السقوط والسلم المعدنى

 شيماء ياسر
شيماء ياسر

بقلم: شيماء ياسر

منذ وجَّه الكاتب الصحفى الكبير خالد ميرى، رئيس التحرير، بنشر إبداعات المتميزين ونصوص الشباب الناضجة من قصة وشعر، تنهمر على بريدنا سواء التقليدى أو الإلكترونى، ونحن نُرحِّب بها جميعًا ونعد بنشر المتميز منها فى أقرب فرصة، وهذا الأسبوع ننشر قصة للأديبة شيماء ياسر.


طلبوا منا حمل السلم المعدنى كى يصعد عليه عامل الكهرباء فى المبنى المجاور. حملته من البداية وحمله هو من النهاية، وسرنا. الدرجات بيننا معكوسة، كأوتار آلة الهارب، لكنها قصيرة لا تكفى لكل النغمات.


كنت صغيرا يتكرر فى منامى حلم وحيد، أنى أصعد سلما عاليا لا ينتهي، وكلما اتجهت إلى أعلى حيث ما لا أعلمه، تضيق الدرجات بما لا يكفى قدمى الواحدة إلا بالكاد. إين أضع الأخرى، لا أعلم. يضيق تنفسى للحد الذى أكاد ألفظ فيه روحي، وأبدأ فى الهلع. لا أرى سلما للهبوط ولا يمكننى الهبوط.


اختار أن أسقط من ارتفاع لا يمكن عدّه، وأصحو أما على أرض حلمى الكابوسى أو ما تعلمته مع الوقت أن اختار الصحو وأنا لازلت فى الهواء، اثناء السقوط.


شمس يوليو حارقة، تزداد معها سخونة المعدن فى يدي. يزداد ثقل السلم فى بدايته التى أحملها. أرى زميلى فى نهاية السلم تتباطأ خطاه فأبطئ خطاى انا الآخر رغما عني. تتعوج خطاه. السلم طويل للحد الذى لا يمكننى أن اسأله ما به.


شمس الخليج أشد حرقة، كما يصف ابنى فى خطاباته. لابد أنه قد ازداد اسمراره وأنه يدفع المزيد حق مسحوق الغسيل لملابسه من عرق النهار ووحدة الليل.


يستند زميلى فى نهاية السلم على سيارة مجاورة فارهة يصعب عدّ اوراق نقدها، فأقف أنا ليلتقط أنفاسه. يكمل هو خطوتين بوهن. يتثاقل المعدن على كتفى الأيمن، ثم يرتطم صوت سقوط نهايته فى أذنى بسقوط زميلي.


الأصفر بهجة الناظرين، يتحول فى عينى لهيبا حارقا بحرارة شمس يوليو. العرج فى قدمى ظاهر للعيان، لكنه لم يمنعنى أن أعدو الشارع للحاق بآخر عربات باعة الاسعاف الهاربة قبل مجئ حملة إشغال الطرق. أنقذ القميص الأصفر من إحدى الشماعات الصدأة لإبني.


أنا الراوى لقصص الأنبياء فى زاوية الفتح الكائنة فى آخر حارتنا. صعودا فى معراج السماء. يأتى المسعفون لحمل زميلي. أضع السلم المعدنى أخيرا بعد أن إسودت يدى وتهاوى كتفى الأيمن، على الأرض التى تطلق حرائقها انتقاما مع شمس يوليو.


يهرول فى اتجاهى صارخا، مدير الوردية، بشكوى عدم وصول السلم المعدنى لعامل الكهرباء فى المبنى المجاور. تتوالى الحشود تخرج هروبا منه بعد تحول برودة أحد مبانى «المول» التجارى الى جحيم.


الغريب أنهم جميعا يرتدون الأصفر، كأنهم رحلة مدرسية كتلك التى كان يخرج فيها ابنى بنفس اللون، ولكن فى حديقة حيوان الجيزة وبرداءة صنع قطعة صفراء على شماعة صدأة.


افتح عينى بالكاد على حرائق الأسفلت وشمس يوليو والوفود الصفراء، اجدنى ممددا على الأرض فى نهاية السلم المعدني، أدرك أخيرا أنى كنت أحمله وحدى فى بدايته ونهايته. سقطت، لكن فاتنى أن أصحو فى الهواء قبل السقوط.


عطور الوفود تزكم أنفى الذى يحاولون إنعاشى من خلاله، رغما عنهم. ستتحول بعد قليل ليمازجها العرق هى الأخرى. تتحول الساحة إلى صفراء من السماء إلى الأرض. أطفو فوقها وأحلّق الى كائنات خضر، بنفس اللون الذى أرتديه كعامل للنظافة.!

 

اقرأ ايضا | كيف نُسلِّح أجيالنا الشابة؟ معرض القاهرة الدولى للكتاب يُجيب