شيماء ياسر تكتب.. ارتداد

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

إلحق يا باشا إلحق.. الناس بتهج من البلد.. الناس بتمشى بقفاها يا باشا.

استفيق مذعوراً من نوم متأخر الى ما بعد شروق الشمس. الغفير مصيلحى يتحشرج صوته أثناء صراخه. أهبّ معتدلا فى الفراش فى اللحظة التى اقتحم علىَّ فيها الغرفة ملوحاً بيديه فى حركات عصبية غير مفهومة.

للمرة الأولى خابت نظرة الشرر من عينى التى ورثتها عن أبى فى أن تلجمه عن الصراخ والهياج . لم يرتدع لسبب بسيط سأعلمه فيما بعد وهو أنه يعانى من صدمة عصبية!

مصيلحي!! الناس هنا من طينة مختلفة. صلابتهم من صلابة النخيل وتحملهم من قدرة المواشى التى يتعايشون معها ليل نهار فى حمل الأحمال وإنتاج المطلوب لتستقيم الحياة.

استسلمت لحالة الهياج التى أسلم لها هو نفسه . استجمعت صوتى للاستفهام منه بشخطة من العادة أن تأتى ثمارها فوراً لكن تفاقم صراخه.

الناس يا باشا هجت من ديارها مبلمين محدش بيحط منطق . فاشخين بوزهم وبس . ماشيين بقفاهم لا مؤاخذة.

انتابتنى نوبة ضحك من تخيل المشهد. اتهمته أن الصنف الليلة الماضية كان وصاية. لكنه عدّد القسم والأيمان أنه لم يكن فى وعيه كما هو عليه الآن.

قوم يا باشا فِز شوف من البراندا اللى بيحصل.

يقولها مصيلحى وقد اتسعت عيناه متجها لباب الفرندا. لكن مهلاً، هل قال قوم فِز؟! هل جن هذا المصيلحى؟! لم أُعط فرصة لتوبيخ أو ثأر من غفيرى. بمجرد أن فتح الفرندا تسلل إلينا نور باهت. ليس بنور نهار ولا ما يسبق إقبال ليل. هو تماماً كما كان يظهر فى أفلام الأبيض والأسود التى كانت تتابعها جدتى حكيمة. مشهد السحب فى السماء وقد انبثق منها نور ليس بنور وأبيض ليس بأبيض.

وفززت بالفعل من فراشى وهممت بارتداء الروب ديشامبر . أوقف يدى نسيم رطب، ليس بحار ولا هو مما ينشرح له الصدر . نسيم يحمل خطراً كامناً لا تملك عليه دليلاً . اتجهت فى اتجاه مصيلحى المستند بكلتا يديه على الرخام الإيطالى للسور. ذكرنى مشهده بمشهد البابا فى احتفاليات الفاتيكان وصور قيصر روسيا، يطلقون أبصارهم على الرعية أسفل الأقدام بينما أياديهم الناعمة على رخام أبيض إيطالى فى الغالب.

مصيلحى قيصر كفر الرواعشة. ابتسمت فى سرى فى اللحظة التى أدفع فيها قدمىَّ لتجاور أكتافى أكتاف القيصر . لم تتخل عنى بقايا الفودكا ولعله كان السر وراء لامبالاتى أمام ما يحدث إلى هذه اللحظة. إلا أن امتلاء الأفق أمامى فيما حول أسوار العزبة بأفواج المرتدين الى الوراء أعادت إلىَّ ما غاب من الوعى أو نقص. أعاده كاملا مفزوعا.

وصدق بابا كفر الرواعشة، ذلك الذى جاء لى بهذا النذير . يرتدون إلى الخلف فى حركة رتيبة غير عشوائية . صامتة وهادئة كسريان الركام عكس اتجاه النهر . هل هو حلم أم وهم من تأثير الفودكا وأخواتها من سهرة الأمس، تلك التى جمعت من الأصحاب أربعة كنت خامسهم، كلنا من أبناء علية القوم العالمين ببواطن الأمور. كيف فاتنى تتبع الأمر على هاتفى إلى الآن.

هممت بالدخول لجلب الهاتف الذى أطفأته قبل خلودى للنوم، لكن فى التفاتتى لم يكن لمصيلحى وجود بجانبى. وجدته خلفى يتراجع فى خطوات ثابتة . يرتد غير عابئ باصطدام محتمل أو بصراخى الذى يطالبه أن يفيق وأن يوقف هذه المهزلة.

وأخذ يرتد إلى الوراء خطوة فأخرى تعلو وجهه ابتسامة بلهاء ظهرت منها بقايا أسنان صفراء . تتبعته حتى خرج من الغرفة هابطا إلى أسفل بنفس الهيئة الثابتة التى لا تخطئ خطواتها.

وفزعت إلى الفرندا مرة أخرى ولم يتغير المشهد. انضم مصيلحى إلى الجموع ورافقه مسعود الجناينى الذى ترك خرطوم المياه ملقى وسط طين الأرض فى الدائرة الخزفية المكونة من فسيفساء رائعة وسط المدخل الأول للقصر.

ها هى سعدية ابنة مسعود، تلك الملعونة التى لا أشبع منها فى خفاء ليالى وجودى هنا. حتى داوود الطباخ أخذ يرتد الى الوراء بطوله الفارع كإصبع كفتة أسمر عريض.

وفى تراجعها، اصطدمت مؤخرة سعدية بمقدمة الفيرارى الحمراء فانطلق زئير الأخيرة يدوى فى صمت المشهد الهوليودى الذى أشهده . تذكرت بحثى عن الهاتف الذى انضم له بحثى عن مفتاح السيارة لإسكات الإنذار. تحول المشهد لخوف عبثى فى ذلك الزئير المدوى فى الفضاء وجهلى بهذا الوباء الذى يبدو حقيقة لا حلماً.

واستسلمت لعدم إيجادى المفتاح فاتجهت للهاتف الملقى على الفراش. تناولته وأعدت له الحياة بضغطة طويلة على زر التشغيل. ثوان معدودة وانطلقت إشعارات العالم من حولى من أقصاه إلى أدناه فى موقفى هنا أمام الفرندا فى كفر الرواعشة وعزبة أبى الذى توالت رسائله من حيث هو فى إحدى جزر الكاريبى مع غانيته الأخيرة. زئير الفيرارى وإشعارات العالم فى صمت ارتداد أفواج البشر من حولى، أى لعنة أصابت العالم!

زملاء دراسة إكسفورد خاصة أبناء السياسيين منهم طمأنونى أن الوباء الذى حلّ على العالم لم يصب أيا منّا . هزأ أبى بما يحدث وغانيته، وتوقع أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون نجاحاً ساحقاً لسلاح طبى أمريكى لتصفية البشر والبقاء على من يستحق انتقاءه لحياة افضل.

وأصحاب سهرة الأمس الأربعة لا يزالون نياما طالما أن هواتفهم مغلقة. كان اجتماعنا الأخير هنا قبل أن يرتد كل منا لجامعته فى عواصم العالم الكبرى. المال والذرة والمعمار والسينما، تخصصاتهم التى برعوا فيها بأموال يصعب حصرها.

وأنا فقط من قررت أن أغرد خارج السرب فتوجهت لدراسة اللغات والتاريخ. رغم ذلك اعترف لى جميعهم بأنى أذكاهم وأنى على الغالب من سيقود القادم. بالطبع ولعله من مهامى الآن أن أكتشف إلى أين يرتد هؤلاء!

وهبطت درجات القصر وتتبعت المرتدين من مسافة أدرس منها موضع قدمى. لا مجال إلا أن أتقدمهم. أن أقف أمام الوجوه. أسير إلى الأمام فيرتدون إلى الخلف. لا، بل أشغل وقع فراغ خطواتهم إلى الوراء.

وحاولت التواصل مع أى منهم. لم يعيرنى أحدهم اهتماماً. تنفرج شفاههم عن ابتسامة عريضة بينما تصمت أعينهم عن أى حركة. الخو خانق والطريق لا ينتهى.

وقد جائتنى فكرة، أن ارتد كما يرتدون . لكن هل أعطى ظهرى لوجوه المرتدين، أم ارتد من حيث أنا أواجههم؟! فى أى اتجاه علىَّ أن أرتد لأختبر حالهم!؟ آثرت أن ارتد من حيث أنا ولا أعطيهم ظهرا قد يقسموه.

إحساس مثالى اعترانى فى حالة الارتداد. لم يعد يشغلنى مرآهم أو بحث حالهم. بمجرد أن بدأت فى عكس المسير، ترطّب الجو بنسيم عليل. انبثق النور الذى أعرفه. هدأ جيشان صدرى للمرة الأولى منذ صحوى على مرأى البابا والقيصر فى آن لكفر الرواعشة . تعثرت فجأة قدمى، فانفلت على ظهرى وارتطم رأسى بحجر.

هذا كل ما حدث. للمرة العاشرة أروى لكم.

هراء. لن يشفع لك مال أبيك ولا لغات العالم وتاريخه فى دحض التهمة.

أية تهمة؟!

تهمة التحريض على الارتداد الى الوراء.

اقرأ ايضاً | مصري يحول الأفلام الأبيض والأسود إلى ألوان | فيديو

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-2-25