د. على بن تميم يكتب : فى رثاء صديق وعالم كبير

د. صلاح فضل
د. صلاح فضل

لا يمكن اختصار ما يمثله المفكر التنويرى الراحل د. صلاح فضل فى كلمات، لا يمكن لمقالة سيّارة أن تفيه حقه، لا يمكن لأى من قرائه أو تلاميذه أو محبيه أن يلخّصوا ما يمثله لهم بما له من مكانة علمية وأكاديمية كبيرة فى صفحات، ولا يمكن لى أن أجمل ما تمثله صداقتنا التى امتدت سنوات طوال فى عدة سطور.
حين وصلنى خبر رحيله توالت على ذهنى عشرات، بل مئات المواقف التى جمعتنا معاً، فى الإمارات، وفى القاهرة وغيرها من عواصم العالم، نجتمع حول الشعر فى كل مرة. أتذكر حكاياته، ومواقفه، ونكاته، وآراءه الجادة والقاطعة فى الشعر والرواية والنقد والتراث واللغة.
صلاح فضل، أكثر من مجرد صديق، أكثر من مجرد مفكر، صلاح فضل شيخ النقاد العرب يمثل لى ولغيرى ما تمثله مصر من تنوع معرفى وحضارى وفكري، وما يمثله شعبها من حضور وتأثير ثقافى وأخوة ودماثة خلق.

د. صلاح فضل، رفيق رحلة عُمر جمعتنا خلاله عشرات المواقف الإنسانية والأدبية، لم يكن ينفصل فيها عن كونه مثقفاً حقيقياً كبيراً حتى فى تعاملاته العادية، منذ عرفته وهو بالنسبة لى مثال للأكاديمى الجاد، صاحب القضية والموقف، عاشق الشعر واللغة العربية، المشجع للأجيال الجديدة من المبدعين والباحثين. 


كان وطنياً، شديد الاعتزاز بالدولة المدنية، له موقف واضح وقاطع من أعضاء الجماعات الإرهابية الذين «يحترفون الكذب كما يتنفسون» كما وصفهم، وكان يكرر دائماً أن «خلط الدين بالسياسة هو إفساد للدين والسياسة»، بل قال بشكل واضح إن «عام حكم الإخوان عام أسود، يجب أن يكون درسا بليغا للرأى العام».

وبسبب موقفه الوطنى هذا شنت عليه جماعة الإخوان الإرهابية حرباً، فهاجموه بعد مشاركته فى لجنة وضع الدستور المصرى 2012 حتى انسحب منها، وحاولوا عرقلة إصلاحاته فى مجمع اللغة العربية، بل وشمتوا فيه ـ كعادتهم المتجردة من الإنسانية والأخلاق ـ بعد رحيله.


ومن يقرأ سيرة حياة صلاح فضل، يقرأ أيضاً فى فصولها جزءاً من تاريخ مصر، وجزءاً من تنوعها الثقافي، وسيعرف لماذا كان رحمه الله نموذجاً للمثقف الحقيقي، الغارف من التراث والمنحاز للتجديد والتنوير، فقد نشأ ـ كما حكى لى أكثر من مرة ـ فى بيت أزهري، وتلقى تعليمه فى المعاهد الأزهرية.

وتفتح وعيه على مكتبة منزلية مليئة بأمهات الكتب، فقرأ أول ما قرأ مجلة الرسالة التى رأس تحريرها الأديب المصرى الراحل أحمد حسن الزيات، والتى كانت حاضنة لرموز الأدب والفكر العربيين آنذاك، ومنهم زكى نجيب محمود، عباس محمود العقاد، أحمد أمين، على الطنطاوي، محمد فريد أبو حديد، أحمد زكى باشا، مصطفى عبد الرازق، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، محمود محمد شاكر والشابي. 


ثم خاض صلاح فضل التجربة نفسها التى خاضها قبله رفاعة الطهطاوي، والدكتور طه حسين، فمن التعليم الأزهرى اتجه إلى أوروبا، إلى إسبانيا فى بعثة للدراسات العليا، ليحصل على الدكتوراه فى الآداب من جامعة مدريد المركزية، ويعمل مدرساً للأدب العربى والترجمة بكلية الفلسفة والآداب هناك، ويتعاقد مع المجلس الأعلى للبحث العلمى فى إسبانيا للإسهام على إحياء تراث ابن رشد الفلسفى ونشره.


وأثرت تلك الفترة التى قضاها رحمه الله فى إسبانيا، ثم أثناء عمله بعد ذلك أستاذاً زائراً بكلية المكسيك للدراسات العليا، فى انفتاح رؤيته على الآخر، وشكّل امتزاج الثقافتين العربية والأوروبية أفقاً معرفياً لمفهوم الناقد لديه، غير المفهوم التقليدى لدى معظم النقاد العرب، لقد فعل التضافر المعرفى به ما فعله من قبل مع طه حسين والطهطاوي.

ومن إدراك لأهمية التواصل مع الحضارات الأخرى وعدم الانغلاق الثقافى والتقوقع على الذات، وظل هذا الحس المختلف والوعى الفارق حاضراً دوماً فى خطابه الفكرى والنقدى فى مقالاته وكتبه ومحاضراته الجامعية، وحتى فى نقاشاتنا الكثيرة. 


ولا شك أن الإنجاز الثقافى لصلاح فضل كبير، ويحتاج إلى أن تقوم المؤسسات المسؤولة بجمعه، حيث يتعدد ما تركه بين مؤلفات نقدية وترجمات وأوراق بحثية ومقالات نقدية، كما كانت له مساهماته شديدة الأهمية حين عمل رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ودور لا يُنكر فى الحفاظ على اللغة وتيسيرها وتطوير قواعدها وتوسيع كفاءتها لاستيعاب مستحدثات التطور من الآداب والفنون.


وثمة ميزة كبرى امتاز بها صلاح فضل، يعرفها الأصدقاء الذين جمعتهم به اللقاءات وجلسات النقاش، وهى «عذوبة الحديث» والقدرة على تناول المعقد من الأفكار باسترسال معرفى غير متعال ولا متقعر، بل فيه بساطة وخفة ظل «ابن البلد» المصرى كما نعرفه. وأظنها إضافة لكونها امتداداً لتركيبة المصرى الأصيل.

وسمةً بارزة من سمات أصحاب العقل الناقد على مر التاريخ، هؤلاء الذين تتغلغل المعرفة الموسوعية فى نفوسهم فتصبح أصيلة متجذرة فيتوهج بها العقل وتنفتح ملكات التأويل والتحليل والشرح، وكان صلاح فضل أحد هؤلاء الكبار، وزادته تميزًا محبته للحضارة العربية ودرايته بتاريخها وإجادته للغتها أيما إجادة. 


إن أنسى، فلا أنسى تلك الدفقة الإنسانية الكبيرة التى شعرت بها حينما فاجأنى معدو برنامج «رموز الإبداع» على قناة النيل الثقافية بمداخلة من الصديق الكبير د. صلاح فضل، الذى أعده أستاذاً ومعلماً وصديقاً.

ولست هنا فى معرض الاستشهاد بما تفضل وأكرمنى به من كلمات فى المداخلة، ولكننى أستخدم بنية هذه المداخلة شاهدًا على العقل المنظم صاحب المنهج الذى يحيط بالمعلومات ويستخدمها فى إنتاج معرفة ورؤية خاصة، إنه المنهج نفسه والعقل نفسه الذى استخدمه صلاح فضل فى كل تفاصيل حياته صغيرة كانت أم كبيرة، إن أردنا أن نستخلص الدرس لنضعه بين أيدى أبنائنا.


ولا أنسى عَشرة أعوام تشاركنا فيها العمل فى لجنة التحكيم ببرنامج «أمير الشعراء»، تعرفت خلالها عن قرب إلى مواقفه الواضحة المنحازة للشعرية الحقة. لم نكن مجرد زميلى عمل فى البرنامج أو فى «مركز أبوظبى للغة العربية» الذى شغل عضوية لجنته العلمية، بل كنا صديقين، زارنى فى بيتى كثيراً، ولم أكن أفوّت مرة أزور فيها القاهرة إلا وأسعد بلقياه. 


ورغم مرضه استقبلنى هذا العام أكثر من مرة، حين شارك فى الخلوة الثقافية للغة العربية، التى نظمها المركز بمناسبة اختيار د. طه حسين شخصية محورية لمعرض أبوظبى الدولى للكتاب 2022. ومرة حين دعانى بصحبة الأديب الإماراتى البارز محمد المر رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، والصديق عبد الله ماجد آل على مدير عام الأرشيف والمكتبة الوطنية لزيارته فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

وصاحبنا فى جولة تاريخية فى ذلك المبنى الأثرى على النيل، وأطلعنا على الجهود التى يبذلها بصدق وحماس لاستعادة دور المجمع التاريخي. 


آخر لقاء جمعنى به كان قبل نحو شهرين، حين استضافنى فى بيته، ولم يحرمنا ـ رغم مرضه -من إشاراته المشجعة، وتحليلاته الصائبة، ونقاشاته الجادة لما يتابعه من أنشطة مركز أبوظبى للغة العربية الذى كان يرى فيه خطوة عربية كبيرة تبث الأمل فى نفوس محبى العربية.

ولأنه نتاج رؤية القيادة الحكيمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، التى تؤتى مشاريعها دوماً ثمارها لجمعها الموفق بين الرؤية الطموحة الواعية، والعمل الجاد المنضبط الآخذ بمعايير النجاح من علم وتخطيط وإدارة ومعرفة.


ولم أكن أعلم أن ذلك هو اللقاء الأخير بيننا، فقد كان كما عهدته دائماً، رغم مرضه، حاضر الذهن مقبلاً على الحياة منحازاً لقضاياه، مهموماً بالشعر وباللغة العربية، حريصاً على إبراز محبته وجوده.


لا يمكن القول إن صلاح فضل قد رحل، فأمثاله يبقون كالجبال التى يشار إليها بالبنان، وهو موجود بإرثه النقدى والثقافى والمعرفي، موجود بإنسانيته وأخلاقه العالية، موجود فى تلاميذه وقرائه، موجود كما بقى من قبله أعلام مصر ورموزها، طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وغيرهم الكثير.. فمثل هؤلاء لا يرحلون، بل يبقون للإنسانية وللأجيال الجديدة مشاعل نور وتنوير،رئيس مركز أبوظبى للغة العربية.

 

اقرأ ايضًا | رفاعة الطهطاوي.. الوافد من الصعيد لإحياء‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي