خواطر الإمام الشعراوي.. الخير فى التكليف

الإمام محمد متولي الشعراوي
الإمام محمد متولي الشعراوي

يواصل الإمام الشعراوى خواطره حول سورة البقرة فى الآية 216 حيث يقول الحق: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

يقول الشعراوي: إن العبد الصالح لا ينسب هذا العمل الرباني لنفسه، ولكن ينسبه إلى الخالق الذى علمه. إذن فالحق يطلق بعضًا من قضايا الكون حتى لا يظن الإنسان أن الخير دائمًا فيما يحب، وأن الشر فيما يكره، ولذلك يقول سبحانه: «وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ» فإن كان القتال كرهًا لكم، فلعل فيه خيرًا لكم.

وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك (كَره) و(كُره). إن (الكَره) بفتح الكاف: هو الشيء المكروه الذى تُحمل وتُكْرَهُ على فعله، أما (الكُره) بضم الكاف فهو الشيء الشاق. وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق، وقد يكون شاقًا ولكن غير مكروه.

اقرأ أيضًا| خواطر الامام الشعراوي : اطلب جزاء الخير من الله

والحق يقول: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ». ولنلاحظ أن الحق دائمًا حينما يشرع فهو يقول: «كُتِبَ» ولا يقول: (كَتبت) ذلك حتى نفهم أن الله لن يشرع إلا لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أى تكاليف، وهل يكون من المنطقى أن يكلف الله مَنْ آمَن به ويترك الكافر بلا تكليف؟ نعم، إنه أمر منطقي؛ لأن التكليف خير، وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيِّد، نقول لهم: لو كان التكليف الإيمانى يقيد لكلف الله به الكافر، ولكن الله لا يكلف إلا مَنْ يحبه، إنه سبحانه لا يأمر إلا بالخير، ثم إن الله لا يكلف إلا مَنْ آمن به؛ لأن العبد المؤمن مع ربه فى عقد الإيمان. إذن فالله حين يقول: (كُتب) فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره الموهوبة له، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الاختيار فى أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله فى عقد إيمان، وبمقتضى هذا العقد كتب الله عليه التكاليف.

ومن هذه التكاليف القتال، فقال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال». وقوله: «عَلَيْكُمُ» يعنى أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة فجاءت «عَلَيْكُمُ» لتناسب الأمر. وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة. ويعبر الحق عن ظاهر الأمر فى القتال فيقول عنه: «وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ». إنها قضية عامة كما قلنا. لذلك فعلينا أن نرد الأمر إلى من يعلمه، «والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة الله الذى أجراه؛ لأنه هو الذى يعلم. وهناك قصة من التراث الإنسانى تحكى قضية رجل من الصين، وكان الرجل يملك مكانا متسعا وفيه خيل كثيرة، وكان من ضمن الخيل حصان يحبه.

وحدث أن هام ذلك الحصان فى المراعى ولم يعد، فحزن عليه، فجاء الناس ليعزوه فى فقده الحصان، فابتسم وقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزونى فيه؟ وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه، فلما رأى الناس ذلك جاءوا ليهنئوه، فقال لهم: وما أدراكم أن ذلك خير، فسكت الناس عن التهنئة.

وبعد ذلك جاء ابنه ليركب الجواد فانطلق به، وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه، فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر؟ وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو، وتركوا هذا الابن؛ لأن ساقه مكسورة، فجاءوا يهنئونه، فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا ألا نأخذ كل قضية بظاهرها، إن كانت خيرًا أو شرًا، لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة فى ضوء قول الحق: «لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ» «الحديد: 23». والحق هو القائل: «والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ».

ولله المثل الأعلى، سبق لنا أن ضربنا المثل من قبل بالرجل الحنون الذى يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه فى الدنيا، لذلك عندما يمرض الابن فالأب يعطيه الدواء المر، وساعة يعطيه الجرعة فالابن يكره الدواء ولكنه خير له.