يوميات الأخبار

معمارى عظيم

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

أكتب اليوم عن عبقرى من عباقرة مصر، لا يعرفه إلا القليل جداً من الناس. رجل عاش فى الظل منكراً ذاته رغم أعماله الجليلة. إنه المهندس الدكتور محمد كمال إسماعيل.
الاسم: محمد كمال إسماعيل، تاريخ الميلاد: 13 سبتمبر 1908، محل الميلاد: ميت غمر، المدرسة التى حصل منها على الشهادة:  العباسية بالإسكندرية. وها هو محمد كمال يستعد لدخول المهندسخانة، ولأن المهندسخانة موجودة فى القاهرة، فقد فكرت أسرته كلها فى السفر معه للقاهرة.

العاشق

كان رأى الأساتذة فى مدرسة المهندسخانة أن هذا الطالب، خلق ليكون مهندساً. ورغم تفوقه الدراسى كان الولد مشغوفاً بالمساجد. بهرته عمارتها. فى أوقات فراغه كان يدور عليها. يتأمل تفاصيلها. تخطيطها الهندسي، زخارفها، منابرها. رخامها، أعمدتها. ووقف مبهوراً أمام مسجد السلطان حسن. كيف بنى المهندس المصرى هذه المبنى العبقرى. وأخذته مئذنة الجامع الأزهر. وراح يتأمل مسجد قايتباى بالروضة، وهو يتساءل: كيف صاغ المهندس هذه القطعة الفنية الرائعة؟ هل كان يمكن أن يأتى هو وغيره بهذه التحف الفنية دون حب؟ يا الله.. لقد وقع فتانا فى حب المساجد، وفتنته عمارتها، وأصبح من المؤمنين بأن عظمة المعمار فى مصر لم تقف عند الأهرامات، فالمهندس المعمارى المصرى قد أبدع إبداعاً عظيماً فى كل العصور.

أهلاً باريس

فى التاسعة عشرة من عمره تخرج محمد كمال من المهندسخانة. كان ترتيبه الأول كالعادة. وأرسلته الجامعة إلى أوروبا للحصول على درجة الدكتوراه. لكنه لم يكتف بدكتوراه واحدة. بل حصل على اثنتين. وحين عاد لمصر عينته الحكومة مهندساً فى مصلحة المبانى الأميرية، وترقى فى مناصبها حتى وصل فى عام 1948 إلى مديرها العام.

مجمع التحرير

كانت ثكنات قصر النيل التى يحتلها جيش الاحتلال الإنجليزى تحتل موقع مجمع التحرير. لم يترك الإنجليز هذه المعسكرات إلا فى مارس 1947. وكان من الطبيعى أن يفكر المصريون فى إعادة تنظيم ميدان التحرير (كان يسمى ميدان الإسماعيلية/ نسبة للخديوى إسماعيل)، وخطرت فى ذهن المهندس محمد كمال المدير فكرة مدهشة، لماذا لاننشيء مجمعاً للخدمات الحكومية المختلفة، بحيث يتم إنجاز مصالح المواطنين فى أقصر وقت. فى الخارج يسمونها «الشباك الواحد»، نحن سنجعلها «المبنى الواحد».

تمت الموافقة على الفكرة، وبدأ البناء عام 1950، وانتهى بناؤه عام 1951، وقام بافتتاحه صاحب الجلالة الملك فاروق الأول.

موسوعة المساجد

خلال هذا كله لم ينس محمد كمال شغفه بالمساجد. وقرر أن يضع ثمرة هذا الشغف فى كتاب، فألف موسوعة كاملة عن مساجد مصر. استغرق تأليفها سنين عدداً. تناول فيها المساجد من النواحي: التاريخية، الهندسية، الزخرفية. كل شيء. ومنحه الملك فاروق البكوية ونيشان النيل مكافأة له على هذه الموسوعة.

علامات

إلى جانب هذا بنى محمد كمال عدة مبانٍ أخرى تعتبر علامات فى القاهرة، منها: دار القضاء العالي، ومصلحة الكيمياء، ومصلحة التليفونات، ومسجد صلاح الدين. وهى جميعاً تؤكد أن هذا الرجل معمارى من ورثة الفراعنة الذين عشقوا المبانى الضخمة، والمشروعات الهندسية الجبارة.

مشروع العمر

كان الملك فهد، ملك المملكة العربية السعودية، يمسك فى يده بكتاب لم يتمكن الأمير ماجد من قراءة عنوانه. التفت جلالته للأمير ماجد وقال له: كتاب مدهش.

أى كتاب هذا؟ - اسمه موسوعة مساجد مصر.

للأسف لم أقرأه. - صاحبه مهندس، لكن من الواضح أنه صاحب شأن عظيم فى العمارة. - للأسف، لا أعرف من يكون صاحبه. - رجل مصرى، اسمه محمد كمال. بنى فى مصر مبانى عظيمة. أتذكر مجمع المصالح فى ميدان التحرير؟ إنه أحد مشروعاته.

الذى يبنى مثل هذا المبنى لا بد أن يكون مهندساً كبيراً فعلاً. لكن ما سر اهتمامك به وبكتابه؟

أفكر فى مشروع عظيم يتعلق بالحرمين. أريد أن أقوم بتوسعة الحرمين بحيث يتسعان لملايين الزوار الذين يأتون للحج والعمرة كل عام. لذلك أقرأ فى كتب

المساجد، وأسأل عن المهندسين الذين يمكنهم أن يقوموا بهذا العمل.

وبعد؟ - واضح أنى وجدت المهندس المطلوب. إسمع، أريد أن ترسل لاستدعاء هذا المهندس من مصر. أطلب منه أن يأتى على وجه السرعة.

أمرك يا صاحب الجلالة.

بداية جديدة

تم اللقاء بين الملك فهد والمهندس المصرى محمد كمال إسماعيل سنة 1985 للميلاد، الموافقة 1405 للهجرة. وها هو محمد كمال فى حضرة صاحب الجلالة.

خيراً يا صاحب الجلالة؟

لقد سألت عنك جيداً، وقرأت كتابك عن المساجد الإسلامية، لذلك قررت أن أكلفك بعمل عظيم.

أى عمل إن شاء الله؟

توسعة الحرم النبوى الشريف.

هذا شرف عظيم لم أحلم به

وها قد جاءتك الفرصة، فما رأيك؟

أعدك أن أجتهد لأكون على قدر المسؤولية. لكن أخبرنى يا صاحب الجلالة، ما هى طلباتك من التوسعة؟

أريد أن يسع المسجد النبوى الزوار المتزايدين لعشرات السنبن القادمة.

هذا يحتاج لمبالغ طائلة

الميزانية مفتوحة

عظيم. أعطنى فرصة إذن للدراسة وتصميم الرسومات اللازمة

بعد شهور من الدراسات والعمل جاء الدكتور محمد كمال لمقابلة صاحب الجلالة، وقدم له تصميماته المقترحة:

اشرح لى يا دكتور محمد هذه التصميمات

ستزيد مساحة المسجد النبوى ثمانى مرات، من أربعة عشر ألف متر إلى مائة وأربعة آلاف متر مربع، أى ستكون هذه التوسعة أكبر توسعة تمت منذ قرون

عظيم

سنضيف عدداً من المآذن والقباب والأبواب. ونكيف المبنى كله. وسنغطى الأرض برخام معين يأتون به من أعماق البحار، لأن من خصائصه ألا يتأثر بالبرد أو الشمس، وسنأتى بمظلات كبيرة لم يرمثلها أحد من قبل لتظلل المصلين وقت سطوع الشمس

رائع. وستكون أنت المشرف على التنفيذ.

شيئاً فشيئاً ظهرت الصورة الجديدة. كانت الصورة مبهرة. المسجد لا نظير له فى اتساعه، وجماله، ومآذنه، وقبابه، ورخامه، ومظلاته. مما دفع خادم الحرمين لتكليف الدكتور محمد كمال بمشروعه الجبار الثاني.

فى بيت الله الحرام

قال خادم الحرمين للدكتور محمد: بعد نجاحك فى المسجد النبوى آن لك أن تدخل الامتحان الأصعب. أريد توسعة بيت الله الحرام. أنت تعلم أن الناس تأتى إلى مكة للحج، والمسلمون فى العالم يزيدون عاماً بعد عام. أريد توسعة تيسر للحجيج زيارة بيت الله الحرام، وتسع الملايين المتزايدة.

هذا هو حلم العمر. لقد كنت أعمل فى توسعة المسجد النبوى وأقول لنفسى لا بد أن يفكر خادم الحرمين الشريفين فى توسعة الحرم المكي.

إذن فقد التقت أحلامنا

فعلاً يا سيدى.

كان الدكتور محمد فى قمة السعادة. لم يفكر فى شيء سوى أنه سيقدم خدمة لبيت الله ولزوار بيت الله. وراح يجرى الدراسات اللازمة، ثم بدأ فى وضع التصميمات، وأخيراً اكتمل التصور الشامل للمشروع.

وها هو يعرض التصميمات على خادم الحرمين الشريفين:

ستزيد مساحة الحرم المكى من مائتين وخمسة وستين متراً مربعاً إلى ثلاثمائة وخمسة عشر ألفاً. أى سنضيف مساحة قدرها خمسون ألف متر.

مساحة صغيرة. أريد مساحة أكبر. الحجيج الآن بالملايين - سنزيد هذه المساحة عن طريق التوسع الرأسي. سيكون الحرم المكى ثلاثة طوابق: قبو، وطابق أرضي، وطابق أول - لكن أكثر الحجيج يكونون مسنين ولا قدرة لهم على الصعود أو الهبوط - هذا أمر يسير. سنزود الطوابق بسلالم كهربائية تجعل الصعود والهبوط أمراً هيناً.

اقتراح جيد. أكمل

سنضيف مدخلاً رئيسياً جديداً، وثمانية عشر باباً عادياً، بحيث نيسر على الناس الدخول من كل مكان. وسنضيف مئذنتين جديدتين. وسيكون المبنى كله مكيفاً. وسنضع رخاماً لا يتأثر بالحرارة، مثل رخام الحرم النبوى. ونضع مظلات من النوع نفسه. وسيكون الحرم كله مكيفاً، وننشيء جراجاً للسيارات يتسع لخمسة آلاف سيارة. ونقوم بإنشاء بعض الأنفاق لتيسير المرور فى منطقة الحرم.

ستكون أنت المشرف على التنفيذ.

واكتمل البناء. صارت سعة المسجد الحرام ثلاثة أرباع مليون مصلٍ فى الظروف العادية، وتصل لمليون مصلٍ أيام الحج. وصار المسجد الحرام بهجة تسر الناظرين.

المكافأة

سأل خادم الحرمين الشريفين المهندس محمد كمال: كم تريد يا دكتور مقابل هذا العمل الجبار؟

قال الرجل ببساطة: أريد وجه الله

نعم؟! لقد عملت معنا سنوات، وقضيت الليل والنهار فى العمل، وقمت بعمل عظيم شهدت له الدنيا.

ياسيدى خادم الحرمين، كيف أتقاضى أجراً عن عملى فى الحرمين الشريفين؟ «أودى وشى من ربنا فين»؟

هذا هو الرجل الذى تجاهلناه، والذى يستحق منا كل تقدير واحترام. أما آن الأوان لأن نحتفى بهذا الرجل؟