خبير آثار يرصد لحظات التجلى الأعظم ودك الجبل ونزول التوراة

ودك الجبل ونزول التوراة
ودك الجبل ونزول التوراة

في إطار استكمال حلقات "التجليات الربانية بالوادى المقدس طوى" منذ دخول يوسف الصديق وأهله آمنين إلى مصر ومسار نبى الله موسى بسيناء حتى الوصول إلى أعتاب المدينة المقدسة والذى يستعرضها خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار يكشف فى الحلقة 23 يرصد لحظات التجلى ودك الجبل وماذا حدث لنبى الله موسى وكيف استقبل الحدث العظيم.

"وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ" الأعراف 143.

ويوضح الدكتور ريحان أن نبى الله موسى لم يقل للمولى عز وجل: أرنى ذاتك. بل قال: "أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ" كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله، لكن إن أراه الله، فهذا أمر بمشيئة الحق وقدّم نبى الله موسى الطلب معلقًا بمشيئة الله وإرادته لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله.

 

"قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ" هنا يعلل سبحانه وتعالى لموسى بعملية واقعية حيث أوضح: لن ترانى ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكّنك من رؤيتى أنظر إلى الجبل، والجبل مفروض فيه الصلابة والقوة والثبات والتماسك فإن استقر مكانه، يمكنك أن ترانى، إن الجبل بحكم الواقع وبحكم العقل وبحكم المنطق أقوى من الإِنسان وأصلب منه وأشد، ولما تجلّى ربه للجبل "جَعَلَهُ دَكًّا" والدكُّ هو الضغط على شئ من أعلى ليسوَّى بشئ أسفل منه، والحق هو القائل: "كَلّا إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً" الفجر 21.

 

وبعد ذلك أراد الله أن يلفتنا لفتة تصاعدية ويبين لنا أن نبى الله موسى قد صعق لرؤية المتجلَّى عليه فكيف لو رأى المتجلِّى؟!! "فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً" وصعقه تُطلق ويراد بها الوفاة، ولكن هنا صعقة أخرى تعبر عن الإِغماءة الطويلة.

 

"فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ" وتوبة نبى الله موسى هنا من أنه سأل الله ما ليس له به علم وأنَّ الله قد أعطاه بدون أن يسأل، لقد كلمه الله، فلماذا يُصّعد المسألة ويطلب الرؤية؟ ولماذا لم يترك الأمور للفيوضات التى يعطيها الله له ويتنعم بفيض جود لا ببذل مجهود؟ ويقرر نبى الله موسى ويقول "وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين"، أى بأنّ ذاتك- سبحانك- لا يقدر مخلوق أن يراها ويدركها، لقد شعر نبى الله موسى ببعض من انكسار الخاطر لأنه طمح إلى ما يفوق استطاعته وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له: لا تلتفت إلى ما منعتك ولكن انظر إلى ما أعطيتك.

 

ويشير الدكتور ريحان إلى نزول التوراة بعد التجلى الأعظم فى قوله تعالى "قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ" الأعراف 144، ورسالاتى هنا هى فى مجموعها رسالة واحدة فكل باب من أبواب الخير رسالة.

 

"وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" الأعراف 145، والكتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شئ، وعندما يقول ربنا: "وَكَتَبْنَا" فالله لم يزاول الكتابة بنفسه، ولكن أرسله من الملائكة يكتبون بأمر من الحق، والألواح حيث كانوا قديمًا يكتبون على أى شئ مبسوط، وتبين لنا الآثار أن هناك كتبًا مكتوبة على جلود الحيوانات وعلى  الأحجار، وكان العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل، وكذلك كتبوا على عظام الذبائح وصار كل مكتوب يسمونه لوحًا،  "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" تتطلبه خلافة الإِنسان في الأرض فى الوقت المناسب له، وأوضح سبحانه أنه كتب فى الألواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة.

 

ويتابع الدكتور ريحان بأنه بعد تلقى نبى الله موسى التوراة وحيدًا عاد إلى قومه فوجدهم قد عبدوا العجل ولامهم على ذلك ونفّذ أمر الله فيهم بقتل أنفسهم ومات منهم عددًا كبيرًا ثم أخذ سبعين رجلًا للاعتذار للمولى عز وجل وبعد واقعة الاعتذار وما حدث بها عرض عليهم التوراة والتى وجدوا فى تعاليمها مشقة عليهم وقالوا نحن لا نطيق هذا التكليف وفكروا ألّا يلتزموا به و ألّا يقبلوه. "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة 63، وهم يقولون إن الله كلفهم ما لا يطيقون، مع أن الله جل جلاله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، هذا هو المبدأ الإيمانى الذى وضعه الحق جل جلاله.

 

لذلك عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصيب بفضله ورحمته بني إسرائيل رغم أنوفهم رفع فوقهم جبل الطور الموجود في سيناء وقال لهم تقبلوا التكليف أو أطبق عليكم الجبل تمامًا كما أهلك الله تبارك وتعالى الذين كفروا ورفضوا الإيمان وقاوموا الرسل الذين من قبلهم وإن الله جل جلاله لم يرغم أحدًا على التكليف ولكنه رحمة منه خيّرهم بين التكليف وبين عذاب يصيبهم فيهلكهم، وهذا العذاب هو أن يُطْبقَ عليهم جبل الطور، إذا المسألة ليس فيها إجبار ولكن فيها تخيير، وقد خُيِّرَ الذين من قبلهم بين الإيمان والهلاك فلن يصدقوا حتى أصابهم الهلاك، ولكن حينما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم خشعوا ساجدين على الأرض، وسجودهم دليل على أنهم قبلوا المنهج، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل فوقهم خشية أن يطبق عليهم.

 

"وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف 171، (نتقنا) كأن الجبل وتد فى الأرض ونريد أن نخلعه فنحركه يمينًا ويسارًا حتى يمكن أن يخرج من الأرض، وهذه الحركة والزحزحة والجذب هى النتق والجبل كالوتد تماما يحتاج إلى هز وزعزعة وجذب حتى يخرج من مكانه، وهذه الصورة عندما حدثت خشعوا وسجدوا وتقبلوا المنهج.

 

وينوه الدكتور ريحان إلى بنود الميثاق وهى عبادة الله جل وعلا وحده، والاحسان للوالدين ولذى القربى واليتامى والمساكين وقول الحسن للناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ  ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" البقرة 83 "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ" البقرة 84 وهى نفس التشريعات القرآنية.

 

ويواجه جبل موسى حاليًا جبل التجلى حيث وقف نبى الله موسى على الجبل وأمامه جبل التجلى وهو الجبل الذى تجلى له سبحانه وتعالى فدكه، ويقع جبل التجلى إلى الشمال الشرقى من جبل موسى.