ذلك صحته ووقته وماله بل وأبنائه لمحاولة إرضاء الناس، ينكسر كبرياؤه في ساعة أخذ ورد بينه وبين نفسه لا يتفوه بأحماله لأقرب الأقربين له، لكنه إذا انفجر فلا يبقى أخضر ولا يابسا في علاقة من تسبب في انفجار هدوئه.

 

كأن في يده حزام شدد وثاقه ويتمم على عقدة رباطه كل ساعة من الزمان، أحاط به إخوتي وأقاربي، لم نر ذاك الوثاق إلا بعد أن فقدانه، نلملم في أنفسنا كأن هناك قوة جاذبة تدفعنا إلى خارج هذا الرباط، نبحث عن حزمة أبي فلا نجدها، نتعجب تارة ويثيرنا الاستغراب أخرى من قوة رجل كنا لا نسمعها أو نعقلها أو نشعر بها، تحمينا من حقد الحاقدين وحسد الحاسدين ووقيعة المفسدين وظلم الجاهلين وعبث الأوغاد والمتنطعين. 

 

شديد الطباع طيب العشرة لا ينسى معروفا ولا يتجاهل فرحا أو ترحا عند قريب أو صديق أو أي من دوائر معارفه العريضة، مهما طالت المسافات أو اقتربت، كأنها فرض صلاة لا تسقط بدون أدائها، الأصول لديه كأنها شرع وقرآن لا يحيد عن منهاجها، يفرح لفرح الناس ويحزن لحزنهم، نظرته للمستقبل كأنه يقرأ الغيب في لوح محفوظ.. هل أصبحت مثله؟

 

 أزور قبره في جدول وضعته على نفسي لم أخطئه يوما منذ ما يقرب الأعوام الثلاثة، أتحدث إليه وكأني قد نفضت التراب عن نفسي للتو بعد أن ضعته بيدي في التراب وهمست في أذنه أن يسامحني إن كنت قصرت معه، قلت له وأسررت إليه، فلم يسمع سرّنا من أحاطوا بكربنا ومصيبتنا، قلت له «أشوفك على خير يا أبي» كأني أودعه في أول طريق سفر وكأنني أيقنت أنني سأراه مرة أخرى.


 

لم يوقظني القلق يوما من نوم عميق في جوف الليل إلا وسمعت صوته العزب يتلو القرآن مصليا قائما لليل أو قارئا في مصحفه، لم يخطئ يوما صوم النوافل حتى آخر أيام عمره التي طعن فيها العمر بعد أن اقترب من عقده الثامن، نعم صرت أستأنس بذكرى صورته في خيال عقلي كأنها نقش فرعوني قديم طبعه الزمان في صفحة خيالي الممتد، خصاله وحياته لا تكفيها أقلام مدادها من البحار، هل أبالغ في الأمر؟ هل فقدت أبي؟ هل حقا أعيش في جلبابه؟!