يوميات الأخبار

طاهر قابيل يكتب: رحلة العمر النيلية إلى أرض النوبة

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«أقام بها الملك رمسيس الثانى فى ذكرى انتصاره بمعركة قادش معبدا فريدا كنصب دائم له ولزوجته الملكة نفرتارى»

رغم أنى زرت الأقصر وأسوان وأبوسمبل ولكن رحلتى النيلية كانت الأجمل والأروع وأنا أرى مياه النيل وهى تلامس الأرض التى يكسوها اللون الأخضر وأشاهد الشمس تشرق صاعدة وتغرب غاطسة فى شريان الحياة لنا على مر التاريخ .. كانت بداية رحلتى الرائعة بمدينة «المائة باب» التى اتخذها أجدادنا عاصمة لمصر الفرعونية على يد الملك «منتوحتب الأول» بعد نجاحه في توحيد البلاد من جديد والقضاء على فوضى عصر الاضمحلال.. وبقيت طيبة العاصمة المصرية حتى جاء الفرس وتولوا الحكم .. كانت الأقصر قديما اسمها «وايست» ووصفها الإغريقى هوميروس فى الإلياذة بمدينة الشمس وسماها العرب الأقصر عندما وجدوا بها الكثير من القصور أوالمعابد.. النهر يقسمها إلى البر الشرقى «دار الحياة» فبنى فيه أجدادنا المصريون القدماء بيوتهم التى يسكنون بها بالطوب اللبن مع معابد قريبة لأداء الصلاة والتدين ..كان البر الغربى «دارالممات أو البقاء» فبنوا فيه مقابر ومعابدهم بالأحجار الثقيلة والنحت والحفر بالجبل .
أول ما جذبنى فى الأقصر «مجمع معابد الكرنك» وما به من معابد كبيرة وصغيرة بجانب معبدى رمسيس وأمنحوتب ..وبعد ذلك كان كل ملك يأتى يذهب للحروب وتطهيرالحدود من الأعداء يعود الى طيبة ويبنى بها تحفا أثرية جديدة ، فخلال 100 سنة ساهم 30 ملكا فى توسعات وبنايات بالكرنك.. وأول ما قابلنى به بعد دخولى من «طريق الكباش» وجدت صالة للأعمدة الأكبر والأعظم فى العالم وعرفت أن مساحتها 6آلاف متر مربع وتحتوى على 134 عمودا من الحجر الرملى.. وأجلس سارحا فى عظمة البناء بجوار البحيرة المقدسة بعد أن مررت على قدس الأقداس وشاهدت بعض المعابد الصغيرة مثل موت ومونتو وخونسو الذى يتميز بجماله وروعته وتجولت بمعبد «الأبت أوالتحنيط أوالموتى» المزين بتيجان عليها صورة «حتحور» ونقوش للملوك الذين تم تحنيطهم بداخله.. ويقال إنه تم بناؤه على  معبد آخر وأن هناك أنفاقا وسراديب أسفله تصل للبر الغربى وأن الملك بعد تحنيطه يؤخذ عبرها حتى يدفن فى وادى الملوك وكان معبد الكرنك بالكامل تحت الرمال حتى تم التنقيب عنه فى القرن التاسع عشر.

حتشبسوت وممنون
تركت  مجمع الكرنك وذهبت بالحنطورإلى معبد الأقصرلآمون رع وزوجته موت وابنهما خونسو وهو من أهم الأبنية التى شيدها أمنحوتب ورمسيس الذى أضاف إليه فناء مفتوحا وصرحا ومسلتين واستكمل توت عنخ آمون نقوش جدرانه ودمرت مقصورته الثلاثية فى عهد حتشبسوت  وأعيد بناؤها ..وفى المدخل شاهدت برجا مسجلا عليه انتصارات الملك رمسيس العسكرية وخاصة معركة قادش.. ويتقدم صرحه مسلتان من الجرانيت الوردى وعلى الجدران أربعة قرود تهلل للشمس عند شروقها.. وأسرعت بالذهاب إلى المتحف الذى يحتوى على أكثر من 376 قطعة نادرة ومومياوات لأهم الملوك منها : الرأس الجرانيتية لأمنحوتب وحتحور على شكل البقرة وتمثال لآمون وحلى وأوانٍ وأثاث وتمائم.. وكان الملك رمسيس الثاني مولعاً ببناء المعابد ومنها الرمسيوم وبه نقوش تحكى التخطيط لمعركة قادش مع الحيثيين  وشاهدت بالمتحف العديد من المومياوات الملكية والحيوانات المحنطة وأدوات التحنيط ونموذجا لمركب جنائزى .

بإحدى المراكب النيلية انتقلت إلى البرالغربى وزرت معبدحتشبسوت أو»جوهرة المعابد» المبنى فوق منحدر بالدير البحرى ويمتاز بعظمة هندسته المعمارية وتم تصميمه على 3 مستويات بشرفات مفتوحة ويمتاز بنقوشه.. تجولت فى «وادي الملوك» وشاهدت بعض المقابر الملكية وبه 64 من أروع المقابر التى استمتعت بمشاهدتها وخاصة عندما أصعد أو أنزل درجات السلم للوصول الى «التابوت» وأرى الرسوم والألوان على الجدران والسقف ومنها : المقبرة الرائعة لتوت عنخ آمون وتحتمس ورمسيس وسيتى وحور محب ..وانتقلت إلى وادى الملكات لدفن النساء من الملكات والأميرات وشاهدت أشهرها وأكثرها روعة فى ألوانها الجميلة وهى مقبرة جميلة الجميلات «نفرتارى» الزوجة المحببة للملك رمسيس وفى طريقى لترك البر الغربى لاستكمال رحلتى النيلية توقفت عند تمثالى ممنون وارتفاع الواحد منهما 22 مترا ويقال إنهما سميا بهذا الاسم لأن أحدهما تصدع وكان الهواء يمر من خلاله محدثاُ صوتاُ كالأنين فقيل إنه أنين أم البطل الأسطورى الإغريقى ممنون الذى قتل على يد أخبيل خلال حروب طروادة وكانا بالمعبد الجنائزى لأمنحتب الثالث فى كوم الحيتان الذى تضرر لموقعه المنخفض وغمرته مياه الفيضان وتعرض لزلزال شديد عام 27 قبل الميلاد.. وصعدت للسماء بالطيران بالمنطاد وشاهدت المعبد الجنائزي لسيتى الأول بالقرنة وعلمت أنه يطلق عليه «أبيدوس العظيم» واستكمل بناؤه ابنه ويمتاز بجدرانه ذات النقوش الرائعة وشاهدت منزل  كارتر

مكتشف مقبرة توت عنخ آمون  والذى تم تحويله الى متحف وعندما عدت ذهبت الى جزيرة الموز بمر كب بالنيل واتجهت الى معابد أبيدوس  شمال الأقصر وزرت معبد حتحور في دندرة وولادة إيزيس والبحيرة المقدسة ومعبد حورس فى إدفو الذى استغرق بناؤه قرنا من الزمان نتيجة للحروب وخنوم فى إسنا وهو الوحيد الباقي من 4 معابد يعود تاريخ بنائها للدولة الوسطى ويتميز بالزخارف والنقوش وصالة الأعمدة .

بعد متعتى من الحياة بين معابدنا الناطقة بالحضارة والتمتع بالإبحار فى نهر النيل وصلت  الى أسوان أو بوابة مصر الجنوبية أو الشلال الأول وهو  الحد الطبيعى بين الصعيد والنوبة وكانت أسوان  تعرف باسم «سونو» ومعناها السوق حيث كانت مركزا تجاريا للقوافل وسماها النوبيون «يبا سوان» أوبلاد الذهب وحدودها تمتد الى إسنا والسودان كما كانت مركزا لتجمع الجيوش ولعبت دوراً حاسماً في محاربة الهكسوس  وازدهرت عندما كانت طريقاً إلى ساحل البحر الأحمر حيث تبحر السفن إلى الحجاز واليمن والهند وأنشأ بها محمد على باشا أول مدرسة حربية ..  وزرت السد العالى ودخلت الى غرفة الطوربينات وكانت سعادتى لا تُوصف وأنا أشاهد مياه النيل تتدفق من فتحاته ، ففى أعقاب بنائه تم نقل معبد فيلة بأرض النوبة  بعد تجميعه الى «جزيرة أجيليكا» التى تبعد 500 متر عن جزيرة فيله وتعنى الحبيبة أو الحد والنهاية لأنها كانت آخر حدود مصر في الجنوب .. وبالجزيرة معابد لحتحور وأمنحتب واكتسبت على مدار التاريخ مكانة خاصة وتم بناء المعبد الكبير بالقرن الثالث قبل الميلاد وإضافة صروح ومعابد صغيرة بها وحاول البطالمة تجميل «الجزيرة المقدسة» وظهرت قرية جديدة حول معبد إيزيس وقد أدى بناء السد العالى لوقوع الجزيرة بين سدين وغارقة جزئياً

عمره 200 ألف سنة
انشأ اليونسكو فى تسعينيات القرن الماضى  متحف النوبة لعرض آثار الحضارة النوبية ومعلومات عن تاريخها من قبل التاريخ واستعراض العادات والتقاليد النوبية والمتحف من 3 طوابق وبالبدروم قاعة للعرض ومعامل الترميم وورش ومسرح مكشوف وبالطابق الأول كافيتريا ومكتبة ومتحف.. وتصميمه مستوحى من المقابر الفرعونية ومتناغم  مع البيئة ويحتوى على 5 آلاف قطعة تمثل مراحل تطور الحضارة المصرية والتراث النوبى وبه هيكل عظمى لإنسان من»200 ألف سنة» عثر عليه فى «إدكو باتيه» ومن القطع الموجودة بالمتحف تمثال لرمسيس وخفرع ولوحة حجرية لأمنحتب ..وقد كان متحف جزيرة الفنتين استراحة لمهندس الرى مصمم خزان أسوان وشاهدت به تماثيل للملوك وبعض المومياوات وأنواعا مختلفة من الفخار وتوابيت ولوحات جنائزية وبعض الآثار التي عثر عليها بالجزيرة..وزرت جزيرة النباتات وهى واحدة من أقدم الحدائق بالعالم وتحتوى على العديد من الأشجار والنباتات النادرة وزارها نهرو رئيس وزراء الهند وجوزيف تيتو رئيس يوغسلافيا والملكة إليزابيث ملكة بريطانيا ..وكان يستوطنها النوبيون وسموها «حديقة النطرون» واستخدمها الإنجليز قاعدة عسكرية وسموها «جزيرة السرادار» وسماها الملك فؤاد «جزيرة الملك» وأمر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتسميتها جزيرة النباتات.. وشاهدت بالجزيرة الأشجار الخشبية وأشجار الفواكه الاستوائية والنباتات الطبية والعطرية والتوابل والزينة والزيتية والزيتون وتم إنشاء ممرات من الجرانيت الأسوانى ومتحف  للأحياء النباتية والمائية ..وصعدت لضريح «الأغا خان» وهو مستوحي من المقابر الفاطمية وبنى من الحجر الجيري الوردى والقبر من رخام كرارا المرمرى الأبيض.. وكان الأغا  قد توفي في فيلا يمتلكها بأسوان عام 1957 ولم يُدفن في  الضريح إلا بعد عامين وكانت ارملته «البيجوم أم حبيبة» تضع كل صباح وردة حمراء على قبره  أثناء وجودها بأسوان وهى ملكة جمال فرنسا واسمها الأصلي قبل إسلامها إيفون بلانش لابروس وتوفيت في لو كانيه عام 2000عن عمر جاوز 94 عامًا وتم دفنها بجوار زوجها فى اسوان .

آثار النوبة المنحوتة
اختتمت رحلتى البحرية فى أبو سمبل أحد مواقع آثار النوبة التى كانت معابدها منحوتة من الجبال وقد أقام بها الملك رمسيس الثانى فى ذكرى انتصاره بمعركة قادش معبدا فريدا من نوعه كنصب دائم له ولزوجته الملكة نفرتارى ولتجنب تعرضه للغرق خلال انشاء بحيرة ناصر تم نقله على تلة قريبة الشبه بما سبق ولأن النوبة كانت مهمة فبنى بها رمسيس الثانى العديد من المعابد المنحوتة في الصخر وبنى بالقرب من قرية أبو سمبل معبدين الكبير مخصص له والصغير لزوجته نفرتارى ومع الأيام غطتهما الرمال حتى تم الكشف عنهما وإنقاذهما بتقطيع صخوره تحت الماء وإعادة تركيبها في موقع جديد ومعبد أبو سمبل من أروع وأجمل المعابد تقف على بوابته 4 تماثيل ضخمة للملك يصل طولها ل20مترا يرتدى تاج الوجهين البحرى والقبلى وتزين واجهة المعبد 22 قردا ويتم  تصوير انتصارات الملك فى المعارك التي شنها ومنها قادش ضد الحيثيين على جدران المعبد وكذلك فى ليبيا والنوبة وتخترق الشمس قدس الأقداس مرتين كل عام يومى 22 أكتوبر و21 فبراير .. وعلى بعد 100 متر تم بناء معبد حتحور ونفرتارى وببوابته تماثيل للملك والملكة متساويان في الحجم وبجوارهما الأمراء والأميرات .. وأنهيت رحلة العمر النيلية بالوصول الى حدودنا الجنوبية بعد أن عشت أياما مع ثروتنا الأثرية الفرعونية.