يوميات الأخبار

حديقة وأغنية ولوحة بالمقلوب

عبدالرحيم كمال
عبدالرحيم كمال

الحظ السيئ قد يجعل أفضل أعمالك يعرض فى أفضل الأماكن ولكن موظفاً طيب القلب سليم النية يقوم بتعليق عملك بالمقلوب

 مع نسمات الفجر فى ذلك الفصل الخريفى البديع، يشعر الإنسان أنه يحتاج إلى البراح، إلى اللون الأخضر، يمد بصره قبل أن تطل الشمس بوجهها المضيء على البيوت، فيجد البيوت مرتبكة، إما فقيرة قريبة متلاصقة بشكل جارح وإما غنية متباعدة فى تعالٍ بشكل جامح ويحمل سمات الغربة، العمران بالذات شهد طفرة حقيقية فى السنوات القليلة الماضية، طفرة جعلت القاهرة أكثر سرعة وانسيابية ومرونة، والمشاوير صارت تستغرق أوقاتاً أقل بالتأكيد والمسافات تتسارع والأزمنة تختصر مع القطار السريع الذى سيفتتح فى المستقبل القريب جداً.

 كذلك النشاط العمرانى الكبير، المتمثل فى العاصمة الإدارية الجديدة ومشروع حياة كريمة، مشروعان يدفعان للفخر والسعادة، ولكن نسمات الفجر تجعلنى أطمح فى مشروع ثالث، مشروع يليق بمصر.

حديقة كبرى تكون هى المتنفس الحقيقى للعاصمة، رئة خضراء على آلاف الأفدنة يمرح فيها الأطفال والصبية وكبار السن، حديقة عامة كبرى، يهرب إليها الناس من ضغوط العمل والحياة. ليس شرطاً أن تكون فى العاصمة القديمة ولكن من الممكن أن تكون بين العاصمتين الجديدة والقديمة، مساحة خضراء ممتدة تسر الناظرين، بهجة جديدة فى أقدم بلد زراعى فى العالم. حديقة مصرية كبرى بطابع مصرى يجذب الجميع، مواطنين وسياحاً. 

ليست رفاهية

قد يرى البعض - وهذا من حق البعض تماماً - أن ذلك اقتراح مرفه وأن الوقت ليس وقته، وأن الدولة فى حاجة إلى المزيد من المصانع والإنتاج وليست فى حاجة إلى الحدائق وذلك (الدلع المرق)، لكننى أرى - وهناك البعض الآخر الذى ربما يرى مثلى - أن الحديقة ليست رفاهية، لأن الصحة العامة الجيدة هى الوقود الأساسى للإنسان القادر على الإنتاج، وليس جديداً ولكنه بديهى ويعرفه الجميع أن العامل فى المصنع والمهندس والإدارة. 

جميعهم يحتاجون إلى صحة جيدة والصحة الجيدة تحتاج إلى حديقة عامة كبيرة، لا يستطيع غالب المواطنين الاشتراك فى الأندية الرياضية لارتفاع أثمان الاشتراك، لكن من حقهم أن يدخلوا الحديقة العامة ببساطة كل صباح باكر للمشى والجرى وتحسين الصحة والتنزه أيضاً، والحدائق العامة ليست بدعة أو شيئاً جديداً على مصر، لكنها قديمة قدم المصريين ذاتهم، حتى أن القرآن وصف مصر بأنها (ذات زروع ومقام كريم)، وكانت الحدائق منتشرة فى مصر القديمة، مميزة بسورها وشكلها الهندسى والمجرى المائى الذى يقسمها نصفين، وكانت الحديقة للتنزه والعبادة معاً. 

وفى الدولة الحديثة وتحديداً فى الأسرة الثامنة عشرة، كانت الحدائق قد بلغت ذروتها فى جمال التصميم، حيث تتوسطها بركة مستطيلة، ومليئة بالأسماك الملونة، وعلى حوافها زهور اللوتس وصفوف متراصة من النخيل والجميز، وأحواض الزهور فى كل ركن، وعلى جدران السور النقوش البديعة، فيكتمل الجمال والفتنة والقداسة فى مكان واحد، تنوعت الحدائق بين حدائق للمعابد وأخرى جنائزية، ووصلت البستنة وفن تصميم وصنع الحدائق فى مصر القديمة إلى مستويات غاية فى الرقى والإبداع. 

وظلت مصر مميزة بحدائقها البهية حتى عصرنا الحديث وحدائق مثل (الأزبكية والأورمان وحدائق القناطر الخيرية، وحديقة الأسماك وغيرها).

شاهدة على العصر

وآن الأوان أن تكون هناك حديقة جديدة عامة كبيرة لتكون شاهدة على ذلك العصر الذى يحاول النهوض قدر استطاعته، والحديقة تتميز عن المبانى المصمتة بأنها شاهد حى يتنفس. شاهد يحقق أثراً مباشراً ويومياً وحقيقياً على المواطن، المواطن الذى لا يحتاج سوى مكان أخضر متسع آمن مبهج يمارس فيه المشى والرياضة والتنزه والصمت والكلام والخروج من الشقق المحدودة إلى براح يستقبله كل صباح.

كنا أطفالاً صغاراً فى السبعينات، وكان زمن وعصر بأكمله من الغناء قد وصل ذروته، وبدأ نجومه فى الأفول بالموت نجماً تلو الآخر، ماتت أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ فى سنوات متقاربة، وحاول الباقى كامتداد لذلك الجيل أن يواصل البقاء والسطوع، ومع الثمانينات والتسعينات مات أغلب هذا الجيل، وظهر جيل ثانٍ من الغناء شهدناه وسمعناه ونحن صبية ومراهقون، ظهر جيل على الحجار وعماد عبد الحليم، ومحمد الحلو ومدحت صالح ومحمد منير، وتلاهم عمر فتحى، عمرو دياب ومحمد فؤاد ثم طائفة من المطربين بموسيقى وأداء مختلف ها نحن الآن نشهد هذا الجيل وقد وصل إلى ذروته الفنية ويصبح لعلى ومنير ومدحت والحلو رصيد كبير من الأغانى التى شكلت نمطاً مختلفاً من حيث الكلمة واللحن، عن جيل عبد الحليم وفريد وفايزة ووردة ومن قبلهم أم كلثوم، وصار لدى المستمعين عدة أجيال يستطيعون أن يستمعوا إليهم كيفما شاءوا فهل استطاع جيل أن يلغى ذائقة جيل سابق؟، وهل كان الحاضر طاغياً حتى أنه محا الماضى القريب؟، إلى من يستمع أطفال هذه الأيام بعد أن مر على الألفية الجديدة ٢٢ سنة؟ ومن سيكونون نجوم صبية ومراهقى الربع الثانى من الألفية الجديدة؟ وأى الأجيال الموسيقية سيكون أكثر قدرة على المقاومة والصمود؟، مراهق سنة ٢٠٣٠ هل سيستمع إلى أم كثوم أم نانسى عجرم أم أنغام أم فايزة أحمد أم شيرين أم فتاة جديدة ستظهر خلال عامين ينسيهم صوتها كل تلك الأصوات الجميلة؟، هل هناك جيل أو مطرب أو مطربة كان يمتلك شفرة عبور الأجيال وكم من الأجيال سيستطيع العبور؟، هل ستظل أم كلثوم تقاوم وتحتفظ بنسبة من جمهور السماع فى السنوات القادمة؟، أعرف أن هناك شباباً لا يعرفون على الكسار مثلاً ولا عبد المطلب ولا يضحكون على إفيهات كانت تضحكنا كثيراً قبل سنوات قريبة، الأمر نفسه ينسحب على باقى الفنون ولا يقتصر على الغناء، والأزمة الكبرى التى لم تشهدها أجيال القرون التى ولت قبلنا أننا نعيش عصر التكنولوجيا والتى استطاعت الاحتفاظ بفنون من رحلوا فصرنا نستمع ونشاهد الأموات والأحياء معاً، كان من قبلنا يعرفون فقط أن هناك مطربة أو مطرباً عظيم الصوت، بالغ الصيت قبل سنوات دون أثر له أو تسجيل، لكننا الآن مازلنا نرى أم كلثوم على المسرح بمنديلها وفستانها حتى لو اهتزت الصورة، عصرنا هذا الجميع فيه يتنافس، حتى الأموات مع الأحياء، ولكن لمن ستكون الغلبة مع الوقت؟

الأجيال.. من ينجو؟

لقد صار هناك جيل قديم وجيل أقدم وجيل حديث وجيل أحدث، فمن سينجو وسط هذا الصراع الضخم المرير ويستطيع أن يعيش عمراً أطول من عمره؟، فى ظنى الشخصى كمواطن معاصر أن القادم سيكون لأعمال بذاتها وليس لأشخاص، أغنية أو فيلم وليس مطرباً أو نجماً أو مخرجاً أو كاتباً. وكما عبرت أغنية مثل (رق الحبيب) عشرات السنين وظلت تحتفظ كل فترة بعدد لا بأس به من المستمعين، كذلك سيكون الأمر فى المستقبل، أغنية لفلان ومشهد لعلان، الإنسان المستقبلى سيكون أقل صبراً أوربما نافد الصبر بشكل كامل، فلن يطيق ولن يتحمل أن يحمل من الماضى إلا شذرات ومقاطع، وربما سيظهر فن جديد يكون قائماً على جمع تلك الشذرات فى شكل فنى معين، مقطع موسيقى من هنا مع مشهد تمثيلى من هناك مع جزء من خطبة مع هدف أحرزه لاعب موهوب، ويتم تجميع كل ذلك فى وعاء فنى ويكتب عليه مثلاً (نوفمبر ٢٠٨٧).

ربما يظهر ذلك الفن الزمنى المعتمد على الزمن كتاريخ ومعنى وتتم تعبئته بلحظات منتقاة لفنون شتى حدثت فى زمن محدد متقارب، وستنتهى يقيناً قدرة الفنان الواحد باسمه وموهبته وأعماله على عبور الزمن، لأن المستقبل لن يكون محتاجا لذلك النوع من الخالدين والأساطير.

بالمقلوب

اكتشف المسئولون فى متحف بمدينة دوسلدورف الألمانية اكتشافاً عجيباً وهو أن لوحة الفنان الهولندى التجريدى بيت موندريان معلقة بالمقلوب، وتم ذلك بعد مرور ٧٧ سنة على تعليقها، خبر مثير للدهشة والكثير من الأسئلة أيضاً، كم من اللوحات معلق بالملقوب فى رءوسنا عبر السنوات التى مرت؟، وماذا لو أدركت بعد عدة سنوات أنك فهمت أمراً ما بالمقلوب؟ اتخذت قرارات وخاصمت وصالحت وكونت أفكاراً على شيء هو مقلوب بالأساس، ٧٧ سنة واللوحة المسماة (نيويورك سيتى ١) معلقة بالمقلوب. وجهة نظر الرسام ورؤيته تم قلبها للعرض العام الخاطئ للجمهور كل هذه السنوات، الأمر يحتاج إلى مراجعة شاملة فقد تبنى حياتك كلها على أمر مقلوب يا صديقى. 

لقد ظل الرسام بيت موندريان عاكفاً على لوحته أياماً وليالى وربما شهوراً ليحاكى بشكل تجريدى تخطيط مدينة نيويورك الأمريكية الشهيرة بناطحات سحابها وجعل لوحته خطوطاً أفقية وعمودية لكنه لم يكن يدرك أن لوحته ونيويورك وتصوره عنها ستعلق جميعها على حائط المتحف بالمقلوب كل هذه السنوات لتمر السيدة سوزان ماير وتقول: هذه اللوحة معلقة فى الاتجاه المعاكس!.

 نحن جميعاً فى حاجة لهذه السيدة، فى حاجة إلى شخص ما يمر كل فترة وينظر جيداً لقراراتنا الكبرى لعله يجد أن أحدها مقلوب ونقوم بتصحيحه ونعيش حياة معدولة.

الأمر إذن لا يتوقف على موهبتك وحدها ولا حتى على وجود مكان جيد لعرض تلك الموهبة، لكن الأمر يتوقف أحيانا أن يكون حظك ليس سيئاً، فالحظ السيئ قد يجعل أفضل أعمالك يعرض فى أفضل الأماكن ولكن موظفاً طيب القلب سليم النية يقوم بتعليق عملك بالمقلوب!!!