عاجل

جومبا لاهيرى تكتب: على الرصيف

جومبا لاهيرى
جومبا لاهيرى

فى الصباح بعد الإفطار أمر كل يوم بشاهد قبرى رخامى صغيريستند إلى السور العالى الملاصق للطريق. لم أعرف قط الرجل الذى مات. لكن على مر السنين توصلت إلى معرفة اسمه وكنيته، وأعلم الشهر واليوم الذى ولد فيهما والشهر واليوم الذى فارق فيه الحياة. مات قبل يومين من عيد ميلاده، فى فبراير.


لابد أنه تعرض لحادثة على دراجته الهوائية أو النارية. أو لعله كان يسير شارد الذهن تحت جنح الظلام. ربما صدمته سيارة عابرة. كان فى الرابعة والأربعين حينما حدث ذلك. أظن أنه مات فى هذه البقعة بالذات، على الرصيف، بجوار السور الذى نبتت منه نباتات مهملة

ولهذا وضعوا اللوحة الرخامية بالأسفل، عند أقدام المارة. والطريق أعلى التل كثير المنحنيات والتعرجات؛ ما يجعله على درجة من الخطورة. والسير على الرصيف مرهقاً، بل من المستحيل المرور فى بعض الأجزاء؛ إذ تعج بجذور مكشوفة لإحدى الأشجار. ولهذا حبذت المشى على الطريق.


واعتدت أن أرى شمعة موقدة فى وعاء زجاجى أحمر، بجوار باقة صغيرة من الزهور وتمثال قديس. ما من صورة للرجل. فوق الشمعة، ثمة ملحوظة من أمه، مثبتة فى السور ومكتوبة بخط اليد، ومغلفة بغطاء بلاستيكى شفاف، تشكر من يتوقف ونهنيهة ويتفكرون فى موت ابنها: أود أن أشكر شخصياً من كرسوا دقائق قليلة من وقتهم لتذكرولدى، وإن لم يكن ذلك ممكناً، أشكركم من صميم قلبى فى كل الأحوال.


ولم أر الأم أو أى شخص آخر أمام شاهد القبر قط. استأنفت المسير وأنا أفكر فى الأم والابن على حد سواء، وحيويتى تتضاءل قليلاً.

 

فى الشارع

ومن حين لآخر التقى مصادفة، فى شوارع الحى الذى أقطن فيه، برجل كان يمكن أن أقع فى غرامه، وربما أشاركه حياته. يطفر من وجهه البِشر حين يرانى. يعيش مع صديقتى، ولديهما طفلان. لم تتجاوز علاقتنا حد ثرثرة طويلة على الرصيف، أو قهوة نحتسيها سريعاً معاً

أو ربما نزهة قصيرة فى الاتجاه نفسه الذى نقصده. يتحدث بحماس عن مشروعاته، ويومئ فى كلامه، وأحياناً ونحن نسير يشتبك، بحذر وفى آن واحد، جسدانا المتقاربان.


وذات مرة رافقنى إلى متجر للملابس الداخلية النسائية. كنت بحاجة إلى شراء جورب ضيق ألبسه، فى مساء ذلك اليوم، تحت تنورة اشتريتها منذ فترة قريبة. لامست أصابعنا الأقمشة المبسوطة على طاولة البيع ونحن نفرز الألوان المتعددة.

وكان مجلد العينات يشبه كتاب مكتظ بصفحات شفافة ورقيقة. كان هادئاً تماماً بين حمالات الصدر وثياب النوم، كأنه فى متجر خردوات وليس محاطاً بالملابس الداخلية. وكنت حائرة بين الأخضر والأرجواني. وأقنعنى باختيار الأرجواني. وضعت البائعة الجورب فى الحقيبة وقالت: «زوجك يتمتع بذوق رفيع».


وهذه المقابلات اللطيفة بددت أحاديثنا الممطوطة اليومية. بيننا رابطة يملؤها الاحترام، لكنها عابرة، لا يُسمح لها أن تتخطى ذلك الحد، أو أن تصبح الشغل الشاغل. إنه رجل صالح، يحب صديقتى وأطفالهما.


وأما أنا فقانعة بعناق قوى حتى إن كنت لا أشارك أحداً حياتي. قبلتان على الوجنتين، وتمشية قصيرة على الطريق الممتد. ومن دون أن ينبس أحدنا بكلمة نعرف أن بمقدورنا الشروع فى مغامرة طائشة، لكنها ستكون فى الوقت ذاته بلا طائل.


وفي هذا الصباح كان مشتت الذهن. ولم يلحظنى إلا حينما صرت أمامه مباشرة. كان يعبر الجسر من ناحية، ووصلت تواً من الناحية الأخرى. توقفنا عند المنتصف ونظرنا إلى السور الذى يطوق النهر، وإلى ظلال المارة على سطحه. كانت تبدو كأشباح نزقة تتقدم تباعاً، أرواح مذعنة تعبر من مملكة إلى أخرى.

وكان الجسر عريضاً، غير أن هيئة العابرين، التى أتخذت أشكالاً ضبابية على السور الراسخ، تبدو كأنما تمشى إلى الأعلى، فى حالة مستمرة من الصعود، كأنهم سجناء يتقدمون فى صمت وسكون نحو نهاية مخيفة.


وقال: «كم سيكون رائعاً لو صُور هذا الموكب فى أحد الأيام. هذا مشهد لا تراه العين كل يوم، إذ يعتمد على موقع الشمس. لكنه يثير دهشتى فى كل مرة، به شيء ساحر وجذاب. حتى وأنا فى عجلة من أمرى، أتوقف وأشاهده».


«وأنا أيضاً».
اخرج هاتفه المحمول وقال: «هل نجرب؟».
سألته: «كيف تبدو؟».
ليست صورة جيدة. هذا الجهاز لا يستطيع التقاطهم.
لبثنا نتأمل المشهد الصامت، والأجساد المعتمة تمضى بلا توقف.
إلى أين ستذهب؟.
العمل.
وأنا كذلك.
أيمكننا تناول القهوة؟.
وقتى لا يسمح اليوم.
حسن، إلى لقاء قريب.
ودعنا بعضنا وافترقنا. ثم استحلنا ظلين متراميين على السور، فى مشهد عادى لا يمكن التقاطه.

فى المكتب

ومن الصعب جمع شتات أفكارى هنا. أشعر بأنى مكشوفة، وكل هؤلاء الزملاء والطلبة يحيطون بى ويمشون فى الأروقة. حركاتهم وثرثرتهم تثير أعصابي.


وأحاول سدى إضفاء بعض الحيوية على المساحة. وكل أسبوع أجلب معى من البيت حقيبة تسوق مثقلة بالكتب، كى أملأ الرفوف. الألم فى كتفى، ذلك الثقل، كل هذا المجهود لا يؤتى ثمره فى نهاية المطاف؛ فخزانة الكتب ستحتاج إلى عامين أو ثلاثة كى تكون عامرة.

وكانت شاسعة، وتحتل جداراً بأكمله. على كل حال، مكتبى الآن يفتقر إلى الجاذبية، لم يكن فيه غير صورة مؤطرة، ونبتة، ووسادتين. ومع ذلك تثير المساحة حيرتى وارتباكى ونفوري.


وأفتح الباب، وأضع حقيبتى، وأستعد لليوم. أرد على البريد الالكترونى، وانتقى كتاباً أود أن يقرأه طلابي. أنا هنا من أجل كسب الرزق، لكنى لا أحب هذا العمل. أطل من النافذة وأرقب السماء. أصغى إلى الموسيقى. أقرأ بحوث الطلاب وأصححها

وأتذكر الكتب التى أغرمت بها ذات يوم. من حين لآخر تطرق الباب روح شجاعة تسألنى النصح حول أحد الأمور، أو ربما تطلب معروفاً. الطالب الجالس أمامى يفيض ثقة وطموحاً. 


وحيث أنى كثيرة الانشغال، لا تستقر أفكارى هنا. يميل زملائى إلى التحفظ والانعزال، وأنا كذلك. ربما وجدونى حادة الطبع، أو أفتقر إلى المزاج المرح، لا أعرف. نحن مضطرون إلى المكوث فى أحياء قريبة، كى يسهل الوصول إلينا مثلما قيل لنا، ومع ذلك أشعر بأنى على الهامش.


وأخمن أن الزميل الذى أستخدم هذا المكتب قبلى كان ينام هنا من حين لآخر. وأتعجب كيف؟ وأين؟ على الأرض، على بطانية من الصوف؟ كان شاعراً. أخبرتنى أرملته ذات يوم أنه أحب هدأة الصمت فى هذا المبنى. 

وحين يكون خالياً من البشر. قالت إن القصيدة لو خطرت له هنا، لا يغادر إلا وقد أنهاها. كان يشعر براحة أقل فى البيت، فى المكتب الأنيق الذى جهزته زوجته. أحب الكتابة هنا، ولم يكترث للألوان المملة للجدران، ولا للسجادة الباهتة.

وكانت الكآبة بالنسبة له منبعاً للإلهام. كان عجوزاً حالماً، رأسه حافل بكلمات لا تجد طريقها إلا فى هذا المكان. توفى منذ عامين. ورُغم أنه لم يمت فى هذه الغرفة، ترك فيها شيئاً من ذاته. ربما لهذا السبب علقت بها مسحة من الكآبة.

فى المطعم

أتناول الغداء فى أغلب الأحيان فى تراتوريا بالقرب من بيتي. وهو مطعم صغير وإن لم أصل إليه عند الظهيرة، لن أجد مقعداً شاغراً، وسأضطر إلى الانتظار إلى ما بعد الساعة الثانية. أتناول طعامى وحدى، بجوار آخرين يأكلون وحدهم. أناس لا أعرفهم، رُغم أنى مراراً أصادف وجهاً مألوفاً.


والأب يطهو، وابنته تقدم الطعام. أظن أن الأم ماتت حينما كانت الابنة فى سن صغيرة. بين الأب والابنة رابطة تسمو على رابطة القربى العادية، وشيجة عضدها الحزن. ليسا من أهل المنطقة. برغم أنهما يعملان طيلة اليوم فى شارع مفعم بالصخب والجلبة، أتيا من جزيرة.

يخزنان وهج الشمس فى عظامهما، تلال جرداء تتناثر فيها الخراف، والريح الشمالية الباردة ترج البحر. أتصورهما معاً على قارب يرسو أمام كهف بعيد. أرى الابنة تقفز من مقدمة القارب، والأب يحمل بين يديه سمكة مازالت تتنفس.


الفتاة ليست نادلة فى الواقع. كانت تقف وراء طاولة البيع بشكل دائم.


ماذا نحضر لك؟.
قائمة الطعام مكتوبة بخط يد مقتضب وغريب على لوح أسود. اختار طبقاً مختلفاً كل يوم من الأسبوع. تدون الطلب ثم تخبر أباها بالمطلوب إعداده. والدها موجود دائماً فى المطبخ.


حينما أجلس تجلب لى الابنة زجاجة مياه ومناديل ورقية، ثم تتخذ مكانها مجدداً خلف طاولة البيع. انتظر ظهور الصينية ثم أقف لآخذها.


واليوم، بين السياح والموظفين الذين يترددون على هذه المنطقة، هناك أب شاب مع ابنته. الفتاة تناهز العاشرة، شعرها مصفف فى ضفيرتين شقراوين، وكتفاها عريضتان، ونظرتها شاردة. فى العادة أراهما فى أيام السبت. لكننا فى عطلة عيد الفصح، والمدارس مغلقة هذا الأسبوع.


والآن بت أعرف الموقف. الابنة ترفض المبيت فى منزل أبيها، وتريد المكوث الليلة مع أمها. اعتدت رؤيتهم حينما كانوا عائلة مكونة من ثلاثة أفراد، فى هذا المطعم بالذات. أتذكر حينما كانت الأم حبلى بالابنة، وكيف كانت فرحة الزوجين.

أتذكر كيف كان يناجى أحدهما الآخر، وكيف كان الجالسون من حولهما يغدقون عليهما الأمنيات الطيبة. كانا يأتيان لتناول الغداء هنا حتى بعد إنجاب الطفلة. كانا يظهران، وقد بلغ بهما الإرهاق والجوع مبلغه، بعد الذهاب إلى الملعب، أو التسوق للطعام فى الساحة العامة. شعرت بعلاقة تربطنى بالفتاة الصغيرة؛ كانت طفلة وحيدة مثلي. لكن الفارق بينى وبينها أن أبى لم يحب قط ارتياد المطاعم.


وفى العام الماضى انتقلت الأم من الحى، تاركة الأب وراءها. وأثارت الابنة إحباطه، إن لم يكن حفيظته؛ إذ ظلت وفية لأمها، ورفضت المكوث فى منزله، فى البيت الذى ترعرعت فيه، وفى الغرفة التى دوماً تنتظر قدومها.


والابنة متلهية بهاتفها المحمول بينما الأب يحاول التحدث إليها وإقناعها. أشفقت عليه وأنا أصغى إلى توسلاته. وشعرت بالأسف على تفسخ العلاقة بينهما، وعلى الزواج المحتضر. يبدو أن الأم هجرته لأنه كان يخونها، متورطاً فى علاقة غرامية مشبوبة انتهت بالفعل.


سألها: «كيف كانت أيامك فى المدرسة فى الأسبوع الأخير».
هزت الطفلة كتفيها وقالت: «هل بوسعك أن تقلنى إلى منزل صديقتى الليلة؟».
«ظننت أننا سنذهب إلى السينما».
«ليست لدى رغبة فى ذلك. أريد الذهاب إلى منزل صديقتي».
«وماذا ستفعلين هناك؟».
«سأستمتع بوقتي».
«ثم؟».
«سأذهب إلى منزل أمى».
رضخ الأب إلى الأمر الواقع. وتوقف عن محاولاته لإقناعها فى هذا الأسبوع. وصار ينظر إلى هاتفه المحمولأيضاً. وتناولت البنت جزءاً من طعامها، وأكمل هو ما تبقى من أجلها.

فى الربيع

فى فصل الربيع أكابد الآلام. يستنزفنى هذا الفصل ويخمد بداخلى الحياة. الضوء الجديد يربكنى، والطبيعة المتفجرة تسحقنى، والهواء الممتلئ باللقاح يرهق عيني. وكى أخفف الحساسية التى تصيبنى أتناول قرص دواء فى الصباح يجعلنى أشعر بالنعاس.

وينهك قواى، ويفقدنى تركيزي. وبحلول الظهيرة يحل بى التعب والإرهاق فأنام. أتعرق طيلة النهار، وفى الليل انتفض من البرودة. ليس بوسعى التأقلم مع هذا الوقت المتقلب من العام.
كل نازلة فى حياتى تحدث فى الربيع.

ولكل منها وخز أبدي. ولهذا تسقمنى خضرة الأشجار، وبواكير ثمار الدراق فى السوق، والتنانير الفضفاضة الخفيفة التى تلبسها نساء الحي. هذه الأشياء لا تذكرنى إلا بالخسارة والخيانة وخيبة الأمل. أمقت الاستيقاظ والشعور بأنى مدفوعة دفعاً إلى الأمام.

لكن اليوم هو السبت، ولست مضطرة إلى مغادرة المنزل. بوسعى الاستيقاظ وليس عليّ النهوض من الفراش. ولا شيء أحب إليّ من ذلك.

فى الساحة

وتعيش ابنة صديقيّ بمفردها، مثلى، فى هذه المدينة. لكنها لم تجاوز السادسة عشر من العمر، وصلت منذ ثلاث سنوات بصحبة والدها، وزوجته، وأخ غير شقيق يصغرها كثيراً. الأب رسام وحاصل على زمالة مهمة من أكاديمية تقع أعلى التل. التقيته فى أحد معارضه. اعتاد المجيء مع زوجته إلى منزلى لتعلم الايطالية.

لم ترافقهما الابنة قط. التحقت بمدرسة ثانوية مجاورة، وبعد عامين قررت عدم العودة إلى بلادها، والانفصال مبكراً عن أسرتها، والمكوث هنا. لديها غرفة فى شقة تطل على المدرسة الثانوية، مسكن خاص لإقامة الطلبة المغتربين.


واتصل بها حينما يكون هناك معرض أود زيارته، أو وقتما تبدأ التخفيضات فى نهاية الشتاء وبداية الصيف. وعدت صديقيّ أنى سأحرسها دائماً، برغم أنها لا تحتاج إلى ذلك.


وأراقبها وهى تتجول بدراجتها فى الساحة. كان من الممكن أن تكون ابنتى، فأنا أكبرها بثلاثين عاماً. لكنها كانت فتاة ذات جمال جذاب. تبتسم فى حديثها، كأنما تقول للعالم: «انظروا كم أنا سعيدة». لم أكن أشبهها حينما كنت فى مثل سنها، كنت طفلة قلقة وبلا أحباء. إننى أحسدها. مازلت أجتر الندم على شبابى المهدور، وغياب التمرد.


وكانت قد عادت تواً بعد قضاء أسبوع مع أسرتها. تشعر بالارتياح لأنها وضعت مسافة بينها وبينهم مجدداً. تخبرنى أن قضاء سبعة أيام فى المشاحنات أمر صعب، وأن أباها وزوجته دائمى الشجار وأنه يجدر بهما الانفصال.


«ألا يحبان بعضهما؟».
«أشك فى هذا. أبى لا يريد سوى أن يرسم وهى لا تفعل شيئاً، تخدمه بتفانٍ وهذا يزعجه ويفقده صوابه».
«وأمك؟ هل رأيتها؟».
«تزوجت مجدداً من رجل لا أحبه».
ارتشفت من كأس عصير الرمان. بدا كأنه كأس من الدماء، لكنى لم أخبرها بذلك. قالت إنها جائعة وطلبت كرواسون كورنيتو. شطرته إلى نصفين، ثم قسمت إحدى القطع. أخذت قضمة صغيرة، ثم رتبت بقية القطع على منديلها.


يلتفت الناس ينظرون إليها ونحن نجلس فى الساحة لكنها لا تلقى لهم بالاً. تتحدث اللغة كأهلها، على النقيض من أبويها اللذين يجتهدان فى تعلمها. لا تبدو كسائحة أو أجنبية، إنها من الطراز الذى ينسجم مع أى مكان.


الأب والأم يعتريهما القلق، يأملان أن تعدل عن قرارها وتختار الذهاب إلى الجامعة القريبة من بلادهما. لم أخبرهما، حينما نتحدث على الهاتف، أنهما قد خسراها بالفعل.


مترعة بالأحلام والطموح، تظن أنه مازال ممكناً تغيير العالم. بها من الشجاعة والعزم ما يكفى للوقوف فى وجه السلطة وبناء حياة لها هنا. إننى متيمة بتلك الفتاة، جرأتها تلهمني. فى الوقت نفسه أفكر فى حالى، حينما كنت مثلها، ويداهمنى الاكتئاب.

وبينما تتحدث عن الصبيان الذين يريدون مواعدتها، قصص مسلية ترتفع لها ضحكاتنا، لا أفلح فى محو شعورى بالحماقة. استشعر الحزن وأنا أضحك، لم أعرف الحب حين كنت فى مثل سنها.
ماذا فعلت؟ قرأت كتباً ودرست.

وأصغيت إلى والديّ وفعلت ما طلباه منى، رُغم أنى لم أجلب لهما السعادة فى النهاية. لم أحب ذاتى، وأحياناً تحدثنى نفسى أن الوحدة ستكون خاتمة المطاف.


«تحدثت مع والدك البارحة، أخبرنى أن المطر يهطل بغزارة فى مدينتك».
«لم تعد مدينتى».
«لماذا لا تحبين المكان هناك؟».
«لأنى لا أطيق زوجة أبي. ليس لديها حياة، ولا رؤية خاصة. كانت والدتى على شاكلتها، لهذا هجرها أبي. لم تعد تجديطريقة العيش هذه. أود أن أغدو امرأة قوية ومستقلة، مثلك».


ربما قلت لها الشيءنفسه، غير أنى لم أعقب. راقبتها وهى ترتب قطع الكورنيتو التى لم تأكلها داخل منديل ورقى، وجعلت منها حزمة صغيرة ثم وضعتها داخل كأس العصير. وطلبت أنا الفاتورة.

فى غرفة الانتظار

وبعدما صرت فى الخامسة والأربعين، بعد مرحلة طويلة محظوظة قلما ذهبت فيها إلى الأطباء، أصبحت معتادة على العلل. سلسلة من آلام غامضة وأوجاع غريبة تداهمنى فجأة ثم تختفي؛ ضغط متواصل خلف عينى، ووخز حاد فى مرفقى.

وخَدَر يدوم لبرهة فى جزء من وجهي. ذات مرة تناثرت نقاط حمراء دائرية على بطنى وسببت لى حكة شديدة متواصلة، فاضطررت إلى الذهاب إلى غرفة الطوارئ. وكل ما تطلبه الأمر لتخفيفها فى النهاية كان مرهماً.


وفى الأيام الماضية استشعرت شعوراً غريباً تحت الجلد فى حلقى، كأنه خفقان غير منتظم. لا أشعر به إلا عندما أجلس فى المنزل، أقرأ على الأريكة؛ أى حينما أكون فى أقصى حالات استرخائى، وأحسب أنى مطمئنة وهادئة البال.

ويدوم هذا الشعور لثوانٍ قليلة، ثم يتلاشى. فى الصباح أخبرت النادل، وهو شخص أوليه ثقتى المطلقة رُغم أنى أجهل السبب، فقال: «لو كنت مكانك لذهبت إلى الطبيب. هناك وريد فى هذه البقعة يربط بين الدماغ والقلب. ثقى بي».


وأضاف السيد الواقف بجوارى عند المشرب، وهو أستاذ تاريخ متقاعد يشرب كأس جعة فى بداية كل يوم: «زوجتى المسكينة، رحمها الله، اشتكت من شيء مماثل».


وهكذا ذهبت إلى الطبيب، وبعدما فحصنى، وقاس نبضى بآلة تبدو قديمة الشكل، أحالنى إلى طبيب أمراض قلب، «على الأرجح ليس هناك شيء خطير يا سيدتي. لكن بما أنكِ لستِ فى سن الشباب، من الأفضل التحقق من الأمر».


وها أنا ذا فى هذه العيادة، الغرفة معتمة قليلاً، والأنوار مطفأة. والحرارة لا تُطاق رُغم أنى بشكل عام أميل إلى السخونة. فشرعت أخلع السترة والوشاح على الفور. لم يكن هناك إلا مريضة أخرى تنتظر، امرأة أخرى محتجزة معى فى هذه الغرفة.

وكانت تكبرنى بعشرين عاماً على ما يبدو. راقبتنى بدقة، بلا دفء فى عينيها. نظرتها المحدقة متبلدة. لم أفلح فى خلع وشاحى، إذ تشابك مع العقد. يا للسخف! طفقت المرأة تنظر لى كأن ثمة شاشة بيننا، كأننى شخص على التلفاز. خلعت مشبك العقد، وشعرت بالارتباك، وجلست. سألتها: «كيف هو هذا الطبيب؟ هل هو بارع؟».


«لا أعرف».
طفقت أنتظر لمدة خمس عشرة دقيقة. وانتظرت المرأة الأخرى. لم يستدعنا أحد. لم تكن تقرأ، ولم تكن تفعل أى شىء. كفت عن النظر لى ورؤيتى عبر شاشة تلفاز.


نسيت أن أضع كتاباً فى حقيبة يدى للأسف. وليس بالعيادة أى مجلات. لا يوجد غير كتيبات قليلة عن الصحة والاعتناء بالقلب.


ما داء هذه المرأة؟ هل هى خائفة؟ ترددت فى سؤالها، وكسر الحواجز بيننا. فى النهاية، ما من أحد سوانا. لكنى كنت أكثر تعقلاً.


وبرغم أنى لا أشعر بخفقان فى هذه اللحظة، فإننى على يقين أنه، عاجلاً أو آجلاً، سيظهر ذلك الاختلاج الغامض المزعج مجدداً، تحت جلدى، هناك حيث أحد الأوردة يربط بين قلبى ودماغي.
لا أحد بجانب هذه المرأة، لا راع، ولا صديق، ولا زوج. وأراهن أنها تعرف أنه بعد عشرين عاماً، حينما سأكون فى غرفة انتظار كهذه لسبب ما، لن أجد أنا أيضاً شخصاً بجانبى .

 

فى متجر الكتب

بشكل لا مفر منه التقيت حبيبى السابق مصادفة، الشخص الوحيد المهم الذى أحببته لخمس سنوات. حينما رأيته وألقيت عليه التحية لم أصدق أنى همت به حباً ذات يوم. مازال يعيش بمفرده فى الحى ذاته الذى أقطن به. كان ضئيل الحجم لكنه وسيم، يرتدى نظارة ذات إطار رفيع، ويداه رقيقتان تضفيان عليه هالة فكرية. لكنه لم ينجح فى تحقيق شيء، مازال مسلكه صبيانياً، يشكو ويتذمر، رُغم أن جسده يبدو كجسد رجل فى منتصف العمر.


واليوم هو فى متجر الكتب. يتوقف عنده أحياناً، يتخيل نفسه كاتباً. لطالما كان يدون شيئاً فى مفكرته، ولم أعرف ما هو. لا أظن أنه نجح فى نشر أى شيء.


سألنى مشيراً إلى كتاب فاز بإحدى الجوائز: «هل قرأت هذا؟».


«لا أعرفه».
«عليكِ بقراءته». ثم نظر لى وأردف: «تبدين فى أحسن حال».


«حقاً؟».
«أنا فى حالة مزرية. لم أذق طعم النوم الليلة الماضية».


«لم؟».
«الصبيان فى الحانة تحت شقتى يحدثان ضجة، إنها مشكلة دائمة. أريد العثور على مكان جديد».


«أين؟».
«بعيداً عن هذه المدينة البائسة. كنت أفكر فى شراء منزل صغير بجوار البحر، أو ربما عند الجبال، بعيداً عن الأشياء والبشر».


«هل أنت جاد؟».
لن يفعلها قط. لم يكن من ذلك الطراز، كان جباناً وخائفاً. حينما كنا نعيش معاً، كنت أصغى له، وأحاول حل مشكلاته، الصغيرة والكبيرة، فى كل مرة يؤلمه ظهره، وفى كل أزمة وجودية. لكن الآن بوسعى النظر إليه دون التأثر ولو لثانية واحدة بمخاوفه المرهقة وشكاواه المتواصلة.


ولم يكن بارعاً فى تخطيط الأمور أو تذكرها. كان مشتت الذهن، على النقيض مني. لم يكن يتحقق ليرى الموجود بالثلاجة، كان يشترى الشيء نفسه مرتين، فنضطر إلى إلقاء الطعام الذى فسد. كان دائم التأخر، بسبب مشكلة ما تبرز فجأة، كنا نهرع إلى السينما ونصل فى منتصف العرض. فى البداية أثار ذلك حنقيثم أعتدت عليه. كنت أعشقه وسامحته.


حينما نستمتع بالعطلات لابد من أن ينسى شيئاً ضرورياً؛ أحذية للمشى، كريم حماية للبشرة، أو مفكرة لتدوين الأشياء. كان ينسى أن يضع فى الحقيبة السترة الثقيلة أو القميص الخفيف. وكان عرضة للإصابة بالحمى. رأيت عدة مدن صغيرة وحدى بينما كان يستعيد عافيته فى غرفة الفندق، وينام شاحب الوجه على الفراش.

ويتصبب عرقاً تحت الأغطية. كنت أعد له الحساء حالما نعود إلى المنزل، وأجهز له زجاجة مليئة بالمياه الساخنة، وأهرع إلى الصيدلية. لم أمانع القيام بدور الممرضة. مات والداه حينما كان صغيراً. قال لى أنتِ كل ما أملك فى هذا العالم.


وكنت سعيدة أن أطهو مكانه. كنت أقضى الصباح بأكمله فى التسوق، وأجوب المدينة من أجل إعداد الوجبات له. أتذكر جولاتى السخيفة من حى إلى آخر بحثاً عن نوع معين من الجبن، أو باذنجان طازج. وأعود، وأعد الطاولة، وكان يتخذ مكانه قائلاً: «ماذا سأفعل من دون الحساء والدجاج المشوى الذى تعدينه؟». كنت موقنةمن أنى محور عالمه، وأنه عاجلاً أو آجلاً سيطلب منى الزواج.


وثم فى أحد أيام شهر إبريل دق جرس الشقة. ظننته هو. لكنى أبصرت امرأة أخرى تعرف حبيبى تماماً كما أعرفه، كانت تراه فى الأيام التى لا أراه فيها. لقد شاركت الرجل ذاته مع هذه المرأة لخمس سنوات تقريباً.

وكانت تعيش فى حى آخر، وعرفتنى بفضل كتاب كنت قد أقرضته له، وأقرضه لها بغباء. أمر لا يُصدق. كانت هناك قصاصة ورقيةداخل الكتاب، إيصال من زيارة طبيب مدون عليه اسمى وعنواني. فى تلك اللحظة فهمت هى كل الأمور الصغيرة التى أثارت حيرتها فى علاقتهما. أدركت أنها إحدى عشيقاته، وأننا كنا فى علاقة ثلاثية غير مقصودة.


وسألتها حالما عثرت على صوتي: «هل أخبرته أنكِ وجدت هذا الإيصال وأنكِ قادمة لزيارتي؟». كانت امرأة قصيرة ذات غرة، لها عينان ودودتان، وبشرتها لامعة. كانت تتحدث بصوت هاديء يبعث على الطمأنينة.


«لم أخبره شيئاً. لا جدوى من ذلك. أردت أن التقى بكِ».
«هل ترغبين فى كوب من القهوة؟».


جلسنا وشرعنا نثرثر. استرجعنا تفاصيل العلاقة، وراجعناها نقطة تلو النقطة: العطلات واللحظات الأخرى التى لا تُنسى، والانزلاق الغضروفى، ونوبات الأنفلونزا. انهمكنا فى محادثة طويلة مؤلمة. تبادل شديد الدقة للمعلومات والمواعيد المتفاوتة التى كشفت اللغز.

وبددت كابوساً كنت أحيا فيه دون علم. أدركنا أننا ناجيتان، وفى النهاية شعرنا أننا شريكتان فى جريمة. كان لكل بوح وقع مدو. كل ما قالته. ورُغم أن حياتى انقلبت رأساً على عقب، شعرت كأنى أتنفس من جديد. كانت الشمس تجنح إلى المغيب وقرصنا الجوع، وحينما لم يتبق شيئاً لنقوله خرجنا لنتناول وجبة.

فى رأسى

امتهنت الوحدة. إنها حالة تتطلب نظاماً معيناً، لذا أحاول إتقانها ببراعة. ورغم درايتى بها، فإنها تجتاح كيانى وتثقل كاهلى وتجثم على روحي. ربما كان ذلك بسبب تأثير والدتي. كانت تخشى الوحدة دائماً، والآن وقد طعنت فى السن صارت حياتها تعذبها كثيراً.

وحتى أنى حينما أتصل بها لأطمئن على أحوالها، تخبرنى أن الوحدة تعصف بها. تقول إنها تفتقد التجارب المسلية المدهشة، برغم كثرة الأصدقاء الذين يحبونها، وحياتها الاجتماعية المعقدة الأكثر حيوية من حياتي. فى زيارتى الأخيرة لها، مثلاً، ظل جرس الهاتف يدق. ومع ذلك كانت دائمة التوتر والعصبية، لا أعرف السبب. ربما أثقلها مرور الزمن وأرهقها. 


حينما كنت صغيرة، وأبى لا يزال على قيد الحياة، كانت تحرص على ألا أبرح جانبها، تمقت أن نبتعد، ولو لفترة وجيزة. كانت تحرسنى وتحمينى من الوحدة كأنها كابوس أو حشرة مؤذية. توطدت بيننا رابطة غير صحية إلى أن غادرت لأشق طريقى بمفردي. هل كنت أنا الدرع الذى حال بينها وبين رعبها، هل كنت أنا من ردعها عن التردى فى الهاوية؟ هل كان الخوف من خوفها هو الذى دفعنى إلى حياة كهذه؟


ولسنوات كانت كل واحدة منا تعيش بمفردها، وأعلم أنها فى قرارة نفسها تتمنى أن تعيد بناء هذه الرابطة غير الصحية، وتطفئ عزلتنا المتبادلة. كانت ترى أن ذلك سيحل مشكلتينا. ولكن لأننى لا استسلم.

وأرفض العيش فى المدينة نفسها، كنت أطيل من معاناتها. لو قلت لأمى إنى راضية بوحدتى وممتنة لأنى بفضلها مالكة زمام أمورى، برغم الصمت، والأضواء التى لا أطفأها حينما أغادر المنزل، والمذياع الذى أتركه يعمل، سوف تنظر لى فى غير اقتناع.

وستقول إن الوحدة كانت نقصاً ولا شيء آخر. لا جدوى من مناقشتها؛ فهى لم تر المتع الصغيرة التى تمنحها لى وحدتي. برغم حرصها على التشبث بى على مر الأعوام، لا يثير رأيى اهتمامها. وقد علمتنى هذه الفجوة بيننا أهمية الوحدة.

اقرأ أيضاً | عصام أبو شندى يكتب : عَركتُ النّاسَ