كنوز| فى بلادى وبلادكم

ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة

بقلم: ميخائيل نعيمة

إن بلاداً آمنت بالله وباليوم الآخر، ثمّ أشركت الله فى كلّ أحوالها، وجعلته القيّم على أفكارها وأعمالها، فلا وجود لها إلّا فى وجوده، ولا مشيئة إلّا من مشيئته، ولا علم إلّا من علمه، ولا قدرة إلّا من قدرته، إنّ بلاداً ذاك شأنها مع الله لبلادٌ أقلّ صفاتها شجاعة روحيّة لا ينال الخوف منها مأرباً ولا يأخذ الشكّ منها مأخذاً، تقابل الموت بمثل الرضى الذى تقابل به الحياة، ولا تطمع من حطام الأرض بأكثر من خبزها الجوهري، وكسائها الضروري، وبمأوى يقيها عاديات العناصر، تسخر بالحزن والفرح على السواء، وتكبر على الذلّ والكبرياء، وتأنف الشقاق والخصام، ولا تتدنّس بالبغض والحقد والنميمة، بل تحمل فى قلبها لكلّ أبناء الله محبّة الشقيق للشقيق، وإخلاص الرفيق للرفيق، ولكن أين هذى البلاد من تلك الشجاعة ؟

ألعلّ بين ألسنة الناس هنا وبين آذانهم وقلوبهم، مسافات كالتى تفصل الأرض عن زحل، فلا يسمعون ما يقولون، وإن سمعوا فلا تنبض قلوبهم بما يسمعون ؟ وإلّا فمن أين الخوف والموت، والشقاق والبغض، والتكالب على حطام الأرض ؟

ما إخال أنّ تحت القبّة الزرقاء بلاداً عشّش الخوف فى جماجمها، ومشى الهمّ فى مفاصلها، وتحصّن الحقد فى قلوبها، وخيّم الحزن فى أحشائها نظير بلادكم وبلادى، فهى ترتعد فرائصها لأقلّ غمامة تعدو، وريح تنفخ، ورعد يقرقر، وشبح يطلّ ولو على الأفق البعيد، وأمّا خيال الموت فيسحقها سحقاً، وهى التى تشهد فى كلّ يوم من الأسبوع، وفى كل أسبوع من الشهر، وفى كل شهر من السنة بأنّها « تترجى قيامة الموتى والحياة فى الدهر العتيد »، وهى التى يطيب لها التمثّل بأيّوب فى قوله : «الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركاً».

بلاد يمرّ بها الموت فيصرع إيمانها، ويقطّع رجاءها ويقوض حصونها على رأسها ويتركها فى ظلمة دامسة من الحداد، تشرَق بالدمع، وتشهق بالتفجع، وتبح بالنوح والعويل، فلا عزاء، ولا رجاء. بل عتب على الخالق لماذا خلق، حتى تأنيب له لأنّه أعطى ثمّ ندم فاسترد.

لماذا يضنّ أبناء هذه البلاد بحياتهم، وبماذا عساهم يضنون إذ يضنون بها على الموت ؟ إنهم ليضنون برِجْل تسعى أن تكف عن السعى، أمّا إلى أين تسعى وبماذا تسعى، إلى الهاوية أم إلى القمة، أم بالخلاص لها وللناس أم بالهلاك لهم ولها، فأمر لا يشغل بالهم على الإطلاق، وإنّهم ليضنون بعين تبصر أن يفارقها البصر، أمّا ماذا تبصر، أحسناتها وسيئات الغير أم سيئاتها وحسنات الغير، أجمال الحكمة السرمديّة أم قباحة الجهل الذميم، فلا عبرة فى ذلك البتة، وإنّهم ليضنون برِئة تتنفس أن تصبح عديمة النفَس، أما ماذا تتنفس، أبلسماً للناس أم سمّاً زعافاً، فلا فرق عندهم ولا تمييز، وإنهم ليضنون بقلب ينبض أن يغدو عديم النبض . أمّا بماذا ينبض، أببهجة الإيمان المطمئن أم بلدغات الحيرة المذعورة، فالوجهان عندهم سيان.

وإنهم ليضنون بلحمة ناطقة فى الفم أن تمسى عاجزة عن النطق. أما بماذا تنطق، أبالبركات أم باللعنات، أبالمكر أم بالوفاء، أبالبغض أم بالمحبة، فما ذاك من الأهمية فى شيء، وإنهم يضنون لا بالحياة بل بمعيشة تربّع الموتُ فى كبدها وقلبها، وسيطر الخوف على مداخلها ومخارجها، أما الحياة التى هى أكثر من معيشة والتى هى السلك السرى الواصل الخالق بمخلوقاته، والتى لا غاية منها إلّا الوصول بالإنسان إلى ربّه، فما يعرفون لها قيمة ولا هم بها ضنينون.

من كتاب «البيادر» 

إقرأ أيضاً|وفاة فنان عربي.. وابنته المطربة الشابة تودعه بكلمات حزينة