عبد الرحيم يوسف يكتب: مكتبة الإسكندرية عشرون عامًا من الشد والجذب

مكتبة الإسكندرية
مكتبة الإسكندرية

أعتقد أن علاقتنا بالأماكن الثقافية تتأثر بشخصيات القائمين عليها، فنُقبل على مكان ما بروح متوثبة، ونبتعد عن آخر بقلب متوجس.

 لاحت مكتبة الإسكندرية كحلم ثقافي عالمي يتردد في خطاب عصر مبارك منذ أواخر الثمانينيات تقريبا، وفى التسعينيات -حين كنت طالبا في جامعة الإسكندرية- تحول الحديث المستمر عن استعادة هذا الصرح الثقافي السكندري القديم إلى عمل على أرض الواقع وماكينات تحفر وآثار تُكتشف في الأرض الواقعة خلف المجمع النظري من جامعة الإسكندرية حيث كنت أدرس. كنت أترقب هذا الحلم متشوقا لكنوز الكتب وحداثة التجهيزات مقارنة بمكتبة البلدية العتيقة التي كنت أتردد عليها بشكل دائم مستعيرا ما بها من كنوز ومعتقدا أن مكتبة الإسكندرية لا بد ستفوقها من كل جانب، الغريب أنى لم أشترك أبدا في مكتبة الإسكندرية قارئا، فقد نشأتْ بعد أن صرت مكتفيا بما أقتنيه من كتب أحاول لاهثا أن أقرأها.

لكن مكتبة الإسكندرية ليست فقط خزانات للكتب ومساحات للقراءة والاستعارة، بل هي مركز ثقافي وتعليمي كبير يضم قاعات عرض ومحاضرات ومتاحف وعالماً كبيراً. وهذا العالم كنز كبير ومساحة جذب أكيد لشاب يكتب الشعر ويخطو خطوات أولى في الوسط الثقافي السكندرى منذ أواخر التسعينيات. تحديدا في عام 1999 بدأت التردد على ورشة الشعر بأتيلييه الإسكندرية، تغمده الله برحمته، وحضور جلستها الأسبوعية كل خميس. كان العمل بمكتبة الإسكندرية قائما استعدادا لافتتاحها الرسمي في 2002.

وكان القائمون عليها قد تحددوا وبدأوا العمل فيما أسموه بالفترة التحضيرية، وفى عام 2000 أو 2001 جاءنا فى ورشة الشعر مدير مركز الفنون بالمكتبة بقميصه الهاواى الأحمر وبنطاله الأبيض وشعره الأشيب المصفف بعناية، فى إطار جولة يقوم بها للتعرف على الواقع الثقافى بالمدينة. كنا يومها ننظم مناقشة حول مفهوم ما بعد الحداثة وتجلياته فى الشعر.

وذلك فى إطار خلاف داخلى بين أعضاء الورشة الكلاسيكيين وفريق الحداثيين بها، وبعد أن استمع إلى جُل المناقشة، طلب السيد المايسترو -مدير مركز الفنون منذ افتتاح المكتبة وإلى ما بعد 25 يناير- الكلمة ليتحفنا برأيه الفصل: لا يوجد شىء اسمه حداثة وما بعد حداثة، والشعر انتهى بوفاة صلاح عبد الصبور! فى صدمتنا لحظتها نسيت أن أسأله عن أمل دنقل الذى قام المايسترو نفسه بتلحين ثلاث قصائد له بموسيقاه النيوكلاسيك! لكن هذا الرأى الصادم كان مؤشرا مخيفا ونذيرا كسيفا بما سيكون عليه حال النشاط الثقافى فى المكتبة الحلم.

بعدها بشهر أو اثنين جاءتنا فى ورشة الشعر ذاتها دعوة لحضور تجربة موسيقية شعرية فى إطار ذات المرحلة التجريبية قبل افتتاح المكتبة، تجربة يجرى فيها تقديم ثلاث تجارب موسيقية لتلحين قصيدة واحدة لأمل دنقل، تجربة مع الموسيقى العربية الكلاسيكية قدمها الراحل حمدى رؤوف، وتجربة مع موسيقى الجاز المصرية قدمها الفنان شربينى.

وتجربة قدمها -طبعا- المايسترو نفسه مدير مركز الفنون بموسيقاه النيوكلاسيك إياها التى لن تضن علينا مكتبة الإسكندرية بإنتاج أعماله الكاملة لاحقا فى طبعة أنيقة وباهظة الثمن، أو إنتاج عرض موسيقى أوبرالى له، ناهيك عن الحفلات المنتظمة التى يقود فيها أوركسترا المكتبة. المهم بعد انتهاء تقديم التجارب الثلاث جرت مناقشة مع الجمهور أدارها المايسترو بحضور الفنان

الموسيقار هانى شنودة، وفى المناقشة طلب زميلى فى ورشة الشعر وقتها الشاعر سامى إسماعيل الكلمة، وبعد أن قدم نفسه ورؤيته هز المايسترو رأسه وقال: شاعر حداثى طبعا! وشيئا من قبيل «كلما رأيت شاعرا أتحسس مسدسى!» وهى عبارة أثارت ابتسامات الحضور وأثارت رعبى مرة أخرى.


 كل هذا لم يمنع الواحد من الفرحة بافتتاح المكتبة، ومن الفرصة التى أتاحتها لبعض أصدقائى فى العمل بها بمرتبات مجزية، هؤلاء الأصدقاء الذين دفعونا دفعا للاشتراك فى فعالية شهرية بدأتها المكتبة تحت اسم «سوق الفن» فى ساحتها الواسعة (البلازا)؛ حيث كان يقف كل شاعر أو قاص أو حكاء وراء نصب صغير ليقرأ شعره أو قصته أو يحكى حكايته أو يقدم عرض عرائسه وللجمهور حرية الحركة والوقوف والسماع والتصفيق أو مناقشة الكاتب/ الفنان. شاركنا فى أول نسختين من هذه الفعالية وكانت تجربة لطيفة خرجنا بها من قاعات الندوات والورش المغلقة واحتككنا بالجمهور العادى غير المهتم عادة بأشكال كتابتنا. لكنها تجربة لم تستمر طويلا. 


ولم يمنعنى قلقى من أداء بعض الشخصيات ولا التضييق المبالغ فيه فى دخول المكتبة ثم فى دخول القاعات من التردد على المكتبة من وقت لآخر لحضور عروض السينما أو المسرح أو معرض الكتاب الذى بدأت المكتبة فى تنظيمه على هزاله الشديد مقارنة بمعرض القاهرة للكتاب وبقيمة المكتبة نفسها.


لكن تنظيم الندوات واللقاءات والمؤتمرات بالمكتبة كان مثارا للعجب! ليس فقط بسبب شبه سريته، لكن بسبب تقاطعاته أحيانا وتعارضاته مع نفسه. أذكر إلى الآن مقالا كتبه الراحل جمال الغيطانى فى جريدة أخبار الأدب يحكى فيه عن حضوره لمؤتمر عن الرواية فى مكتبة الإسكندرية وأثناء الاستراحة فوجئ بكاتب عربى صديق أخبره أنه يحضر مؤتمرا آخر فى نفس الوقت تنظمه المكتبة أيضا! وتساءل الكاتب الكبير كيف يمكن أن يحدث هذا، أن يعرف بالصدفة عن مؤتمر تنظمه المكتبة فى نفس الوقت، كما تساءل متعجبا أيضا عن تواصل المكتبة مع مثقفى المدينة الذين فوجئ أن أصدقاءه منهم لا يعرفون شيئا عن أى من المؤتمرين أصلا ولم تجرِ دعوتهم لحضور أى منهما!


عن نفسى، كنت شاهدا على حادث كهذا أفادنى فيه أن لى أصدقاء كانوا يعملون بالمكتبة وقتها، فى حوالى عام 2005 اتصل بى أحدهم ليخبرنى على عجل أن أمسية شعرية لمحمود درويش بمصاحبة الفنان على الحجار ستنظم عصر ذلك اليوم! أخبرت من استطعت من الأصدقاء وأدخلنا صديقنا هذا سرا عن طريق ورشة الديكور إلى قاعة المسرح الكبير التى فوجئت أنها شبه خالية أصلا! جلسنا براحتنا واستمتعنا بأداء الشاعر الكبير فى المرة الوحيدة التى قدر لى أن أحضر له أمسية! ولم أعرف حتى الآن لماذا تمت هذه الأمسية بهذا الشكل.


توترت علاقتى بالمكتبة فى العام نفسه تماما بعد إنهائها عقد الصديق الكاتب ماهر شريف بشكل تعسفى إثر اعتراضه على إسقاط حقه المعنوى فى كتابة اسمه هو وزميل آخر قاما بإعداد قصة الستارة ليوسف إدريس كعرض مسرحى فى ورشة أشرفت عليها مخرجة سويسرية واكتفى ملصق العرض بذكر أن النص نتاج الورشة.

وسواء كان الصديق ماهر محقا وقتها فى غضبته أم كان مبالغا إلا أننا تضامنا معه وكتبنا بيانا حاولنا بقدراتنا المحدودة وقتها توصيله إلى الصحافة والمنصات الإعلامية، الأمر الذى أثار غضب مسؤولى مركز الفنون ودفعهم إلى إنهاء عقود عدد من أصدقاء ماهر بالتبعية!

قاطعنا أنشطة المكتبة لسنوات، ربما حتى قامت الثورة وظننا أن التغيير سيطالها، وبالفعل تغيرت الإدارة القديمة وعدت لحضور الفاعليات والأنشطة من وقت لآخر، وحضور معرض الكتاب وإدارة بعض اللقاءات فيه أو المشاركة فيها، وتعاونت فى تنظيم فاعلية أو اثنتين ومراجعة ترجمة كتاب وترجمة آخر. فتر غضبى وقلقى تجاه المكان.

وفى الوقت نفسه لم تعد لدى آمال عظام حوله. صارت مكتبة الإسكندرية مَعلما لطيفا للمدينة ومكانا يقدم أنشطة ثقافية تتفاوت فى القيمة والأهمية أحضر منها ما يهمنى وأتابع كر الأيام والإدارات عليها دون كبير أمل ولا عظيم يأس.

اقرأ ايضا | مؤتمر الهيروغليفية في القرن 21 بمكتبة الإسكندرية.. الاثنين المقبل