بين الاقتباس والسرقة.. الفلكلور الغنائى .. مولد وصاحبه غايب

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب: ريزان العرباوي

“لابد من يوم معلوم تترد فيه المظالم, يا صلاة الزين, السيرة الهلالية, أهازيج ابن عروس” وغيرها من الأغنيات الشعبية الفلكلورية التي تشكل ضلعا أساسيا في تعزيز الهوية المصرية, خاصة في ظل حالة التغريب التي تلعب دورا ناشطا في طمس الهوية، ومع الدعوات لإبتكار قوالب موسيقية غنائية جديدة مختلفة, موسيقى أقرب إلى هجين غير معروف لا يحافظ على قواعد تركيب النغمات العربية الشرقية, كان هناك محاولات بين الحين والآخر لإعادة إحياء هذا التراث, لكن بعض هذه المحاولات لم تخلو من العبث بالألحان واستباحة السطو على الموروث الغنائي من الفلكلور الشعبي دون الإشارة إليه صراحة, وفي ظل التعديات الواضحة الصريحة, ماهي الوسيلة للخروج من هذا النفق المظلم لحفظ الفلكلور من الضياع وتخطى الرغبات المؤجلة في رحلة المحاولات البائسة لحفظ التراث؟، وإلى أي مدى يمكن الاقتباس منه, وهل هو مشاع أم له ضوابط معينة؟.. الإجابة خلال السطور التالية.

 

يعتبر سيد درويش من أبرز من قدم أغنيات مبنية على الفلكلور المصري في عدد من الأعمال، مثل “سالمة يا سلامة” و”يا عزيز عيني”، وهي كلمات فلكلورية الأصل, قدمها درويش من أجل تغيير بعض الأنماط الموسيقية السائدة في ذلك العصر، والإقتراب من الشارع.

بعد “حادثة دنشواي” اغتال الطالب إبراهيم نصيف الورداني, بطرس غالي رئيس وزراء مصر آنذاك, وفي ليلة إعدام الورداني خرج الناس يغنون “قولو لعين الشمس ما تحماشي”، التي غناها لاحقا محمد حمام بعدما كتب مجدي نجيب كلماتها على المذهب الفلكلوري, وكتب أيضا نفس الأغنية لشادية, لكن مع التعديل, كما غنت شادية “يا بهية وخبريني” من الفلكلور، عن قصة “ياسين وبهية”، وغناها آخرون مثل محمد طه.

جاء الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من صعيد مصر حاملا فلكلورا بنكهة جنوبية صعيدية, وهو ما أقر به في كثير من كتبه وحواراته, فقدم أغنيات كثيرة قائمة على الفلكلور، منها “مال عليا مال” لفايزة أحمد وغيرها.

ومن أبرز المطربين الذين يقبلون علي هذا اللون, محمد منير، الذي إعتاد تقديم أغنية فولكلورية أو أكثر في كل ألبوم, على سبيل المثال أغنية “تحت الياسمينة”، وهي من الفلكلور التونسي للمطرب التونسي الهادي الجويني, وأغنية “أبو طاقية” التي تنتمي للفلكلور النوبي.

“جريمة فنية”
أكد د. محمد شبانة, أستاذ الموسيقى الشعبية بأكاديمية الفنون, على أن الاقتباس من الفلكلور الشعبي دون الإشارة إليه صراحة يمثل جريمة فنية في حد ذاتها، وغير مشروع بأي شكل من الأشكال, ويقول: “لابد من التحلي بالأخلاق الفنية المهنية التي تستوجب حفظ الحقوق الأدبية، وأن يعطي لكل ذي حق حقه, صحيح أن الفلكلور المصري الموسيقي ملكا للشعب، لكن عند استخدامه أو استلهامه لابد من الإشارة إليه، وهناك مستويات من الإستلهام, فإما أن يتم توظيفه بشكل فج، أو بشكل يحمل نوعا من التأثير, والملحن من الممكن أن يقتبس تيمة معينة، لكن يصعب تحديد مصدرها الأصلي، إلا أنها تحمل روح الفلكلور, وهو نوع من الإستلهام نتيجة لهضم المفردات الشعبية سواء في الكلمات أو اللحن، ومع ذلك يتوجب عليه الإشارة إلى أنه مستوحى من الفلكلور الذي أبدعته قارحة الشعب المصري في تنوعه الثقافي، حتى وإن كان غير معروف مؤلفه وملحنه, فمن باب إحترام هذه الثقافة والإنتماء لها يتعين أن ينسب العمل للأصل, إذا أنا هنا احترمت تلك الجماعات الشعبية, وعلى سبيل المثال عندما استعان الأخوان الرحباني بغنوة لسيد درويش، هنا العمل معروف أنه مقتبس من ألحان درويش برؤية إبداعية للأخوان الرحباني”.

إقرأ أيضًا

حمادة هلال يُحيي ذكرى وفاة والدته

ويتابع شبانة قائلا: “ليس كونه موروثا أن يكون مشاعا لأصحاب الضمائر الغائبة، وأن ينهل منه دون ضوابط معينة, لكن بكل صراحة هناك حالة من التربح والاستيلاء على التراث الشعبي بشكل واضح، حتى وإن تم الإنكار, فالجدل الذي يثار بين الحين والآخر فتح جرحا غائرا في جسد صناعة الأغنية المصرية، وضياع حقوق الملكية الفكرية تحت مسمى موروثات وتجاهل المؤسسات المعنية بتوثيق هذا التراث الشعبي والمنوط بها الحفاظ عليه وإثبات حقه من لجنة تسمى (لجنة التراث الثقافي) بالمجلس الأعلى للثقافة، ولجنة أخرى تسمى (لجنة حقوق الملكية الفكرية), هذه اللجان يجب أن يكون لها دور ملموس في الحفاظ على التراث وإدارته, فمن الممكن أن يشكل موردا ماليا إذا تم انشاء صندوق للحفاظ على التراث الشعبي تابعا للمجلس الأعلى للثقافة يستخدم إيراده لصالح الصناعة وتطويرها”.

ويضيف شبانة: “حسما لأي جدل, هي قاعدة لابد من الأخذ بها، أن الأعمال الفنية التي يعرف مؤلفها وملحنها وسنة إنتاجها ومر عليها أكثر من 50 عاما وجب أن يعطى الحق الأدبي للمؤلف والملحن الأصلي, أما إذا كانت تيمة أو جملة لحنية من الفلكلور وليس معروف مؤلفها مثل (آه يالاللي) لمحمد منير, هنا تنسب للفلكلور, وإن أخذه وطوره يكتب لحن فلكلورى ورؤية فلان.. القضية بسيطة، هي فقط بحاجة إلى أخلاقيات, فهي قضايا معروفة، لكن أحيانا البعض يتجاهلها فتحدث سرقات تحت مسميات مختلفة كرؤية إبداعية جديدة أو توارد أفكار أو خواطر مسميات مرفوضه, فمن يأخذ من التراث يتوجب عليه الإعلان صراحة أنه من التراث”.

“ملكا للشعب”
اختلف الموسيقار هاني مهنا معه في الرأي, حيث يرى أن الفلكلور ملكا للشعب، ومن حق أي مبدع أن ينهل منه ويعيد تقديمه بتوزيع ورؤية جديدة متطورة, ويضيف: “الأغنية الشعبية هي تلك النابعة من الشعب تصور حياته ويتفاعل معها بصورة عفوية, لذلك لا أعتبر الاقتباس من الفلكلور سرقة أو تعدي على الحقوق الأدبية, فهو غير محمي بقانون حماية الملكية الفكرية, وكونه تراثا شعبيا فهو من حق الشعب متاح استخدامه لأي شخص, لأنه تراث انتقل من شخص لآخر إما عن طريق الحفظ أو بالممارسة، وليس له مؤلف معروف ينسب له, ومن حق الملحن أن ينسب العمل لنفسه طالما أنه أضاف إليه من إبداعاته وطور التيمة المقتبسة, دون الحاجة للإشارة إلى الفلكلور صراحة, فتيماته معروفة ومحفوظة، وهو قادرا على أن يثبت نفسه بنفسه دون اللجوء للقانون, فليس هناك ضوابط معينة للاقتباس, ولا ضرر منه بالعكس أرى أنه يحدث حراكا فنيا من شأنه إعادة الروح للفلكلور ليظل حاضرا يتحرك في كواليس صناعة الأغنية”.

ومن جانبه أكد الشاعر بخيت بيومي على أن الاقتباس من الفلكلور لا يعتبر سرقة فنية بشرط تطوير التيمة اللحنية المقتبسة, ويقول: “الفلكلور مخلوق من البيئة، لذلك الاقتباس منه مشروع, من يريد يأخذ بطريقته يأخذ المذهب الفلكلوري كلاما ولحنا, لكن الأهم أن يضيف له رؤية جديدة ودون أن ينسبه لنفسه لأنه ملكا للبيئة, وإن تم العكس يعتبر سطو على التراث مثلا أغنية (عطشان يا صابايا) اتكتبت أغنية وإستعراض وقدمت من خلال قوالب مختلفة، لكنها ظلت تحت توقيع الفلكلور”.

ويتابع: “هذه القضية تزداد تعقيدا لعدم وجود جهة معينة يتوجب عليها الحفاظ على الموروث من الفلكلور الشعبي, فهناك حاجة ملحة لتوثيق التراث للحفاظ على الهوية في ظل المتغيرات والتعديات الواضحة, ولابد من تحرك المؤسسات المعنية والسعي نحو توثيقه دوليا من خلال منظمة (اليونيسكو) لحمايته من السرقات، وأقول سرقة عندما يتم الاقتباس منه دون الإشارة إليه, فالتوثيق مهم حتى لا يكون مشاعا لكل من (هب ودب) ووضع ضوابط لتحجيم المسألة, لكن للآسف لا يوجد توثيق إلى الآن، والمسئولين في غيبوبة يشاركون بعمليات السطو بالصمت، والوقوف مكتوفين الأيدي أمام هذه المهزلة, وما تم من جهود سابقة لتوثيق التراث لم يمضي وفقا لدراسة واضحة أو استراتيجية محددة”.

“لا قيد ولا شرط”
ولحسم الجدل من الشق القانوني يقول الدكتور حسام لطفي, أستاذ القانون بكلية الحقوق وأستاذ كرسي “اليونسكو” لحق المؤلف: “لا قيد ولا شرط على إستخدام الفلكلور داخل مصر أو خارجها، ويظل مصدرا للنقل منه مع وجوب إحترام المسموح بالنقل الحرفي له في مصنف جديد دون ترخيص من المؤلف، وإن كان مصنفا محميا أو من وزارة الثقافة، وإن كان النقل من الفلكلور الشعبي, وما ورد في القانون بشأن دور وزارة الثقافة مقصود به حماية الفلكلور من خطر التشويه والمسخ ومقصود به إلزام الوزارة بالجمع والرصد والتوثيق ومقاضاة من يمس به, وتخاطب وزارة الثقافة بحقوق أدبية ومالية من خلال نص قانوني الغرض منه ليس منع استغلال الفلكلور، لكن تمكين الوزارة من مراقبة احترامه، وهو حق أدبي, وتكافأ على ذلك بمقابل مالي، وهو (حق مالي)”.

ويضيف: “الفلكلور ملك للشعب، وتتدخل وزارة الثقافة في حالة التجاوزات، حتى لا تذوب الهوية, فإن كان النقل فيما جاوز ذلك، يحق لوزارة الثقافة التدخل بصفتها الحارس على الفلكلور بمنع التعدي, وليس لمن نقل من الفلكلور أن يمنع غيره من النقل, فالفلكلور نهر جار يغترف منه الجميع، ومرجعنا عند التجاوز هو خبراء الفلكلور، ومازلت أدعو إلى بذل الجهد في جمع وتوثيق الفلكلور في شتى المجالات لتكن المرجعية لنسخة أصلية نرجع إليها لنعرف حدود النقل، ولا يكون الإلتزام بها عند النقل سببا في حرمان الغير من توظيفها من جديد في مصنف جديد, فمن يسعى ممن سبق إلى استخدامها في أغنية إلى إقصاء من لحقه في توظيفها بمصنف آخر, يعتبر مسلك غير قانوني، وهناك لجان حصر ورصد وتوثق وتحقيق للتراث غير المادي ليكون لدينا قاعدة بيانات وطنية”.