عاجل

على خيون يكتب: ما الذي حدث في ميرامار؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

زهرة.. اسم لم يغادر ذاكرتى، وها أنذا اقترب منها، أو هذا ما يخيّل إلىَّ. ما دمت أسمع صخب البحر فى الإسكندرية، فأنا على يقين من لقائها، وسماع صوتها الذى أحب، نعم، سأراها وأسمع صوتها، سأكون معها مرة أخرى من بعد غياب مباغت. 


نجيب محفوظ هو من أخبرنى بنفسه أنها هنا، هنا فى الإسكندرية. وها هى ذى الإسكندرية  كما وصفها محفوظ  قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. وهذا هو البحر، وتلك هى عمارة ميرامار تطالعنى بوجهها الضخم، وذكرياتها التى لاتُنسى.


حمل العامل حقيبتى وسألنى:  بنسيون فؤاد؟ 
قلت:  ميرامار.
فضحك عن أسنان أتلفها التبغ الرخيص، وقال: هو هو يا أستاذ.


وأضاف بحماسة واهتمام:  كنت صبياً حينما جاءت هنا الممثلة شادية، وعماد حمدى، ويوسف شعبان، ومثلوا "ميرامار"، أحفظ التاريخ عن ظهر قلب، العام 1969، كنت صبياً وسيماً ومعافى، حتى ان المخرج كمال الشيخ بحث لى عن دور صغير فلم يجد، فجعلنى أهبط من المصعد قبل صعود شادية لكى أظهر فى الفيلم.


  لم أبتسم، لا أثر لزهرة، لاحظ العامل حزنى:  أنت حزين يا عم.
المرأة التى استقبلتنى ليست ماريانا، هذه مصرية جادة فى منتصف العمر، سألتنى مباشرة: على البحر؟
 هززت رأسى موافقاً، وسألتها والحزن يعصف بى: أين زهرة؟
  لم تفهم المرأة سؤالى، وسألتنى باهتمام:

 عاوز حاجة معينة؟
 فتح عامل الخدمة النافذة، فطالعنى البحر، عريضا واسعاً يهدر هناك عبر الشارع، خيّل إلىّ أنه نمر تم ترويضه جيداً لكى لا يدمر المدينة، لكنه يتحفز للانقضاض عليها متى ما أتيح له ذلك. 


 موظف؟
 ممثل ومخرج عراقى.

يصرخ فى ذهنى بودلير: «أيها الإنسان الحر، ستحب البحر باستمرار، البحر مرآتك، تتأمل نفسك فى تتابع موجه اللانهائى، فليست روحك لجة أقل مرارة من لججه". نفسى؟ يا لها من نفس مضطربة، البحر أهدأ منها فى هذا الصباح البارد».


ربما عرف البحر بعض تناقضات روحى، البارحة كنت فى أوج التألق وأنا أتسلم جائزة قيّمة عن فيلمى القصير «ما الذى حدث فى ميرامار؟»، كانت الممثلة المصرية الجميلة قوت القلوب إلى جانبى، صفقت بحرارة، لكنها سألتنى باستغراب.


 تحصل على جائزة مهرجان القاهرة السينمائى والحزن يطل من عينيك؟ ما بك يا حسني؟
 ضايقنى عامل الخدمة، أين زهرة؟ اتكأت على حافة النافذة، وسمعتها تقول لعامر وجدى بحضور ماريانا.
 هربت.


تسألها ماريانا وعامر وجدى ينصت باهتمام.

هربتِ يا زهرة؟
ترد زهرة بكبرياء


 يعنى أسيبهم يبيعوا ويشتروا بىّ؟ أنا مش بنى آدمة مثلهم ولى كلمة؟
ويهرب العراقيون إلى الخارج، عقب اندلاع الحرب وضياع المقاييس، لا يريدون لبشر طارئ أن يبيع ويشترى بهم، وها أنا أجد فرصتى فى دعوة كريمة من مهرجان القاهرة السينمائى، لكننى ما إن انتهى الحفل حتى قصدت الإسكندرية ابحث عن زهرة.  


 أستعيد لحظة معرفتى بزهرة بمتعة، وتكرار دائم، كان المحاضر يقرأ أسماءنا لتوثيق الغياب والحضور، سمعت اسمها أول مرة، كما لو كنت أسمع عنوان قدر يرسم بى:
 زهرة سالم!


حدث ذلك، فى اليوم الأول لدوامنا فى الأكاديمية، قسم التمثيل، جلبت زهرة سالم انتباهى، بل سرقت روحى، تأملت قوامها، شعرها، صوتها الخجول، وتفحصت هيئات زملائى خشية أن يخطفها أحدهم منى.

وتأكدت أننى أكثرهم وسامة، لكنها لم تأت فى اليوم الثانى، بدا اليوم فارغاً، وانتابنى القلق كأننى أعرفها منذ زمن، وانتظرت يوم الثلاثاء بفارغ الصبر، وحين رأيتها، أسرعت نحوها وسألتها بانفعال. 


 خير زهرة؟ لم أرك البارحة؟
ظلت تتأمل وجهى مستغربة صامتة، شجعتها على الكلام.
 أنا زميلك فى القسم حسنى منصور.


  قالت بسرعة:
 أشكرك، لا شىء
 شعرت أننى نجحت فى جلب انتباهها، كانت تتأكد من وجودى فى لفتات سريعة، وحين حانت الفرصة، لحقت بها وقلت لها:
 لنشرب شاياً فى الكافتيريا، الطقس بارد اليوم.
 ترددت فى البدء، لكنها مشت إلى جانبى، وحين جلسنا، فركت جبينها وتمتمت:
 أنا متعبة!
 تصاعد صياح من جانب البحر، يبدو أن البحر ابتلع صياداً أو عاملاً، لكن الوقت ليس وقت سياحة، ربما كان بحاراً. قررت أن أنزل، أقف مع الناس هناك، وحين قطعت الشارع وصرت على الرصيف، سمعت رجلاً يقول.
 لا حول ولاقوة إلا بالله خير؟
فقال: شابة حاولت الانتحار.
سألته ذاهلاً: زهرة؟
فهز يده بغموض ومضى. فكرت: لماذا يذهبون إلى البحر لحل مشكلاتهم؟ قالت زهرة:
 لا أفكر فى الانتحار لأنه حرام والعياذ بالله، لكننى أفكر بالسفر، أن أختفى فجأة.
 إلى هذا الحد؟
 وأكثر.
 كان وجهها شاحباً شحوب المرض، ولم تكن تريد البوح بأسرارها لأحد، وحين صرنا فى السنة الثانية، لم أصدق أنها جاءت، قلت لها وأنا ألهث:
 كُتب علىَّ العذاب، لاهاتف منك ولا خبر طوال الصيف.


  جلسنا فى الحديقة، قالت وهى تومئ إلى الفتيات الجميلات:  تركت فاتنات الكلية كلهن يا حسنى، وجئت إلىَّ أنا؟ إنك سيئ الحظ حقاً.


 دخلنا الكافيتريا، وفى لحظة ضعف أو عناء، روت لى قصة حزينة عن ارتباطها المبكر برجل غيور وقاسٍ ومتخلف كان يعاملها بجفاء، يقفل عليها الأبواب ويضربها ولم يسمح لها بدخول الجامعة، ولا التعبير عن موهبتها فى التمثيل.

ولم يكن أمامها من خيار سوى أن تلجأ لرجل متنفذ مسلح قصدته من أجل الخلاص من محنتها، فخاض معركة حتى خلصها من ذلك الغبى، لكنه اقترح عليها الزواج  مع أنه متزوج  بدعوى حمايتها، ولم تصدق أنه سمح لها بالدراسة، لكنها باتت شاهدة على فساد هائل فى المال والإدارة.

وكأنها تعيش فى كنف شيطان رجيم، رجل بلا ضمير يتاجر فى كل شىء، ويقتل سواه بدم بارد، مما دفعها لأن تقول له بصراحة:  أنت مسرف كذاب، ملعون فى الدنيا والآخرة. 
غص فى الضحك، وقال لها: إن لم تكن ذئباً بالت عليك الثعالب.


وقرص أذنها بقسوة، وأطفأ سيجارته فى ذراعها لتكف عن شتمه، مسحت دمعة وقالت: لا أحد بمقدوره أن يحطم قيوداً جلبتها لنفسى، أنا فى محنة حقيقية يا حسنى، تخلصت من قيد فوقعت فى قيد أشد.


قال لها:أنا من ينقذك.. فقالت مشفقة عليه:  أرجوك.
صمتا للحظات ثم سألته:  سمعت أنك تهوى الإخراج،فقال: نعم، أعمل الآن على إعادة جزء من رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ، يخص مصير زهرة.
قالت شاردة الذهن: زهرة؟ فقال:  إنها حائرة مثلك تبحث عن طريق صحيح لتطوير نفسها لكنها خُذلَت فى القرية وخُذلَت فى المدينة على يد سرحان البحيرى، ثم تركت البنسيون وهامت على وجهها.


قالت:  لكنها فى الفيلم ذهبت إلى بائع الجرائد محمود أبو العباس.
فأجاب:  ليس هذا هو خيار زهرة، هذا خيار كاتب السيناريو، ومن هنا جاءت محاولتى لتصويب الوضع، لم أفهم.
 يعنى سأتابع زهرة حتى تقف على قدميها وترتفع فوق جرحها.


 قالت بسرعة كأنها فطنت إلى أمر مهم:  إنه مكان أمين، قد أسافر إلى الإسكندرية وأختبئ فى ميرامار، لن يعرفنى هناك أحد.


وكان ذلك آخر عهدى بزهرة، فلم أرها من بعد ذلك، تخرجنا وبقى مكانها شاغراً، وها أنا أبحث عنها فى «ميرامار» فلعلها جاءت إلى هنا كما أخبرتنى من قبل.
 قالت صاحبة البنسيون: أستاذ، هل سألتنى من قبل عن زهرة؟
 نعم. 
 جاءت اليوم.
فصحت غير مصدق نفسى:
 زهرة سالم؟
 فقالت:
 لا نعطى أسماء نزلاء البنسيون لأحد.
 جلست على الأريكة، أفكر بماذا أفعل، بينما رن الهاتف النقال فى جيبى، وجاءنى صوت قوت القلوب من القاهرة تقول لى:
هل أنهيت مهمتك؟ نحن بانتظارك.
قلت لها:
وصلت زهرة، لن تصدقى إنها هنا فى البنسيون، إننى أنتظر نزولها من غرفتها.
ضحكت وقالت:
 سلامة عقلك.
وأضافت:
اسمع، توجه إلى القاهرة فوراً، وخلصنا من أوهام زهرة، لنحتفل بنجاحك.
كان المكان يغرق فى ظلام مع أن الوقت ضحى، ثم نبهتنى صاحبة البنسيون إلى أقدام امرأة تهبط السلم، وهمست:
 إنها زهرة.
ضرب قلبى أضلاعى بقوة، لكن الشابة التى توسطت المدخل وتقدمت حتى الكاونتر، أطول من زهرة، وقفت تسلم مفتاح الغرفة، فقالت لها المرأة:
البيه ينتظرك.
تطلعت إلىَّ باهتمام واستغراب، فنهضت وقلت معتذراً:
آسف، كنت أبحث عن امرأة أخرى اسمها زهرة.
تأملت بشرتها البيضاء، وعينيها اللتين تنمان عن نظرات قوية واثقة، قالت:
هل من خدمة أقدمها لك؟
قلت:
جئت أساعد زهرة فى محنتها، أنا مواطن عراقى من بغداد.
مدت كفها بجرأة وثقة وصافحتنى وقالت:
المهندسة زهرة عبد الموجود، أنا حاضرة لأية مساعدة.
قلت لها:
حسنى منصور، ممثل ومخرج.
وواصلت:
زهرة التى أعرفها تركت الدراسة، وضاعت تحت ضغوط صعبة.
قالت وهى تقدم كارتها الشخصى وعليه تليفونها:
كنت ضائعة أيضاً، وكان أهلى يريدون أن يربطوا مصيرى بعجوز فى القرية، فهربت إلى المدينة، فحاول أحد الكلاب المسعورة نهش لحمى بلؤم وخسة، لكننى لم أستسلم، خضت معركتى بنفسى، واصلت دراستى فى ظرف صعب، وأثبت لنفسى ولغيرى أننى «قدها وقدود». 
قلت لها وصدرى يزخر بالأمل والفخر معاً:
تشرفت بك.
فقالت:
تعلمت من عملى، أن أجمل وأروع هندسة فى العالم، أن تبنى جسراً من الأمل على نهر من اليأس.
وأضافت وهى تهم بالمغادرة:
اتصل بى يا ضيفنا الكريم، وسنبحث معاً عن زهرة.
كان هاتفى يرن طوال الوقت، قوت القلوب تستعجلنى. قدرت أننى سأصل إلى القاهرة مرهقاً، لكننى لن أذهب قبل أن أنجز مهمتى، فقد عثرت على زهرة، وإن لم يصدقنى أحد فإن هاتفها معى.
فى تلك اللحظة، دخلت فتاة ريفية تتلفت مترددة فى الدخول، قالت لها السيدة:
تفضلى.
فردت بقلق:
يزيد فضلك. 
من مكانى تأملت وجهاً أسمر لفلاحة مطوقة الرأس والوجه بطرحة سوداء، أصيلة الملامح، مؤثرة جداً، قالت لها المدام:
من أنت؟ 
أنا زهرة، هربت من أهلى، جئت لأعمل هنا، ولأطور نفسى، هربتُ من ظلم لحق بى.
هربتِ؟
فردت بقوة وكبرياء:
 لم يكن لدىَّ خيار آخر، وضعونى فى محنة قاسية، إما أن أصير زوجة زائفة لعجوز بخيل وعاجز وإما أن أهرب إلى سعة الدنيا.
كان عليك أن تصبرى يا زهرة!
قلت بأسى مشاركاً فى الحديث:
وضعت نفسك فى طريق خطر يا زهرة، لن يتركوك حرة، سيتحدثون عن التمرد والعار.
فردت بلهجة ريفية صلبة:
يعنى أسيبهم يبيعوا ويشتروا بىَّ؟ أنا مش بنى آدمة مثلهم ولى كلمة؟
أنت شابة جميلة ووحيدة فى مدينة صاخبة.
سأكون رجلاً عند الضرورة.
 كتبت رسالة قصيرة إلى قوت القلوب: «سأبقى مع زهرة، لن أتركها وحيدة، وليحرسنا الرحمن معاً».
فكتبت:
بلغت مرحلة الذروة فى مرضك النفسى يا حسنى، وقد أحطت إدارة المهرجان بحالتك المؤسفة، وهيأنا لك طبيباً نفسياً ماهراً.
صحت بها غاضباً:
لست مريضاً، ولست مجنوناً، ولن أغادر المكان وأترك زهرة وحيدة حائرة.

اقرأ ايضاً | مخيون: الحياة أجبرتني على أن أكون عملياً.. وتأثرت بكتابات الحكيم ومحفوظ

نقلا عن مجلة الأدب: 

2023-2-25