د. أدهم مسعود القاق يكتب: إبحار فى روح الإسكندرية

د. أدهم مسعود القاق
د. أدهم مسعود القاق

وجدت فى الإسكندرية أوساطًا ثقافية شبيهة بما هو كائن فى دمشق، لم يتغيّر شيئ عليّ، كثرة ممن التقيت بهم ثقافويين يعدون أنفسهم بمرتبة عارفين أجوبة لكلّ الأسئلة الوجودية.

نهض شعب سوريا العظيم مطالبًا بالحرية والكرامة، بعدما انطبعت سلمية أحداث ثورة 25 يناير 2011 فى ميادين مصر فى عقول السوريين وضمائرهم وأرواحهم، واشتدت عزيمة شباب سوريا حين وقف الجيش المصرى إلى جانب شباب مصر المنتفض فى ميدان التحرير والميادين الأخرى، مراهنًا على وقوف الجيش السوريّ وقفة جيش مصر الوطنيّ، ولكنّ الذى جرى فى سوريا انحياز الجيش لصالح نظام الحكم.

وهكذا انكفأ شباب ثورة الربيع العربى فى سوريا بعد بضعة شهور، وحلّ محلّ كفاحهم السلمى صراع عسكرى طائفى، اشتركت فيه ميليشيات تكفيرية وطائفية وإثنية خارجية وداخلية، مما أدّى لتعرّض الشعب السورى للقتل والتغييب والتهجير.. بعد أن هدمت بيوت الناس والمشافى والمدارس فوق رؤوس أصحابها.

إنّ أكثر من 65% من الشعب السوريّ هجّر قسريًّا تهجيرًا داخليًّا أو خارجيًّا، وقد أثبت المهجّرون فى أصقاع الأرض وأنحائها أنّ السوريين جديرون بالحياة، فقد أسسوا فى أثناء عقد من الزمن أعمالًا لهم، وتكيّفوا مع البيئات الاجتماعية الجديدة المتنوعة.

وقدّموا الكثير لأبنائهم وللمضيفين من نتاجهم المتنوّع، على الرغم من وعورة دروب الوصول إلى الساحات الاجتماعية المغايرة للنشأة والتربية وصعوبات اجتيازها.


 ولعلّ إنتاجهم الإبداعى فى المسرح والسينما والموسيقى والفنون المتنوعة والكتابة السردية الكثيف خير دليل على ما ذكر آنفًا؛ إذ خلال عقد الثورة – مثلًا - صدر نحو 800 رواية، معظمها ارتكزت على التخييل الذاتي، حيث صوّر الكتّاب تجاربهم التى خاضوها وسط صراعات عبثية بين ميليشيات متقاتلة، جلّها أجنبية أو تنفّذ سياسة قوى خارجية.

وقد منح بعض الكتّاب السوريين أعمالهم الإبداعيّة أبعادًا إنسانية، مجسدين صورة المثقف المهجّر أو المنفى والمهمّش - وفق وصف إدوارد سعيد للمثقف الفاعل- ولكنّ الحر من ضغوط السلطة، أية سلطة، مقدّمين أنفسهم هواة معرفة وحرية ومحبة مفعمة بالإنسانية خارج فروض الجنسيّة أو الهوية الثقافية التى تُفرض على الإنسان منذ الولادة.

وكنت من السوريين الذين هجّروا إلى لبنان فى أواخر شهر شباط، فبراير، 2012م، وكنت معتدًا ببطولات الشباب السوريّ، فأنقل ما شهدته فى ساحات المدن والقرى وفى المعتقلات، أنقل وقائع السلمية التى اتسمت بها المظاهرات فى دمشق وريفها.

وقد ساعدنى على ذلك طبيعة عملى مديرًا لمعهد تعليميّ فيه طلّاب أسهموا فى فاعليات التظاهر، من دون تعصّب لدين أو أيديولوجيا ومن خارج الأحزاب السياسية، تعلّمت من أولئك الفتية والشباب كيف أكون لا منتميًّا فى زمن أضحت الانتماءات الأقلوية والولاءات الأولية وِزرًا وعبئًا على المجتمع وعلى أصحابها الموتورين.

وفى بيروت شرعت فى كتابة ما شهدت عليه وعشته، تزامنًا مع لقاءات مع قيادات لبنانية مجتمعية؛ لمساعدة مئات آلاف السوريين الذين وصلوا إلى لبنان مشيًا على الأقدام،

وقد داومت على الكتابة طوال فترة وجودى فى لبنان ورحلاتى إلى جنيف بداية؛ إذ ألقيت كلمة فى جلسة المراجعة الدورية للجمهورية العربية السورية فى مجلس حقوق الإنسان بجنيف ممثلًا عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية فى 15/3/2012م، وإلى تركيا وباريس وروما والأردن... لحضور فاعليات سياسية كانت فاشلة... حتّى وصلت إلى مصر لحضور مؤتمر المعارضة السوريّة فى القاهرة 2/7/2012م.

وشاهدت بأم عينى أبناء شطمة المجنونة وأمثال نبيه منزوعيا الطبيب الشاعر الدعي، وهى شخصيات وظّفتها فى ثلاثية كتاب مرقوم، كان أشباهها يتحركون فى فندق فخم نسيت اسمه... التقيت مع من أُرسلت إليهم من قبل حِراك الداخل فى بهو الفندق من السوريين وسلمتهم رسالة.

إضافة إلى لقاءات حضرتها مع مسئولى الملف السوري: الفرنسى والبريطانى والأمريكى والسويدي... قبيل انعقاد المؤتمر وفيه، وبعد ساعات من بدء المؤتمر غادرته مرتحلًا إلى الإسكندرية، أقمت فيها؛ مبتعدًا عن الوسط السياسيّ السوريّ كله، واستأنفت دروب العلم والثقافة والفكر التى كنت قد تربيت عليها منذ نشأتى بين صفوف المثقفين من أساتذتنا فى ريف دمشق.

والذين كانوا يدعون لقيم الحرية والكرامة لهم ولأبناء مجتعمهم، ولم يتنازلوا أو يقبلوا الحلول الوسط، بل كانوا ثلّة من المثقفين مدركين دورهم فى تحطيم قوالب العيوب النسقية، ومؤمنين بضرورة العمل من أجل بناء مجتمع حديث وحر، كنّا وإياهم نقرأ ونكتب ونجتمع شهريًّا بعيدًا عن أعين الرقباء، محاولين أن نخلق حالة وعى جديدة فى بيئة اجتماعية تتسم بالتخلف والقهر والفساد.

ولكن حوربنا وانزوينا وهمّشنا، ولعلّ تلك الأحداث الرهيبة التى عاشتها سوريا فى نصف قرن بقيت عالقة فى أعماق ذاكرتى بصفتى شاهدًا على فظائعها، إذن، لم أبقَ فى مؤتمر المعارضة السورية البائس، بل غادرته من دون وداع أحدٍ من الحاضرين، وتوجّهت إلى الإسكندرية، انجذبت إلى بحرها ومكتبتها الفخمة وجامعتها التى سجّلت فيها لمتابعة الدراسات العليا فى اللغة العربية، خالطت ناسها الطيبين وأحببتهم، هم يشبهون أهلنا بعاداتهم وثقافتهم ودماثتهم.

أُعجبت بعماراتها التى تضاهى عمارات روما وجنيف وباريس من حيث الجمال، وسرت إلى أسواقها التى تشبه أسواق دمشق وحاراتها القديمة، صرت أستنشق روائح توابلها وعطورها كأنّى أعيش فى دمشق.

وكم كنت أندهش حين أقف على شاطئ البحر المتوسط؛ إذ أستشعر استحواذ المدينة على البحر! مدينة الإسكندرية التى نبت لها ذراعان طويلان، تضم بهما البحر وتخبّئه داخل دائرتها تاركة إطلالة لمنحه بركاتها، كنت أقف وبجانبى امرأة سكندرية استحوذت على عقلى وقلبي، واستحالت وطنًا لي، منحتنى السلام والأمان والبركة، وملأت روحى بمعانى الحب والخير والحرية. 

ومنذ إقامتى فى فندق يونيون بالإسكندرية، شرعت فى إعادة صياغة ما كتبته من قبلُ، مستغرقًا أكثر من ثمانى سنوات، حتّى باتت الكتابة متن حياتي، كتبت نفسى.. نبشت ذاكرتى، واستعدت الآلام التى عانينا منها، من عسف السلطة، وخيانة الأهل والطائفة وأصدقاء السوء وعهر الأحزاب السياسية، وعشت آمالًا مع حب غُرس فى روحي، وتوقًا للحرية مع بطولات شهدت عليها منذ سبعينيات القرن العشرين، فكتبت روايات أربع، انطلقت فيها من تخييل سيريّ امتد منذ نكسة 1967 وحتى قيام الثورة التى خصّصتها برواية (ولادة تحت الغمام) وأكملتها برواية عن تجربتى فى الإسكندرية (شفيف العمر).

وعلى هامش كتابة سلسلة الروايات التى أسميتها (كتاب مرقوم، كتاب الأشرار وكتاب الأبرار)، حصلت على شهادة دكتوراه فى النقد الثقافى من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، وأصدرتها كتابًا تحت عنوان: العيوب النسقية فى الفكر السلفيّ، مرتكزًا على قراءة وتحليل ثقافيّ لمخطوط «شرح ميثاق ولى الزمان».

كما أنجزت رسالة دكتوراه أخرى بجامعة الإسكندرية فى الدراسات النقدية الحديثة فى قسم اللغة العربية، ولم يسعفنى الحظ استلام الشهادة الورقية، لعدم قدرتى على تسديد الرسوم المالية؛ التى ارتفعت قيمتها كثيرًا بعد 2014م، فأصدرتها كتابًا آخر تحت عنوان: المسرح السورى المعاصر (1990 – 2015)، وكنت قد أصدرت كتابًا تحت عنوان: نكوص الحداثة العربية إثر نكسة يونيه، حزيران، 1967م، وآخر: لا يزال الحاكم بأمر الله حيًّا، تناولت فيه قراءة ثقافية لمسرحيات عربية وظّفت شخصية الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله.

ونوقشت أعمالى فى محافل ثقافية فى الإسكندرية والقاهرة...، وكتب عنها نقاد مصريون وعرب مهمون، إضافة إلى صدور كتاب عن اتحاد كتاب مصر، تضمن أربع دراسات نقدية عن ثلاثية كتاب مرقوم، عنوانه: قراءات فى إبداعات السرد العربى.

وفى أثناء أكثر من ثمانى سنوات، ونتيجة علاقاتى مع أصدقاء أوفياء حملوا الأرواح السمحة فى نفوسهم، فى مختبر سرديات مكتبة الإسكندرية ولأتيليه الإسكندرية وقسم اللغة العربية وقصور الثقافة والهيئة المصرية العامة للكتاب، التى نشرت لى كتاب (شبكة التيمات فى الرواية العربية وتحولاتها) 2022 وغيرها من مؤسسات.

وشاركت بأبحاث فى مؤتمرات وندوات وورشات عمل ودورات عديدة، ونشرت مقالاتٍ وقصصًا فى مجلات ومواقع إلكترونية كثيرة، وفزت بجائزتين فى كتابة المقال من مكتبة الإسكندرية، وتحصّلت على شهادة ودرع جامعة حلوان عام 2020.. ومنذ خمس سنوات أدير مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر إلى جانب د. هانم العيسوي. 

وهذه التجربة والتى عشتها مهجّرًا منحتنى طاقة إضافية لما كنت قد تسلحت به فى السنة الأولى من أحداث ثورة الربيع العربى فى سوريا؛ إذ وجدت فى الإسكندرية أوساطًا ثقافية شبيهة بما هو كائن فى دمشق، لم يتغيّر شيئ عليّ، كثرة ممن التقيت بهم ثقافويين يعدون أنفسهم بمرتبة عارفين أجوبة لكلّ الأسئلة الوجودية، وهؤلاء لا يعنيهم سوى مصالحهم النفعيّة، ولعل معظمهم مصابون بالعمى الثقافى والعدمية.

وآخرون التقيت بهم يشكّلون فئة مثقفة منفتحة على الثقافات الأخرى، وتتفاعل مع أوسع جمهور ممكن، وتهتم بمشكلات الوطن، فئة تعدّ الثقافة مرتبطة بأسئلة يسعون الوصول إلى إجابات لها، كما لاحظت كثرة النساء المهتمات بالشأن الثقافيّ، ولعلّ جيل الألفية من السكندريات أكثر معرفة وثقافة من الموجات الجيلية السابقة، كما ينطبق -ما ذكرته آنفًا- على الفئة المثقفة من الجنسين. 


إنّ المسافة التى كبرت بينى وبين المجتمع الذى تربيت فيه بـ (عجره وبجره) كما يقال، المسافة التى انسقت إليها مرغمًا بعد التهجير وازدادت عمقًا وطولًا، منحتنى القدرة على الخروج من قواقع الفكر الدوغمائية واليقينية، وساعدنى فى ذلك علاقاتى مع مثقفين مصريين حقيقيين، وجدتهم فى الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية وبور سعيد والمنوفية والبحيرة وغيرها... من المدن، كانوا أساتذة لي، تعلّمت منهم التحرّر من أوهام التسلّط، وشاركتهم فى السعى نحو ترسيخ السياسات الوسطية والمعتدلة وفق ما يتوافق عليه أهل العلم والثقافة.

اقرأ ايضاً | رئيس «المصرية للكتاب»: المعرض جسر حضارة يمتد من مصر للعالم

نقلا عن مجلة الادب :  2023-2-18