شيماء أحمد غنيم تكتب : الفقاعة

شيماء أحمد غنيم تكتب : الفقاعة
شيماء أحمد غنيم تكتب : الفقاعة

حجارة تملأ المكان وتنساب بين الرمال، ألتمس الدفء بين أحضانها حيث أرقد بذراعين مفتوحتين، أرقد حيث لا صوت ولا صدى حتى تلاطم الأمواج تتسرب داخلى، تتوحد معى، قطرات الندى تداعب بشرتى وفراشة زرقاء تخرج من فستانى الوردى وتقف على جبهتى فى المنتصف، معا نطفو فى هذا المكان الذى لا يرانا فيه أحد.


أنظر حولى فلا أجد سوى تلك الفقاعة المنتفخة تحوى الجميع داخلها إلا أنا، تعبث معى مثلما فعلت من قبل، عندما تركتنى خارجها منذ اليوم الأول الذى أرى فيه بحر من الأزرق يعلو من فوقى، والفراشات تسبح داخله، وأنا هنا، أتنفس الهواء ببطء.

وأتركه يتخلل ويلتصق بكل ذرات جسدى ثم أطفو معهم، أنظر من الأعلى فأرانى راقدة مغمضة العينين، أسيرة الرمال التى تحاوطنى وخصلات شعرى البنى يلتصق بعضها بالأرض والبعض يتناثر مع الهواء، الشمس لم تعد تحرقنى، ومع هذا أنقبض من لسعاتها فى زحام الوجوه.


فى بعض الأحيان أمشى على الشاطئ وأترك المياه تداعب ساقىَّ، أتخيلنى معهم بالداخل، هل كان ليمسك بمعصمى أحد ويشدنى إليه؟، أتساءل كثيرا ما الذى حدث لأخرج من فقاعتهم، هل كان الزحام شديداً فلم يكن لى مكان، قالوا لى إنها تركتنى وذهبت، فقط أنا وفستانى الوردى، تركتنى ولم تعد للداخل، ولم أعثر عليها فى الخارج، فأين هى؟ وأين أنا؟ ومن نكون نحن الاثنتين؟


تقول أمى إنه علىَّ المحاولة، فأبتسم، ولكن لا أشعر، لا أرانى معهم، هل لأنها ليست أمى وهم ليسوا من حولى حقيقة، عندما أسير بين تلك الأبنية الشاهقة أختنق وتطبق على أنفاسى، أتوه فى زحامهم، بين الأروقة والزوايا الواسعة، أبحث فى كل الوجوه ولا أجدها، هل يرانى من حولى أم أننى خفية عنهم لذا لا أشعر معهم بشىء، حتى روائحهم تختلط ببعضها فلا أستطيع تمييزها، فقط رائحة البحر هى من تأسرنى، تنادى علىَّ، صدفاته تطقطق فى أذنى، الهواء يلفحنى، أنفاسى تتلاحق، عيناى تجحظان، الكل هنا إلا أنا. 

 

أمى، المرأة التى جاءت بى إلى الدنيا، هى التى لم ألقها يوما وهى التى أتوق لرؤياها، أتخيلها أحيانا، عينان تائهتان تنظران بألم ثم تطرفان إلى البعيد، وفستان وردى وفراشات زرقاء تبتعد ويبتلعها دخان أبيض كثيف وهى تفتح ذراعيها للقياه.

وهى من أفلتت معصمى وذهبت بعيدا، تركتنى داخل تلك السلة الخشبية، رائحتها ما زالت تؤلم صدرى، أتذكرها دائما كلما صعدت أو هبطت على الدرج الخشبى فى منزلنا، نفس الرائحة، وكأن دهانه حديث لا ينضب أبدا، فى ذلك اليوم الذى لا أتذكره تهجم على مخيلتى عشرات المشاهد، كيف نظرت؟ وكيف تركت؟ وأين ذهبت؟
أحاول مثلما تقول أمى، اجلس، ابتسم، أتحدث، أتعرف على الأصدقاء، هادئة فى بعض الأحيان، صاخبة فى البعض الآخر، تمرر أمى أصابعها بين شعرى، تقص على الحكايا فى الليل، وعيناى فى البعيد مع تلك الأسماك اللامعة مثل اللألئ تجرى وتسبح فى بحر الأزرق، لا تقع ولا يترك إحداها الآخر، هم معا دائما، وتتحدث أمى ويقبلنى أبى، وأنا لست هنا!


الأجساد متشابهة والكل يسير فى نمط متكرر، هذا يشبه هذا، وهذه نسخة من تلك، ومن أشبه أنا؟ فى هذا البحر الواسع الذى لا يرانى فيه أحد.


ولم يكن هذا بالشىء الجديد، طوال الوقت شعرت أننى لست هنا، رغم أننى لم أكن أعرف، وعندما عرفت لم أندهش، جلست بهدوء وابتسمت وانزويت فى ركنى على الكرسى الخشبى بجانب النافذة والمصباح رفيقى، حاولت، كثيرا ما حاولت، أن أطرق باب الفقاعة وأقتحمها، أدخل عنوة، أقف فى منتصف زحامهم وأصرخ بأننى هنا، ولكن صوتى يخوننى، يرفض الخروج، يذكرنى دائما بالسلة الخشبية، هدير البحر..طقطقة الصدف..الرمال والأحجار..الفستان الوردى والفراشات الزرقاء..أصابعها وهى تغادرنى، هل كان عليها الرحيل حقاً؟


لم تكن الأصوات فقط هى من تذكرنى، نظرات الرائحين والغادين أيضاً لا تتركنى، وكأن لهم ثأراً معى وكل ذنبى أننى لم أستطع دخول الفقاعة.


قالت لى زميلتى فى المدرسة إننى عبء لابد من إزالته، أنا خارج الفقاعة، لو لم أكن كذلك، لن أضطر للمحاولة بكل هذا الجهد، الأعباء الزائدة لا تختلط، لا تتحدث، أمى تقول عكس ذلك، تفرك يدىَّ بأصابعها وتدفئها، صوت زميلتى فى أذنى تضحك: «انت عبء زائد».


أمى تنادى: ابنتى! أبى يحتضننى، أصوات البحر والأمطار تهشم زجاج النافذة، حفيف الأشجار، وصوت زميلتى: انت لست هنا.


أنا أعرف أننى لست هنا، ولم أكن يوماً، أبحث فى كل الوجوه علنى أجدها يوماً.

اليوم أراها، أقف بجوارها وضفائر شعرها البنى تتطاير، تبتسم، تختفى ثم تظهر، تفتح ذراعيها، تشاور إلىَّ بأصابعها لأتقدم ناحيتها خطوة وراء خطوة، تبتسم وفستانها يبتل حتى المنتصف، تنفرج أساريرها أكثر كلما اقتربت، وأشعر بالحياة أكثر كلها تقدمت أصابعى تلمس يدها المليئة بالندوب، أنظر إليها بعيون دامعة فتبتسم حتى تضيق عيناها وتتسلل منها قطرات الندى، تأخذنى، تتشابك أيدينا ونمشى حتى يبتلعنا الدخان الأبيض ثم نطفو فى الهواء والفراشات معنا وأنا، أنا معها داخل الفقاعة، وحدنا داخلها والأزرق يحاوطنا، أنا هنا، لأول مرة، أنا هنا.

اقرأ ايضا | ابتكار فقاعات الفضاء لمكافحة تغير المناخ