محمد برادة يكتب: بصورةٍ مفاجئة.. كتابةُ الذّاكرة المَنْسيّة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

 فى المجموعة القصصية الجديدة «بصورةٍ مفاجئة» لمنتصر القفاش (الكتب خان للنشر،2023)، تطالعنا سماتٌ فنية تميّز بها الكاتب فى مجموعاتٍ وروايات صدرت منذ مطلع الألفية الجديدة. ذلك أن القفاش، مثل عددا من كتاب جيْله فى مصر والفضاء العربي، لا يحبسون أقلامهم فى قوقعة «الواقع»، بل يولونَ اهتماما أيضا إلى الأبعاد النفسية والحُلْمية واللامرئية التى تمتزج بالواقع وتجليات الحياة المتشابكة، وتستوقفُنا عند قراءة الواقع أو محاولة إبداعه عبْر التخييل. وضمن هذا المفهوم للكتابة.

يندرج الاهتمام بالذاكرة والتعقيدات التى تلفّ مخزونها لتجعله زئبقياً عند محاولة الإمساك به. ولعل الروائى الفرنسى مارسيل بروستْ، فى مطلع القرن العشرين، هو من بين الذين بلوروا طريقة لكتابة الذاكرة من خلال ما أسماه "الذاكرة اللاإرادية" والتى تُباغتنا فى لحظات ومواقف لا نستطيع التحكم فيها، لكنها تجسد أمامنا لحظاتٍ من أشياء ومشاعر عشناها فى سياق سابق من حياتنا، وانبثقت خارج إرادتنا لتجسّد ذلك المنسيّ بأعماقنا.

وأنا أجد أن قصص «بصورةٍ مُفاجئة» تستحضر لحظات من تلك الذاكرة اللا إرادية التى تنبثق من طفولة السارد الذى هو نفسه فى جميع القصص، وقد تمتدّ أحيانا إلى مرحلة المراهقة أو مطلع الشباب.

ومن تلك اللحظات، يبدع الكاتب الصنّاع ما يمكن أن أسميه قصة «اللحظة الاستذكارية» المُطعّمة بتوابل اللامعقول وما فوق الواقع، والفانتاستيك... ويمكن التمييز بين نوعيْن من التذكر فى هذه القصص: ذكريات لها جذور وامتداد فى المحيط العائلي،خاصة فى مرحلة الطفولة والمراهقة، ومشاركة الأب والأم والجدة والجد، ما يجعلها ترسم ملامح سريعة لمستوى الأسرة التى ينتمى إليها السارد والعلائق القائمة بين أفرادها.

وذكريات لها طابع حميمى تكاد تقتصر على ذاكرة السارد،أى أنها تنبثق من اللاشعور وتحرك وجْدانَه الذى يعبر عن تفاعل خاص مع تلك اللحظة الاستذكارية التى كسّرتْ طوْق النسيان؛ وأكثر ما يتجلى ذلك فى قصص: «كانْ يا ما كان تلك الحرب» و«حكيُ الأحلام» وَ«صوتٌ ما».

ففى هذه القصة الأخيرة، نجد أن السارد وجد نفسه مُلاحَقا بمناجاةٍ يخاطب فيها عاشق حبيبته فظن أن مَنْ بجواره يسمع نفس المناجاة، لكنه سرعان ما تأكد أنه هو وحده من يسمعها: «حفظتُ كلمات المناجاة وصرتُ أهمس بها مع الصوت.

وجرّبتُ ترديدها داخل الشقة وخارجها لأعرف إن كانت ستسبّب أيّ شيء جديد، ولأختبر إمكانية استدراج الصوت إلى مكانٍ آخر. لم تلتفت إليّ أمى ولم تعلق حينما ردّدتُ بصوتٍ عالٍ: «فأنتِ مُبتغايا والجنّةُ التى أحلم بها»، أكملتُ بصوتٍ أعلى: «البُعد عنك قاتل، والعمر بدونك ضائع" فظلتْ صامتة وهى تُطبق الملابس» ص129 وعندما فشل السارد فى معرفة مصدر هذا الصوت ومَنْ تُوجهُ إليه المناجاة، قرر ما يلي: «أمتلِكُ سرا لم أقرر بإرادتى أن يكونَ سرا، لكننى أصارحُ نفسى أنه هكذا يكون السرّ: شيء لا يمكن أن تفصح عنه حتى لو أردتَ. ولا يقبل القسمة على اثنيْن. ولا نقدر على إقناع أحد بوجوده أصلا»، ص 130.

 ومن هذه الزاوية، يمكن أن نسجل أيضا أن وجود سارد واحد لمجموع القصص، وكذلك مرجعية الفضاء والأحداث، على نحو ما يتجلى لنا فى إحالة قصة «أماكن الكنز» على قصة سابقة لها فى الترتيب تحمل عنوان «فتح الصندوق».

والتذكير بحادثة «تمزيق الصندوق الذى ورثه أبى عن جدي،بحثا عما ظننتُه مخبأً فيها...» ص  97. كل ذلك يؤكد أن البنية العامة لمجموعة «بصورةٍ مُفاجئة» يمكن أن تكون، فى الآن نفسه، بنية لرواية عن رحلة السارد من الطفولة إلى الشباب، عبْرَ صور ومواقف وأمشاج ذكرياتٍ تلحمُها لغة الطفولة والحلم لدى السارد المأخوذ فى شَرَكِ الذاكرة اللاإرادية ؟ لكنْ، أجدُ أن لجوء الكاتب إلى اختيار شكل القصة القصيرة.

وقد أتاح له أن يستحضر جزءًا من ذاكرته الطفولية عبْر عناصر فنية تستوحى الفكاهة والفانتاستيك والغرائبيّة، ما جَعَلَ الشكل القصصى يتحرر من صرامة السرد الواقعي، ويستظلّ بالرحابة التى تتيحها إثارة الدهشة لدى القارئ...

 وما يسترعى الانتباه أيضا فى هذه المجموعة القصصية، أن الكاتب لا يحرص على ربط هذه الذكريات بأبعادٍ اجتماعية أو سياسية تحيل على أحداث مؤثرة فى سيرورة المجتمع وصراعاته، ومن ثمّ غياب رؤية للعالم تشمل القصص التى تستحضر فترة معينة من تاريخ الكاتب وتاريخ مجتمعه.

وأظن أن هذا اختيار من لدن الكاتب الذى دأب فى نصوصه الإبداعية السابقة على نوع من التباعُد بين الأدبى وَ السياسى المباشر، لكى لا يحيد الإبداع عن خصوصيته فى التعالى عن الظرفى والإيديولوجي.

ولكنْ، بدلا من صوغ رؤية للعالم، نستشعر فى ثنايا القصص لمحاتٍ تستنطق الغافى بالأعماق والمنبثق مِنْ «كتابة المنسيّ فينا». ذلك أن مشاعر كثيرة نُداريها بالنسيان أو تتلاشى فى زحمة المشاغِل ورتابة العيش.

ومثل هذه القصص التى تحتفل بلغة الطفولة والحلم تسعفنا على استعادة زادِنا المنسيّ من العواطف واللحظات المُميّزة ذات الكُنْه الإنساني. ويمكن أن نسوق نموذجا لذلك، ما ورد فى قصة «الملاكِم» حيث يتذكر السارد علاقة جَدّهِ بالملاكم الذى كان يعتبره بطلا ويدافع عنه بعد موته على هذا النحو: «وما سرّ اهتمامه بالبطل؟ كانت إجابته التى كرّرها كثيرا.

أنْ يطلب ممّن يسألونه تخيّلَ أنفسهم وقد رحلوا عن الدنيا مُبكّرا قبل تحقيق أحلامهم؟ ألا يُسعدهم أن يظلّ شخص واحد على الأقل يتذكرهم ويُطيل أعمارَهم القصيرة باستمراره فى الحكْيِ عنهم؟» ص 62.

ولقد استطاع منتصر القفاش فى هذه المجموعة القصصية «بصورةٍ مُفاجئة»، أن يُوظف الحفْرَ الدّؤوب فى مناطق النفس المُهمَلة ليستخرج منها لحظاتٍ استذكارية لها تأثير فى وجودنا؛ لكنها كثيرا ما تُهمَل أمام الاحتفاء ب«الواقع" وتجلياته الملموسة.

وقد توسل فى هذه المجموعة أيضا بلغته الدقيقة، المقتصدة، وبالحوارات الجانبية الكاشفة، وبمَرح الطفولة وشيْطَنتها لكى يُجلى مناطقَ فى النفس والسلوك كثيرا ما يتمّ التغافلُ عنها؛ وهذا ما يجعل قراءة المجموعة تجمع بين اللمحات المضيئة لجوانب حياتية مهملة ومتعة القراءة التى تُفسح لهذه القصص مكانة فى ذاكرة القارئ.

اقرأ أيضاً | الأمين العام لـ«الطفولة والأمومة» تعلن إطلاق الاستراتيجية القومية لتنمية الطفولة المبكرة