أمنية

الطبيعة غاضبة

محمد سعد
محمد سعد

رائحة الموت تزكم الأنوف، والغبار كثيف تكاد أن تنعدم الرؤية بسببه، والأذن ترفض ألا تسمع سوى الأوجاع فلا صوت يعلو فوق صوت الصراخ والعويل والنحيب، وها هى لحظة تأفل فيها شمس الحياة وينطفئ الوهج وينادى المؤذن بالرحيل، فلا راد لقضاء الله وقدره، وتجد ذلك يبحث عن مفقوديه، وهذا ينعى ضحاياه، وآخر يتحصر على ذكراه الذى أصبح تحت الأنقاض، والجميع يبحث عن أحياء تحت الركام حتى لو كانت المحاولة يائسة أو بائسة، فلقد نفذت إرادة الله عز وجل الذى علمنا «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ»، لكن تبقى الذكرى لا ترحل بالرحيل وكيف ترحل وهى باقية عالقة بالأذهان.


قبل بزوغ فجر الاثنين 6 فبراير بدقائق، الناس نيام فى ثبات عميق هربا من لفحات برد قارس وعناء يوم سابق، وإذا بهم على موعد مع فاجعة إنسانية بكل المعاني، يضرب زلزال مدمر أجزاء من تركيا وسوريا -التى ما تزال تعانى جراح التفسخ والصراع- لتسقط آلاف المبانى فوق رؤوس الأشهاد لا تفرق بين شيخ مسن وطفل صغير ولا بين سيدة فى كنف زوجها أو أرملة ترعى صغارها، وفى بضع دقائق معدودة يسقط بل يرتفع إلى عنان السماء المئات من الأرواح، وتظل الآلاف المؤلفة تحت الانقاض تبحث عن معين، وتستقبل المستشفيات أعدادا لا حصر لها من المصابين.
مشاهد كثيرة لكن جميعها مؤلم ومخيف تصيبك بمشاعر متباينة عميقة، عندما تشاهد طفلا لم يكمل عقده الأول وجسده معلق وسط الحطام يقف بجواره والده يلقنه الشهادة قبل أن تصعد روحه إلى بارئها، وتسمع لصراخ رضيع خرج من رحم أمه للتو وهو تحت الأنقاض وظل مرتبطا بحبلها السرى وكأنه لا يريد أن يغادرها، وبمجرد أن ينفصل عنها تغادر هى الدنيا لتتركه يواجه مصيره المحتوم، وصغيرة فى ريعان طفولتها تحتضن شقيقها تطلب المساعدة وتستحلف الخلق بكل ما هو ثمين وغال أن ينقذوها وأخاها من وسط الدمار حتى لو عاشت خادمة لهم ما بقيت من عمرها!.


ناهيك عن آلاف الأطفال الذين أصبحوا مشردين لا عائل لهم ولا أهل، ومئات الأسر التى فقدت السند أو ألام ، وربما عائلات بأكملها اختفت من الوجود، ومدن أصابها الخراب والتشريد، حقا المشاهد فى منتهى القسوة وتدمى القلوب عندما تبصر سكانا ينامون ليلهم الطويل داخل السيارات خوفا من أن تهاجمهم هزة أرضية جديدة أو أن تفتح المساجد والكنائس والأندية أبوابها لاستضافة أسر كانت بالأمس القريب لها محل إقامة ثابت ومعلوم، وأن تستغيث دول تطلب يد العون لتداوى جراح شعوبها.


رحم الله موتى الطبيعة الغاضبة فقد سلموا أرواحهم إلى رب السماء وهم على فراش النوم دون ذنب وتركوا خلفهم ذكرى سوف تظل أبد الدهر كجرح غائر فى القلوب، أسأل الله أن يسكنهم الفردوس الأعلى ويربط على قلوب ذويهم ويلهمهم الصبر.