علي فتحي يكتب: كيف تُبعث حيًا

علي فتحي
علي فتحي

هل يموت المرء وهو على قيد الحياة ؟ أقول نعم.

هم يقولون: أصعب الخيانات هي أن تخونك صحتك.. وأقول لا.

نعم قد يمرض الجسد ويخذل صاحبه ويذله ولكن في الحقيقة هناك ما هو أفدح وأقسى ومتى أصابك تركك بقايا حي وأشلاء تئن بصمت وتحتضر ..الأشرس والمميت أن تكون سليم البدن لكن الروح ميتة أو معتلة بشدة ولا منقذ بجوارك تبوح له بتباريحك.

 خيانة روحك قاتلة أكثر من أي مرض حين تتخلى عنك وتتمرد ثم تهجرك غاضبة من استسلامك للهزائم وتضجر من زهدك في النصر أو الفرح، تعلن نشوزها وتتعمد إخفاء العنوان وتتركك تهذي كدرويش يطارده الصبية  في الأزقة التى تزورها بحثا عنها، أنت تحدثها وهم لا يفهقون لغتك وهي لا تسمعك، يتمكن منك الإعياء حد الترنح والسقوط.

أن يخونك قلبك ويمضي متسللا تجاه من آذاه متواريا عنك وطالبا اللجوء منه هي خيبة قاصمة كضربة قاضية، ترقبه عن بعد فتراه ينعم بالإقامة على الحدود الباردة الرمادية ولو غريبا وطريدا، يتبرئ منك عقابا لك ويلقيك مبكرا فى دار للعجزة عن الأحلام أو بمنفى للأحزان دون حتى أن يلقي عليك كلمة وداع، تلك خيانة دامية أيضا.
 

أن  تكون عاقا لموهبتك فيخونك قلمك ويتمرد حرفك ويتسكع متشردا عند زاوية واحدة فقط يسكنها من سلبوه جناحيه وسكبوا مداده وأجهضوا حلمه، ثم يبخل جدا بزيارة قصيرة لك متى داعبتك الفكرة وأغوتك للكتابة عن سواهم، عاصيا أمام رجاءاتك، عقوق متبادل يتبعه أذى، فلا تندهش متى رأيته غير بارِ بك، فتلك بضاعتك رُدت إليك.


مروعة تلك الخسارات التى تتورط بها حين تزيح الحسابات جانبا وتعفي عقلك من الحضور لمقر عمله يوميا وتمنح للعاطفة السلطة المطلقة دون أن تعي أنها مفسدة مطلقة، متى تقامر بكل ما تملك على طاولة الحب مقابل سراب مضل، تهمل أمرك فيطلق لحية شعثة ويرتدى ضلالات مهترئة رثة وفقط يتأنق ويتعطر من أجل قلب متجهم عبوس يقرصه بالصقيع أو حلم عقيم، فكلاهما يستويان فى القسوة وبارعان في اختطافك..أنت نفسك وهذا الأخر المحتل المحتال.


 هالك أنت متى راهنت على طريق وعرة ولا تبرحها مهما حذرك أحدهم ممن شاورتهم في الأمر والوجهة، ولكنك تعاند غير ملتفتا لنصح وتظن أن بنهايتها النجاة وبلوغ السلامة، فتضل خطوتك وتُدمَى قدماك وتنفذ أخر قطرات حلمك فتلقى حتفك عطشا ووجعا واغترابا.


قاسية جدا تلك الخيبات الآتية من داخلك لا من الأخرين ووقتها تعاقب نفسك بخذلانها أكثر وأكثر فتطوي صوتك في خزانة الصمت، وتعتقل ظلك منسحبا، فيزداد وهن الروح ويتوارى الشغف أو حضورك إذا ما آثرت الانزواء، تندثر في ذاكرتهم وكأنك لم تخط كلمة في صفحة الكون ولم تترك أثرا على أرض مررت بها وقوم عاشرتهم.


مؤلم جدا حين تَعلق في منتصف نفق الهروب.. تمل من الاختفاء في عتمة ذاتك، وأيضا تفقد الرغبة في مواصلة السير نحو الضوء ويزعجك صوت الحياة والزحام، ولا أحد يمكنه سماع آنات استغاثاتك المكتومة..فينتشلك منك.

 حين تصل لهكذا منعطف خطير في محطة من العمر لن يكون لديك خيار أخر أو "فرامل" طوارئ ونافذة إنقاذ سوى رغبتك في النهوض ونزع ابتسامة النصر عن وجوه الشامتين، أن تستنفر التحدى الكامن على استحياء بين زوايا روحك، تأكد أنه لا ملجأ منك إلا إليك، فلن يلتقطك من الجُبِ عابر سبيل من السائرين بجوارك نياما واللامبالاين بغيرهم ولو استصرختهم لنجدتك، لن يلتقمك حوت القنوط والخضوع إذا ما كان لديك إيمان بقوتك المهدرة عن عمد منك، وبقدرة الخالق ويده التى ستمتد إليك حتما وتسند ميلك متى دعوت واستغفرت من وسوسة لشيطان الوهم كدت تطيعه ثم عصيته واستقمت.

كي تُبعث حيًا من بعد موات روحك كن لنفسك في تلك اللحظة الحرجة نبيا ذا معجزات، طبيب إفاقة لا تخدير، حدثها وهدهدها بحنو عاشق وحكمة شيخ.
إهمس لها ناصحا:  التوهج شعلة الشجعان، والرماد ميراث المنهزمين الخانعين، الحياة قرار شجاع والموات فرار جبان، إما أن نغوص لقاع القاع في بحر الانهزام والخضوع وتأخذنا دوامات اليأس إلى حيث اللاحياة والانطفاء والاختفاء.. أو أن نسبح عكس التيار بداخلنا ونطفو على السطح متمسكين بطوق الرغبة في البقاء تحت الشمس، لا مقبورين في جوف قبو الاحباط أو ظلمة وبرودة ثلاجة الموتى.. بحسم لملم شتاتك وبقاياك وإصنع منهم جوادا يعيدك إلى وطن أحلامك وضحكاتك ونجاحاتك، لا تكن غريقا بغفلتك وغفوتك الطويلة، ولا تعش مختبئًأ داخل خيمة خيبتك ملتحفا بوجع انكساراتك، سيكون الجاني أنت حين تجبن عن المواجهات وتترك الحلبة لمن هم دونك أو من لا يريدونك أن تزاحم على حقك في الحياة، لا تتردد في ترميم شروخك طالما لم تنهار تماما بعد، لا تلتصق بالأرض وول وجهك شطر السماء 

 نعلم أن للتعافي ثمن باهظ ومشقة ولكننا نستطيع إحياء الروح لو تحدينا الألم واحتسينا الأمل مع قليل من الصبر  الدافئ واحتمينا بالمحبين حقا لا زورا وكذبا.. دمتم أحياء.

[email protected]