إيهاب حسن يكتب: فصل من آخر ترجمات السيد إمام | برولوج براءة جذرية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

من عادة كل عصر أن ينظر إلى أزمته الخاصة بوصفها الأزمة الاستثنائية، وأن يأمل أن تثبت أزمته دائمًا أنها الأزمة الأكثر سوءًا فى التاريخ. ولا تخلو مثل هذه الأوهام من معنى لأنها المادة التى يصوغ منها البشر سجل أيامهم المتسارعة، معمقين لحظتهم عبر استعراض واضح للكبرياء والحيرة أو اليأس. باختصار، ليست هذه الأوهام سوى الطريقة الإنسانية لقول: «نحن هنا»، ونحن هنا بالفعل وقد تجاوزنا أول القرن العشرين ومن خلفنا حربٌ مدمرة، وحربٌ لا يمكن أن نحددها تبدو فى الأفق. ومع ذلك، فقد حان وقت الدعوة إلى إيقاف دراما الانشقاق والانصهار، والتهديدات الجدية وألوان التفجع والعويل الأبدي. إننا بوجودنا على مشارف عصر الفضاء، ليس أمامنا من ملاذٍ سوى إيثار الحياة على الموت، أن نوجه اهتمامنا نحو هذا الزمان وهذا المكان، لأفعال الإنسان وأعماله التى تحيل الزمان والمكان مسكنًا للروح.

نحن هنا: هى تحديدًا الصرخة التى أطلقها الأدب بكل ما حملت من أصداء عبر العصور. فإذا كانت هذه هى الحقيقة الوحيدة التى تؤكدها الرواية الأمريكية المعاصرة، فإن ذلك سوف يعد سببًا كافيًا لإنقاذها من الاهتمام المبتذل أو عدم الاكتراث الذى استقبلت بهما. غير أن الرواية الأمريكية المعاصرة لا تؤكد فقط وجودنا.

ولكنها تستكشف –أيضًا- وتوسع، مشروطيات وأشكال هذا الوجود: «أن تكون حيًا، أن يحيا الإنسان ككل، هذا هو المهم». لقد تحدث د.ه. لورانس بحكمة اتسمت بالمغالاة:

«إن الرواية، والرواية أولاً وأخيرًا، يمكنها مساعدتك: إن بإمكانها أن تساعدك على ألا تكون رجلاً ميتًا فى الحياة». إن الأساتذة الذين يعتقدون أن الرواية زائلة، يدينون الرواية الحالية بوصفها شكلاً مستنفدًا لا علاقة له بأهداف مجتمع سامٍ ملتزم بمغامرة كوكبية، ومن ثم، لم يعد مُستقبِلاً لفكرة بطولة الروح الفردية.

إن هذه الفكرة تكشف أن قصر النظر هو السمة الأبرز لرؤية يوتوبية. وعلى الرغم من أنه لم يعد باستطاعتنا دحضها إلا إذا دحضنا كابوسًا أو نبوءة، فإن بإمكاننا أن نشكك فى حكمها، وذلك بفحص أحد الأمور الأكثر حيوية: طبيعة الذات المعاصرة فى الفعل ورد الفعل، فى الضرورة والحرية، فى القبول والإنكار، وفى الانطلاق لمواجهة التجربة والارتداد مرة أخرى للاحتفاظ بصحة عقلها وبراءتها.

وإن أفعال الذات المعاصرة وارتداداتها، تحتل تلك المنطقة الكثيفة من الواقع التى يلتقى عندها وعينا بالحقيقة وأشكالنا الأدبية. إن حركات الذات تقترح مناطق التوتر والاسترخاء فى حياتنا الثقافية. لقد كانت هذه الحركات هى الشاغل الأول للرواية منذ أن طرق الفارس ذو السحنة المقطبة.

وهذا الطريق وإلى جواره سانشو البدين . إن البطل، الذى لا تزال الحياة تنبض فى قلبه التخيلي، يتوسط بين الذات والعالم فى ذلك الشكل الديالكتيكى الخيالى الذى اتفقنا على تسميته: رواية.

ولكن ما هى صورة البطل التى تبرزها الرواية الأمريكية المعاصرة، الصورة التى تمنح الرواية شكلها، وتمنح عالمنا مادته الخاصة؟ ليست هناك إجابة واضحة بطبيعة الحال يمكنها أن تحيط بالأمر كله.

ومع ذلك يمكن أن تكون هناك بداية: أن نتخيل ردود أفعال أحد سكان المريخ المطلعين على بعض العناوين السائدة –والعناوين فقط- على رفوف مكتباتنا:» الضحية» «الرجل المعلق» «العارى والميت» «القلب صياد وحيد» «الرجل الخفي» «احتضار يوم طويل» ، «لون الظلام» «من الصعب العثور على رجل طيب» «نهاية الشفقة»  «شجرة الليل» «استلق فى الوحل/الظلام» ، إلخ. ولا ينبغى أن يؤثر ذلك على حكمنا على زائرنا إذا كان رد فعله المبدئى هو أن كوكب الأرض فى طريقه إلى دمار ذاتي.

ومن الواضح أن نوبة من المقاومة السوداء تتخلل الكتابة المعاصرة ولا يخشى الروائيون الاعتراف بها. إن كاتبة مسيحيةً مثل فلانارى أوكونور Flanarry Oconnor وروائيًا متطرفًا يتسم بالمغالاة مثل نورمان ميلر Norman Miller يتفقان على أن العنف والتشويه يجب أن يكونا وسيلة التعبير عن رؤية يكون المجتمع معاديًا لها. وسوف يتفقان على نحو  أبعد على أن العالم المعاصر يوجه الإهانة المستمرة للإنسان وبأن استجابة هذا الأخير، ينبغى أن تكون استجابة المتمرد أو الضحية، الذى يعيش فى كنف الموت.

وتتعدى هذه الاستجابة كثيرًا الدعاوى التى تكتفى بمجرد المعارضة، ولا تثبت تهم الحياة أو عدم الانتساب. إن «الذات المعارضة» المعاصرة تمتلك بكل تأكيد طاقات «الإدراك» الساخط، الخيال الجامح المعادى للثقافة الذى تمارس وجودها فيه.

والذى ألمح إليه ليونيل تريلينج على نحو بارع فى الرواية فى المائة والخمسين سنة الأخيرة. سوى أن الذات المعاصرة هى أيضًا ذات تنتمى إلى ما بعد الرومانتيكية. إنها لم تولد فقط مثل «دوريت الصغيرة» Little Dorrit (*) فى سجن،

ولم تتشكل فى سجنها، الذى يشبه قلعة أكسيل Axel والذى يمثل حصنًا وضريحًا فى آن. إنها تعمل أيضًا على اكتشاف الأسرار الغريبة لكل السجون التى لا يرغب أحد فى الهروب منها على الرغم من أنها لا تغلق أبوابها أبدًا. إن كل ممرات الهروب تؤدى إلى نفس الزنزانة، ولا شيء يمكن أن يوجد حقيقة خلف جدران السجن.

ولا يمكن لأى سجان أن يكون غير سجين متنكر. إن الذات المعاصرة تنسحب بعيدًا عن العالم كى ترتد سريعًا إلى نفسها؛ لقد اكتشفت العبث. إن الحكاية الرمزية الأخلاقية التى استخدمها صول بيلو كمقتبس يصدر به روايته «الضحية» The Victim يلخص هذا الإدراك المخيف. والقصة، هى قصة التاجر الذى جلس فى ظل شجرة، فى «ألف ليلة وليلة» لكى يأكل التمر فى هدوء.

وعندما انتهى من تناول التمر، قذف بالنوى بكل قوة، وهنا ظهر عفريت ضخم الجثة وقد استل سيفًا، واقترب من التاجر، «قف لأننى سوف أقتلك لأنك تسببت فى قتل ابني!» وسأل التاجر «وكيف قتلت ابنك؟» أجاب العفريت «عندما أكلت التمر وقذفت بعيدًا بالنوى أصاب ابنى إصابة قوية فى صدره أثناء سيره وأرداه قتيلاً».

ومع ذلك لو كانت الذات المعاصرة فى حالة تراجع أو ارتداد، فليس بوسعها، فيما نأمل ونظن، أن تلوذ أخيرًا بالهرب. إن ارتدادها هو أحد ملاذات وعيها، واستراتيجية لإرادتها. إن أكثر إشاراتها المعارضة المعذبة، كما سوف نرى، تظهر تورطها فى العالم الذى تعارضه، ويسبر أكثرُ أشكال أسلافها يأسًا قلبَ الحياة الدينية فى عصرنا.

يقول رايت موريس: «إذا كان المزاج الحديث فى اختلافه عن المزاج الرومانسى يكمن فى الاعتراف بأن الإنسان فانٍ، فإن هذا الاعتراف هو الذى يقرر المادة الخام الأولية التى يتعين على الفنان استخدامها. إن عنصرًا من عناصر اليأس، عنصرًا مدمرًا، هو إحدى العلامات التى نميزه بها، أما العنصر الآخر، فهو الاستعمال البنّاء الذى يتم به توظيف هذا العنصر.

وإننا نعتقد أن كلا العنصرين يبرزان فى الشكل الجديد للبطل فى الرواية الأمريكية المعاصرة. إن أحدًا لم يستطع بعد أن يحدد على وجه الدقة ما يرمز إليه البطل الجديد، إنه ليس بالضبط الفكرة الليبرالية للضحية، وليس أيضًا الفكرة المحافظة للمنبوذ، كما أنه، بالإضافة إلى ذلك، ليس الفكرة الراديكالية للمتمرد، أو، ربما كان كل هذه الأشياء مجتمعة، أو، شيئًا لا صلة له بها مطلقًا.

وأحيانًا يتم فهم مظهر واحد من مظاهر بنيته، وفى أحيان أخرى يتم فهم مظهر آخر من مظاهر هذه البنية، وتبدو قدرته على تحمل الألم أقرب ما تكون إلى قدرة القديسين على تحمله، وولعه بالهرطقة إجرامى على وجه التقريب.

ولكونه قد وصم بالقداسة والغرابة معًا فى أعماله الإجرامية، فإنه يظهر أخيرًا كتعبير عن رغبة الإنسان التى لا تنطفئ لتوكيد الإحساس الإنسانى بالحياة، على الرغم من خواءات عصرنا وتقلباته.

وإن خاصية ولعه هذا، وخاصية وعيه، هما اللتان آثرنا أن نطلق عليهما «براءة جذرية»، أولا، لأنها متأصلة فى شخصيته وتصل إلى جذور أو أساس هذه الشخصية. ولكنها «جذرية» أيضًا لأنها مفرطة، وغريزية وفوضوية، تؤرقها الرؤية.

إن البطل الجديد يوفق بين الحدود القصوى المشرقة للضمير والخيال الأمريكيين، والنزعة المتوطدة لثقافتنا المعاصرة. إن موقفه يسائل «المركزية الباطنية mystic centrality» لزماننا التى أدانها ريتشارد تشيز فى «الأفق الديموقراطي» The Democratic Vista، ومصيره شاهد على استمرار «التناقضات والشذوذات المفعمة بالحيوية التى شغلت العقل الأمريكى فى الماضي» إن براءته لا ترجع فقط لتلك السذاجات التى تماثلت صوابا أو خطأً مع الرؤية فى أمريكا. بل إنها بمعنى أصح، خاصية للذات الأمريكية الأسطورية.

وربما لكل ذات قديمة. إن براءة الذات هى التى ترفض قبول وطأة الواقع التى لا يمكن الحد من وقعها، بما فى ذلك الموت، ذات بدائية لا يمكن لمطالبها الملحة فى الحصول على حريتها أن تخمد. وهناك شيء فى خاصية تلك البراءة يذكرنا بالشخصية المتوحشة الحقيرة، الشخصية القديمة والشريرة ل وينيباجو تريكستر Winnebago Trickster .

والذى وصفه يونج بأنه صورة أمينة للوعى الإنسانى الذى لا يمكن تمييزه مطلقًا والمتجاوب مع نفسية لم تكد تفارق المستوى الحيوانى ، ولكن البراءة التى نتحدث عنها تمتلك أيضًا عنصرًا مقدسًا : إنها تمتلك مثل ديونيسيوس تلك الطاقة الداخلية لكونها خلاقة وتضحوية، والتى كان د.ه. لورانس يأمل فى العثور عليها فى آدم الأمريكي.

وإن التفاوت بين براءة البطل والطابع المدمر لتجربته يحدد موقفه المادى أو الوجودي. ولا يرقى ذلك إلى الفكرة الأرثوذوكسية للبراءة الأمريكية –وهى فكرة جذرية- ولكنها فكرة، فيما نظن، يمكن أن تساعدنا فى جعل البطل الجديد أكثر معقولية.

إذا كانت الملاحظات السابقة ترقى لأن تكون مبدأ، فإنها سوف تكون المبدأ الذى نتمسك به. إن العقائد القطعية المسلم بها تقاوم أحيانًا ما يحدثه الزمن من خراب، ولكن لا شأن للنقاد بفكرة الأبدية . إن قيمةً يمكن أن تكتشف فى هذه الدراسة.

ويمكن أن تكون هناك وجهة نظر من نوع ما تكمن خلفها – يمكن وصفها على نطاق واسع- على أنها «وجودية». إن استعارة «براءة جذرية» توحى فيما نأمل، بكلا الثيمة ووجهة النظر، ولكن الاستعارة يمكن أن تعمل فى النهاية على كشف القناع عن وجه البطل.

إن أبطال الرواية يُصنعون ولا يولدون. وعلى الرغم من أن الجوهر الدقيق للعصور يسرى فى عروقه، فإن الأبطال لا يمثلون التاريخ فحسب ولكنهم يعيدون خلقه عن طريق الفن. إن البطل مرآة تستخدمها الرواية لمباغتة الواقع والتعرف على أشكاله.

إن نظرتنا للرواية الأمريكية المعاصرة، تمر بثلاث مراحل متصلة تتجاوب كل منها مع تقسيم فرعى لهذا العمل وتكون الحركة عمومًا من الفرضية إلى المثال، من العام إلى الخاص. لقد سمحنا للمفاهيم التى أكدنا عليها فى البداية بالانتشار والتوسع عن عمد، مستخدمين حقائق أدبية فى النهاية. والأجزاء الثلاثة يمكن تلخيصها كالتالي:

1 - البطل والعالم: منظور تاريخى للصورة المتغيرة للبطل فى الرواية الحديثة فى أوروبا وأمريكا.

2 - أشكال الرواية: تحليل شكلى للطريقة التى تستجيب بها الرواية كجنس للرؤية المتغيرة للإنسان فى الرواية الأمريكية المعاصرة: ثمانى روايات تعكس تنوع الأنماط الروائية تستخدم أساسًا لتحديد شكل ساخر جديد.

3 - الموهبة الفردية: نظرة نموذجية لأربعة كُتاب: ماك كلرز MacCullers، كابوت Capote، سالينجر Salinger، بيلو Bellow. وهم الكتاب الذين عالجوا بعضًا من الاهتمامات الروائية الملحة منذ الحرب العالمية الثانية.

إن القوى الديالكتيكية للتاريخ والمجتمع (العالم) تؤثر على فكرتنا حول الذات (البطل)، حيث يبرز نمطًا جديدًا من الأبطال، ومن اللحظتين النقديتين فى مواجهته بالتجربة، لحظتى المواجهة أو الهزيمة، يأخذ شكل الرواية هيئته. وتعبر المشكلات الناجمة عن الشكل عن مشكلات الرؤية التى يواجهها أفضل الروائيين الجدد. وهذا باختصار، هو المنطق الذى يقوم عليه استعراضنا.

وإليك المزيد من كلمات التحديد. إن الروائيين الذين نهتم بهم فى هذا الكتاب، والذين نشير إليهم بلفظ « معاصر» ولدوا جميعًا بعد عام 1910، والكثيرون منهم ولدوا بعد ذلك بوقت طويل. إنهم بعض الروائيين، وليست هناك أى دعوى للشمول أو الحصر هنا، كما لا توجد محاولة لتقييم أوجه الشهرة فى البورصة الأدبية، أولئك الذين لفتت إنجازاتهم الأنظار بعد الحرب العالمية الثانية، والذين تقترح جهودهم، مهما يكن من أمر تنوع هذه الجهود أو تميزها، اتجاها جديدًا فى الكتابة الأمريكية. إن النقاد الأقدم، والذين يفضل بعضهم البقاء كصبيان فى زمن الصبا عند همنجواى، لم يلتفتوا إليهم كثيرًا، بينما استمتع آخرون بأن جعلوا منهم هدفًا لفطنتهم الأوليمبية. وليس لدينا ما نشكو منه بخصوص النقاد، بمعنى أن تكون لدينا معايير متصورة سلفًا نفرضها على نضال الكاتب مع فنه، أقصد، إيمانًا بالأخرويات نضعه كخلاص للرواية. ويكفى النقاد أن يكتشفوا عبر معجزة ما، أو إحدى الصدف، هذه الصيغة من الكلام التى تسمح للمؤلفين بالحديث نيابة عنهم.

اقرأ أيضا ً| مسعود شومان يكتب: نقل لنا النظريات ودون تشنج ودون نرجسية بليدة