كنوز| أول أجر في حياتي

أم كلـثــــوم
أم كلـثــــوم

أم كلـثــــوم

بدأت أغنى وعمرى ثمانى سنوات، كان ذلك عند مأذون قريتنا وغنيت يومها «أقول لذات حسن ودعتنى بنار الوجد طول الدهر آه!» ولم أتقاض مليماً فقد كان شرف لنا أن نغنى عند المأذون!

وسمعنى أهل القرية المدعوون وقالوا إن صوتى جميل، وفى اليوم التالى دعيت إلى فرح خفير نظامى فى عزبة «الجوال» بقرب قريتنا، وغنيت هناك إلى الصباح، وفى تلك الليلة تقاضيت أول أجر فى حياتى وكان عشرة قروش، ولم يكن هذا نصيبى وحدى، وإنما كان أجرة الفرقة المكونة من والدى وأخى خالد وأنا!

بدأت القرية تسمع باسمى وبعد خمسة أيام أقام الحاج يوسف تاجر الغلال بالسنبلاوين ليلة دعانا لإحيائها، وغنيت «حسبى الله من جميع الأعادى وعليه توكلى واعتمادى» وبقيت أغنى من الساعة التاسعة مساء إلى الساعة الثانية صباحاً بغير انقطاع، وكم كان سرورنا عندما دس صاحب الفرح يده فى جيبه وأعطانا خمسة وعشرين قرشاً! واعتبرنا أنفسنا بهذا المبلغ أغنياء!

وبعد ذلك فكر حسن افندى حلمى التاجر بمحطة أبو الشقوق فى إقامة «ليلة» يكون الدخول فيها بخمسة قروش فى الدرجة الممتازة وثلاثة قروش فى الدرجة الأولى وثلاثة قروش فى الدرجة الثانية ومجانا فى الدرجة الثالثة، أى يقف المتفرج من وراء «الخيمة»، ونجحت الليلة نجاحاً لم يخطر لنا على بال، حضرها متفرجون من البلاد المجاورة، وكان بينهم أهالى من المنصورة فأقبلوا يهنئوننى!

ولم أعرف أنى نجحت إلا عندما أعطانا صاحب الليلة جنيها ونصف جنيه! ونظرت إلى الجنيه فى دهشة، فقد كان أول جنيه أراه فى حياتى!!

ودعانا عبد المطلب افندى الموظف بدائرة المرحوم الشناوى باشا فى الأسبوع التالى لإقامة فرح أخيه فى كفر برماص بندر المنصورة بأجر قدره جنيه ونصف فى الليلة بما فى ذلك مصاريف الانتقال، فبدأت أشعر أنى انتقلت من مطربة «محلية»..

إلى مطربة «عالمية» لأنى دعيت بعد ذلك للغناء فى مركز آجا، وانتقلت من مديرية الدقهلية إلى مديرية الشرقية فغنيت فى كفر صقر!

وفى سنة 1915 كنت أركب حمارا ويسير أبى وأخى على أقدامهما، وفى سنة 1916 زاد إيرادنا فكنا نركب نحن الثلاثة حميرا، ومن الطريف أن أهل الفرح كانوا يحضرون لنا الحمير لنذهب إلى الفرح وبعد انتهاء الفرح يتركوننا نعود إلى بيتنا مشيا على الأقدام، وحتى سنة 1919 كنت أركب الدرجة الثالثة فى قطار السكة الحديد، وارتفع أجرى بارتفاع القطن فوصل إلى ثمانية جنيهات ثم قفز إلى عشرة جنيهات، وكنا نجلس فى الدرجة الثانية بتذاكر الدرجة الثالثة، وكنت أغنى للكمسارى طول الطريق ولا أتوقف عن الغناء إلا فى المحطات!!

وأول بيت رجل كبير دخلته منزل «حمزة» بالمحلة الكبرى وكان الداعى نعمان الأعصر باشا عمدة المحلة وقد أرسل يدعونا بالتلغراف، وكان هذا أول تلغراف تلقيته فى حياتى، ولم نقاوله طبعا، واكتفينا بأن نرسل له خطابا بالقبول، غنيت وأعطانى ثلاثة جنيهات فقط، ولم أقل شيئا فقد أعطانى المبلغ فى كوفية حرير، ولم يكن هذا المبلغ قليلا ففى تلك الليلة رآنى الشيخ أبو العلا محمد لأول مرة، ومنذ تلك الليلة أصبح أستاذى وتغير مجرى حياتى، فسافرنا معه إلى مصر وتتلمذت عليه.

وكان أول شيء فكر فيه والدى بعد أن تحسنت حالتنا المادية هو طعامى، فقد سمع أن البيض يحسن الصوت وكان يجعلنى آكل خمس بيضات كل يوم، واتضح أن البيض الكثير يتلف المرارة، والأطباء الآن يمنعوننى من أكل البيض، ومن أعظم أمانى حياتى أن آكل بيضة واحدة!

«آخر ساعة» إبريل 1948

إقرأ أيضاً|ام كلثوم .. أول من بادرت بالتبرع لمعونة الشتاء