كنوز| الملقب بأمير صاحبة الجلالة.. شيخ الصحفيين وحكايات «المتمرد»

أسمهان مع أمير الصحافة محمد التابعى
أسمهان مع أمير الصحافة محمد التابعى

تحل علينا بعد غد الذكرى 46 لغياب أمير الصحافة محمد التابعى الذى غادرنا فى 24 ديسمبر 1976 عن عمر يناهز 82 عاما تاركا خلفه مدرسة صحفية مهنية محترمة، وهذا ما يؤكده شيخ الصحفيين حافظ محمود الذى يبين ما كان للتابعى من ثقل فى مقال كتبه لمجلة «الهلال» يقول فيه: 

كان التمرد فى دمه، تمرد العبقرية التى أدخلت فى تاريخ الصحافة مدرسة جديدة اسمها محمد التابعى الذى دفع ثمن هذا التمرد، وهذه العبقرية حين تمرد دمه عليه فى السنوات الأخيرة من عمره فأودى بحياته بعد 82 عاما عاشها كما تعيش الشهب حركة وانتقاصا ولمعانا واحتراقا، وكان أهله من أعيان الدقهلية يرون بعض التجارات تزدهر مع قيام الحرب العالمية الأولى فقرروا أن يدخلوه مدرسة التجارة، لكنه تمرد والتحق بمدرسة الحقوق.

وتمرد طالب الحقوق على النظام تمردا استوجب محاكمته فترك الحقوق وترك القاهرة وسافر إلى السويس ليعمل موظفا فى مكتب التموين، جاءت فرقة مسرحية لتخفف عن الناس ضراوة الحرب، فتمرد التابعى على الوظيفة وصاحب الفرقة من بلد إلى بلد حتى عاد معها إلى القاهرة فى الوقت الذى كان فيه يوسف وهبى يؤسس مسرح رمسيس، اتخذ من «مقهى الفنانين» مقرا وأصبح صديقا لهم جميعا، والتقى بعبد المجيد حلمى واتفقا على إصدارمجلة للمسرح يمولها عبد المجيد بماله والتابعى بقلمه، ونبه رواج المجلة الصحف الكبرى إلى ضرورة العناية بالنقد المسرحى، فأسرعت «الأهرام» لضم التابعى لأسرة تحريرها، فكتب بابا للنقد الفنى كان يوقعه باسم مستعار هو «حندس».

ويوم فكرت روز اليوسف أن تغيرحياتها من المسرح إلى الصحافة بإنشاء مجلتها لم تجد أمامها خيرا من التابعى ليتولى تحرير المجلة التى حملت اسمها، وكان التابعى مؤمنا بالكاريكاتير فأدخله على «روز اليوسف»، وعندما ألح أساطين السياسة على السيدة «روزا» كى تفتح مجلتها للسياسة، استطاع التابعى أن يكهرب جو الصحافة الأسبوعية السياسية بأسلوبه الجديد، فصار كاتبا سياسيا مرهوب الجانب، وتحول ربحه من أحاد الجنيهات إلى مئاتها، وأصبح أحد أعيان الصحفيين واشتهر بأنه زعيم الأناقة، وأصبحت داره فى حى الزمالك من أشهر الصالونات السياسية والفنية.

كان يخطب وده كبار الرجال، وأصبح الصديق الأول لأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى، وكان من الممكن أن يكون واحدا من أبرز أعضاء الحاشية الملكية لكن تمرده أبى عليه إلا أن يضع نفسه فوق هذا الاعتبار، فكان ينزل فى سويسرا فى نفس الفنادق التى ينزل بها الملك، مع احتفاظه باستقلاله الذى اكسبه احتراما كبيرا لدرجة ان الملك فاروق فى صباه إذا رأى التابعى أقبل عليه، وكان يعامله معاملة شبه عائلية، ومن هنا تجمعت عند التابعى كل أسرار الدولة، وتجمع لديه من الأسرار ما جعله فى خواتيم العهد الماضى ناقما متمردا، فما أن قامت ثورة يوليو 1952 حتى كان أول صحفى يطرق أبواب الثورة قبل أن يبرح الملك قصره إلى غير رجعة !

فى سنة 1934 أنشأ التابعى مجلة «آخر ساعة»، وشكل من أفكاره على صفحاتها دولة تمنح الألقاب لكبار الرجال، فأطلق لقب «حامل عمامة التقى والورع» على رئيس الوزراء مصطفى النحاس، وأطلق على رئيس الوزارة إسماعيل صدقى لقب «حامل كليشيه الابتسامات الصناعية»، وألصق برئيس الوزراء عبد الفتاح يحيى لقب «وزير الدوخة والأسبرين»، ومنح رئيس الوزراء محمد محمود لقب «صاحب اليد الخشبية».

وأطلق على رئيس الوزراء توفيق نسيم لقب «رئيس حكومة هوبنار» على اسم الفتاة النمساوية التى أراد أن يتزوجها وهو فوق السبعين، وأطلق على رئيس حزب الاتحاد حلمى عيسى لقب «وزير التقاليد وقطع العيش»، وأسبغ على وزير العدل أحمد خشبة لقب «وزيرالحلاوة الطحينية»، ومنح الوزير حنفى محمود لقب «رب المقالب والمثالب».. الخ الخ، واستطاع بهذه النعوت أن يؤثر فى مزاج قرائه لدرجة انه كان يكتب اللقب الذى يمنحه لأى كبير دون ذكر اسمه فيعرف القراء أن المقصود فلان أو فلان !

وأثرى بهذه النعوت فن الكاريكاتير، واستحق التابعى أن يكون صاحب مدرسة حديثة فى الكاريكاتير وإن لم يرسم فى حياته رسما واحدا، ولكى أدلك على اهتمام قراء الثلاثينيات بكل ما كان التابعى يكتبه أذكر أنه ظل عدة أسابيع لا يذكر رئيس الوزراء إسماعيل صدقى، وكان من معارضيه، وإذا برئيس الوزراء يستدعيه، توجس التابعى شرا، لكنه عندما التقاه فأجاه بقوله «ماذا جرى فى الدنيا يا أستاذ تابعى حتى تهجرنى كل هذا الهجر الطويل؟».

فأجابه التابعى «أردت أن آخذ هدنة من إغضابك وغضبك»، فقال صدقى باشا «بالعكس أنت مكار وتريد أن ينسانى الناس»، دهش التابعى وهو يسأله «أتحب أن أستمر فى الهجوم عليك؟»، قال الباشا «طبعا، وهل يقرأ الناس غير هذا الهجوم، إن المدح الذى يكال لى فى بعض المجلات الناس تعرف اننى اشتريه، أما هجومك فلا أحد يستطيع أن يتصور أننى الآن اشترك فيه»، وأراد التابعى أن يتلطف بقوله «لكن»، فإذا بصدقى يقاطعه «لكن ماذا يا أستاذ أنا لم أجد سلاحا فى يدى عند مفاوضة الإنجليز خيرا من هجومك عليّ، فكلما أرادوا انتقاص شىء قلت لهم : تذكروا هجوم التابعى»! 

هكذا كان التابعى يؤثر بقلمه فى الأحداث، ومن ألمع آثاره أنه ذات مرة فى شهر رمضان لاحظ أن دار المندوب السامى البريطانى تقيم حفلة شاى واستقبال فى ليلة القدر، وحضر هذه الحفلة بعض الشيوخ، فكتب مقالا بعنوان «أصحاب الفضيلة الخواجات»، فأصدرت مشيخة الأزهر تعليمات بمنع أى أزهرى كبير من حضور هذه الحفلة، واستطاع التابعى بمقال أن يجعل السفارة البريطانية تلغى هذه الحفلة لأن الغرض منها قد انكشف، وأصبح كل من يقبل دعوتها ملعونا من الجماهير، وكان التابعى آدميا بكل ما فى الآدمية من العواطف والغرائز والرغبات.

وكما كانت عبقريته تقربه من الرجال، كانت آدميته تقربه من النساء، لكنه كان صحفيا يسخر كل علاقاته لحساب فنه الصحفى، فكانت «آخر ساعة» تنشر من الأسرار ما عجزت الصحف عن الوصول إليه، لأن مندوبى مجلته كن من الصديقات اللاتى لا يعرف أحد صلتهن بالتابعى، صديقة واحدة لم تكن صداقتها له سرا هى «أسمهان»، فهو الذى اكتشف موهبتها ورعاها وقدمها للناس، فلما بلغت مكانتها كانت ترد الجميل لراعيها، وفى الحرب العالمية الثانية كانت بحكم مركزها كزوجة للأمير حسن الأطرش الموالى للحلفاء تطلع على الكثير من الأسرار، واتفقت مع التابعى على أن يلتقيا بين الحين والحين فى فندق «كينج دافيز» بالقدس لكى يسمع منها ما يريد !

تصوروا المغامرة التى كان يغامرها فى تردده على القدس فى عز الحرب، لكنها الصحافة التى تزاوجت مع التمرد فى طبيعة الأستاذ التابعى. 

حافظ محمود «الهلال» 1 فبراير 1977

إقرأ أيضاً | كنوز| «هيكل» يعتذر لأستاذه في «أسرار الساسة والسياسة»