فى عُرس الكتاب.. أكتب متفائلاً بحذر!

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

جذر سحرى، إذ تترجم الكتابة  دون - شك تلك - النقطة الفاصلة بين ما قبل التاريخ، وما بعده، ويكفى كلمة كتاب شرفاً وفخراً أن أطلقها الخالق العظيم على رسالاته..

«كاف.. تاء.. باء» ثلاثة حروف تُكوّن الجذر اللغوى «كتب»، ومنه تُشتق عشرات الكلمات.

كتب، كُتب، كتاب، كُتاب، كاتب، مكتبة، مكتب،...،...،...

كلمة ليست ككل الكلمات، أراها من الكلمات المفتاحية، بل الافتتاحية فى لغتنا الجميلة، فأمة إقرأ، ماذا عساها تقرأ إلا ما هو مكتوب؟!

جذر سحرى، إذ تترجم الكتابة، دون شك. تلك النقطة الفاصلة بين ما قبل التاريخ، وما بعده.

ويكفى كلمة كتاب شرفاً وفخراً، أن أطلقها الخالق العظيم على رسالاته: التوراة، الإنجيل، والكتاب الخاتم: القرآن.

تداعيات تزاحمت، وغيرها كثير، مع اقتراب العُرس السنوى للكتاب، أقصد معرضه الذى تجاوز عمره النصف قرن، وانطلق رداً حاسماً على نكسة يونيو٦٧، وكان إحدى إشارات عودة الوعى، وإيماناً بدوره فى استرداد ما فقدناه.

لكن العُرس فى نسخته الـ ٥٤ يهل محفوفاً بالعديد من الأزمات التى ضربت، ومازالت، أرجاء المعمورة، ولم تستثن دولة، أو ترحم نشاطاً أو قطاعاً من آثارها!

الكتاب، ومعارضه شرقاً وغرباً، عانى، وعانت من كورونا، ثم الحرب فى أوكرانيا، وتهديد سلاسل الإمدادات، ومستلزمات الكتاب تأثرت، ثم أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة هنا وهناك، وضعت صناعة الكتاب، وطباعته، وبيعه، وتسويقه فى مفترق طرق.

إلا أن ما يطمئن أن العديد من المعارض الدولية والإقليمية، صمدت، وأصر منظموها على ألا يقطعوا عادة، وأن يكفوا عن الانعقاد الافتراضى، ويعودوا سيرتهم الأولى، أن تُقام، وتستقبل جماهيرها، وتطلق فعالياتها، ويحسب لمعرض القاهرة؛ أن واجه كل العواصف صامداً، دون إقفال أو تأجيل.

من ثم؛ كان تفاؤلى، واستبشارى، ربما كان ذلك الشعور عائداً إلى طبيعة شخصية تتبنى دائماً توقع الأفضل، على ما عداه، لكن ربما كان الحذر فى خلفية المشهد.

كيف تعود لتسود؟

بعيداً عن مشاعر ترجح التفاؤل على التشاؤم دائماً، فإن ثمة قضايا، تفرض نفسها بمناسبة هذا العرس، وتساؤلات تُلح، وأسئلة تنتظر إجابات.

هنا لا أسعى لسرد منولوج، بقدر ما أتطلع إلى أن يكون ما أطرحه من اجتهادات، مستفزاً لكل شركاء الحقل الثقافى، للانخراط فى حوار يكون الفائز الأول فيه: الكتاب، ومستقبله.

الكتاب يطلب قارئاً، فهل جمهور القراءة فى ازدهار أم انكماش؟ إلى أى مدى تأثر الكتاب الورقى، بمنافسة الكتاب الإلكترونى، وإلى متى؟

هل شكلت الشاشات - فى مجملها- بيئة معادية للقراءة الكلاسيكية من خلال الكتاب المطبوع بواسطة الحبر؟

كيف تحفز مسابقات القراءة جيلاً يعد ابناً مباشراً للإنترنت، على اعتماد قراءة الكتاب الورقى عادة تتواصل بعد المشاركة فى المسابقة، سواء فاز المتسابق أو لم يوفق؟

أليس تشجيع جيل الأبناء والأحفاد على «حب القراءة» يمثل حائط صد إزاء تدهور «صحة العربية»، لصالح لغة أجنبية أو أخرى، أو اعتماد «لغة هجينة» فى التعامل اليومى، حتى أن العامية تهمش لصالح تلك الأخيرة؟!

ألا يعد هجر الكتاب المدرسى - بحد ذاته - ضرباً لعلاقة الناشئة بالكتاب عموماً، مقابل الحفاوة بمذكرات ينتهى دورها مع امتحان المادة، أو «البرايڤت» عبر «الأون لاين»، وبالتالى تضيع الحميمية التى كان يشكلها كتاب المدرسة، كجسر لعلاقة تتجاوزه إلى الكتاب الثقافى، تدوم وتستمر؟

ما هى الحوافز التى يمكن التفكير فيها، وتفعيلها، حتى تعود القراءة لتسود، ضمن هوايات لا تشكل إلا شخصية هشة سطحية بين شبابنا وأطفالنا؟

وكيف نستطيع أن نخطط لإعادة تشكيل الواقع الذى يعانى تدهوراً ثقافياً شديداً، فى ظل غياب عادة القراءة؟

من هنا نبدأ

ظنى أن السؤال -أحياناً- يفوق فى أهميته الإجابة، إذ أن غيابه أو تغيبه يعنى أن القضية غائمة، وأن الواقع لا يتطلب طرح سؤال شغل العقل، من ثم فإن الحاجة للسؤال تمثل - بالمنطق البسيط - أولوية لا مراء فيها.

من أين نبدأ؟

أقصد كيف نضمن أن يعود الكتاب لعرشه؟ بكلمات أخرى: ما هى الخطوة الضرورية؟ ومن يبادر نحوها؟

زمااان.. قبل نحو ثلاثة أرباع القرن، استوزر د. طه حسين وزيراً للمعارف، أى التعليم، وأظنها أدق وأبلغ، وفى اعتقادى أن إلغاء المصاريف يفوقه فى الأهمية، قرار آخر للدكتور طه الذى طبق ما نادى به فى كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر» حيث دعا لأن تمثل القراءة الحرة ثلث المنهج على الأقل، لكنه حين سنحت الفرصة، اغتنمها، ولم يكتف بالحلم.

بالفعل تم توزيع كتب مجانية للقراءة فحسب على التلاميذ حينذاك، لتأصيل عادة القراءة فى تكوينهم الثقافى، بل والإنسانى، وبخروج د.طه من الوزارة، تلاشت الفكرة!

وحين أصبحت تلميذاً فى منتصف ستينيات القرن الماضى، أتذكر جيداً؛ مكتبة الفصل التى لازمتنى منذ إلتحاقى بالمدرسة الابتدائية ثم الإعدادية، وأمين المكتبة الذى كان شعلة نشاط فى المرحلة الثانوية، ولا يدخر جهداً لجذبنا لزيارة المكتبة قراءة واطلاعاً واستعارة، بل كان يحفز الأكثر قراءة بهدايا رمزية على نفقته الخاصة، فهل نجد لهذا النموذج نظيراً اليوم؟

وعلى ذكر «الأكثر قراءة»- لا الأكثر مبيعاً بلغة هذه الأيام - لا أنسى حين كنا فى السنوات المبكرة من عمرنا الواعى، نتبارى فى كم كتاباً قرأنا؟ وكم كتاباً استعرنا؟ وكم كتاباً اشترينا؟ وكم كتاباً تبادلنا؟ وكم كتاباً ناقشنا؟

هل يعيد الزمان الآتى مثل هذه الدورات للكتاب؟

رهان صعب، لكنه لا يعد مستحيلاً إذا اهتدينا لإجابة سؤال: من أين تبدأ رحلة استعادة الكتاب لعرشه كما كان؟

الثقافة بخير.. ولكن!

منذ حرص أبى رحمه الله على أن يصطحبنى إلى المعرض فى نسخته الأولى عام١٩٦٩، احرص- على مدى كل هذه الأعوام- على ارتياد المعرض، كأننى بصدد طقس مقدس، خلال أكثر من نصف قرن كنت أثمن المناسبة عيداً للثقافة.

وعاماً وراء آخر؛ كنت أتخوف على مستقبل الثقافة، وبالتحديد الكتاب، لكن يأتى المعرض ليبدد تلك المخاوف، وعلى غير موعد ألتقى بمن باعد بيننا السعى والكدح وهموم الرزق والحياة؛ وكنت أردد فرحاً: الحمد لله، الثقافة بخير، مادام ثمة إقبال على العيد السنوى للكتاب.

ولا أنسى يوم انتقل مقر المعرض إلى موقعه الجديد بالتجمع الخامس، يومها كنت أدير قطاع الثقافة بأخبار اليوم، ولا أخفى أننى وضعت يدى على قلبى، من احتمال ضعف الإقبال لبُعد المسافة، و«كسر العادة»، إلا أن النتيجة تجاوزت توقعات الأكثر تفاؤلاً، وكنت فى صفوفهم كقارئ بأكثر منى مسئولاً.
وقلت لنفسى:

كان المعرض دائماً يصادف طقساً شتوياً قاسياً ببرده الشديد، ومطره الغزير، لكن أبداً لم يمنع هجوم الشتاء الآلاف المؤلفة من الحضور، فهل تعوق المسافة مهما نأت، أى حريص على الاستزادة من مناهل الثقافة والمعرفة من المشاركة فى مناسبة، يترقبها من العام للعام؟

توقفت عن اجترار الذكريات، الممتزجة بأمنيات وأمانى، ربما بفعل الارتفاع الهائل المتوقع فى أسعار الكتب، فى ظل قفزات جنونية فى أسعار الورق، المادة الخام الأهم فى صناعة النشر، بما يفوق قدرة أى ناشر على تحملها، وبالتالى فهى تضاعف من سعر الغلاف، فهل يقدر المثقف الذى كان يقتطع من قوته ليشترى كتاباً، أن يُصر على اقتناء الكتاب بعد زيادة غير محتملة فى سعره هذا العام؟

بالطبع ليس كل المعروض جديداً، ثم إن «الغاوى ينقط بطاقيته»، كما يقول المثل الشعبى، وهنا تبرز براعة تطبيق فقه الأولويات إزاء ميزانية متواضعة، وتطلع مرتفع السقف، وبالطبع أسعار قفزت عالياً وبعيداً!

إنه التفاؤل الحذر!

ما بعد العيد

بنهاية الأسبوع الأول من فبراير المقبل، نودع هذه النسخة من معرض القاهرة للكتاب، وكالمعتاد سوف تذاع معدلات الزيارة، ويباهى بعض الناشرين بما حققوه، وثمة مفاجآت سارة للبعض، وأخرى تدعو للأسى، ويرضى من يرضى عن فعاليات الدورة، ويسخط البعض بزعم أنها كانت أقل من المتوقع.. إنها أمور من طبائع الأشياء، وثمة سؤال يبقى معلقاً:

وماذا بعد؟

الكتاب يعانى أزمة مركبة، أعنى الكتاب الورقى، سواء منافسة الشاشات، أو زيادة أسعار مدخلات إنتاجه، لاسيما الورق، وتدنى الوعى القرائى، و... و... وهموم وشجون أظنها تتطلب دعوة وزيرة الثقافة إلى مؤتمر يناقش الجوانب المتعددة لصناعة الكتاب.

بعيدا عن مظاهر الحفاوة التى تحيط بالكتاب فى عيده، وأيام عُرسه، ثمة أزمة يصعب إنكارها: مشكلات تتطلب إبداع حلول غير تقليدية، معوقات تحول دون ضمان استمرار الكتاب على عرشه إذا لم تحدث تدخلات لإزالتها،....،...

 باختصار فإن الدعوة للمؤتمر تختلف عما سبق، إذ المأمول وضع استراتيچية وطنية لحل المشكلات وإزالة المعوقات، ثم رسم ملامح آفاق تطوير صناعة الكتاب، بما يتلاءم مع المتغيرات والمستجدات التى ترسم صورة المشهد المستقبلى لهذه الصناعة حتى يواصل الكتاب دوره ورسالته فى التنوير، ونشر الوعى، والحفاظ على الهوية.. والمطلوب قرارات مشفوعة بآليات تنفيذها، وميزانيات تكفى للنهوض بالكتاب، وتجاوز أزمته.

أحلم ببيان يوقعه كل الناشرين يتضامنون فيه مع هذا المطلب.

 أتطلع - أيضا- لبيان مماثل من أكبر حشد من المثقفين يحمل رؤية ضمير الأمة، لمستقبل آمن للكتاب.