«سلماوى» يكتب فى ذكرى «الحكيم»:فصلونى بسبب بيان «توفيق بك»!

صورة نادرة تجمع بين رائد المسرح ومحمد سلماوى
صورة نادرة تجمع بين رائد المسرح ومحمد سلماوى

اقترب كثيرا من مبدعنا الفذ توفيق الحكيم الذى تحل ذكرى وفاته بعد أيام قليلة، وقد اصطفاه أبو المسرح العربى وخصه بكثير من خفايا تجربته، وأودع لديه بعض أوراقه المهمة، ومسودات أعماله الرائعة، لكن أديبنا الكبير الكاتب المسرحى القدير «محمد سلماوى» لم يسرف فى إذاعة هذه الخفايا والأسرار احتراما لذكرى أستاذه ووفاءا لثقته فيه، وكذلك فعل مع أديبنا العالمى «نجيب محفوظ» الذى اقترب منه كثيرا، لكنه آثر ألا يستغل هذه الصلة الوثيقة فى التربح من «محفوظ»، فقط يذكرنا «سلماوي» بين الحين والآخر ببعض مواقفه مع الأفذاذ، كما خصنا بهذا المقال الذى أهداه إلى جريدة «الأخبار» عن أحد مواقفه المؤثرة مع أستاذه رائد المسرح العربى بمناسبة ذكرى وفاته التى تحل بعد أيام.

كلما حلت ذكرى رحيل المفكر والأديب الكبير توفيق الحكيم الذى غادرنا فى مثل هذه الأيام عام ١٩٨٧، تذكرت إنجازاته الأدبية والفكرية الهائلة والتى لم يطاولها أحد حتى الآن، خاصة فى مجال المسرح، وتذكرت أيضا مآثره وأقواله ومقالبه التى لم يكن يقصدها، والتى قلب أحدها حياتى رأسا على عقب.
كان ذلك فى عام ١٩٧٣، ذلك العام الذى بدأ فى مصر وسط إضطرابات سياسية عمت البلاد، حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات قد تولى الحكم قبل أكثر من سنتين دون أن يكون قد حدث أى تطور بالنسبة للقضية الوطنية، إن سلما أو حربا. وكان السادات قد أعلن إزاء حالة الجمود السياسى التى سادت، أن عام ١٩٧٢ سيكون عام الحسم، لكن العام مضى بهدوء حتى نهايته دون أن يتم حسم شيء، فارتفعت أصوات المعارضة السياسية، واندلعت المظاهرات فى الجامعات، وتم القبض على عدد كبير من الطلبة.
كنت قد تركت عملى كمعيد بكلية الآداب وإنضممت عام ١٩٧٠ إلى جريدة الأهرام بدعوة من الأستاذ هيكل، لكنى ظللت أقوم بالتدريس بالجامعة منتدبا من الأهرام. وداخل مبنى الأهرام توطدت علاقتى بالأديب الكبير توفيق الحكيم، ونشأت بيننا صداقة أبوية مما يمكن أن ينشأ بين مشروع كاتب مسرحى شاب وأبو المسرح العربى.
وفى أحد الأيام اتصل بى، وأنا فى صالة التحرير توفيق (بك) كما كان يلقب وقال: «إذا كنت فاضى إطلع لى شوية»، وعلى الفور إستأذنت من رئيس القسم الخارجى الذى كنت أعمل به، وصعدت إلى الدور السادس قاصدا مكتب توفيق الحكيم، لكنى ما أن دخلت المكتب حتى فوجئت بجمع غفير كأنه أحد أوتوبيسات هيئة النقل العام فى ذلك الوقت. رأيت أمامى أكبر الأسماء فى الحياة الثقافية والصحفية فى مصر. بعضهم كان جالسا، والبعض الآخر واقفا لايجد مكانا للجلوس. كان من بينهم: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة وأحمد بهاء الدين وصلاح طاهر وأحمد حمروش وآخرين، ولم أفهم لماذا طلبنى الحكيم وسط هذا الحشد المهيب، إلى أن دفع إلىً ببضع ورقات قائلا: «إنت مش كنت مش عاجبك حال البلد وتقعد تشتكيلى إنهم قبضوا على الطلبة؟ خد بقى إقرأ الورقة دى ولو عجبتك وقع عليها!». أخذت منه الأوراق وبدأت أقرأها فإذا هى بيان سياسى مكتوب بخط الحكيم نفسه والذى كنت أعرفه جيدا. كان البيان يتضمن عدة مطالب: الإفراج عن طلبة الجامعة المعتقلين، وفتح أبواب حرية التعبير، وإتاحة المجال للرأى الآخر، أما الطلب الأكبر فكان إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب التى طالت بأكثر مما ينبغى فأحدثت قدرا من التمزق بين الناس وعدم الاستقرار . كان نص البيان مكتوبا فى صفحة واحدة فى أسفلها توقيع توفيق الحكيم، وتبعتها ثلاثة صفحات تحمل توقيعات الحضور. وجدت البيان معبرا بالفعل عن رأيى الذى لا يختلف عن الرأى العام السائد وقتها، فوقعته بلا تردد وأنا أشعر بالفخر لمجاورة تلك التوقيعات المرموقة، ونظرا لأننى كنت قد استأذنت من عملى لدقائق فقط، ونظرا للزحام الشديد داخل المكتب، أعطيت الورق لتوفيق (بك) بعد أن وقعته، واستأذنت فى الإنصراف.
حين وصلت إلى صالة التحرير كنت منتفخا كالطاووس.. كنت مزهوا بنفسى أقول بمناسبة وبدون مناسبة لكل من أقابله أننى عائد لتوى من مكتب توفيق (بك) حيث وقعت بيان سياسى كتبه بنفسه ووقع عليه كبار الكتاب والمثقفين.
ولم يمض وقت طويل حتى ذاع خبر البيان رغم أنه منع من النشر، لكنى كنت متذكرا مضمونه جيدا أرويه لكل الناس. وما أن وصل البيان إلى الرئيس الراحل السادات حتى اتخذ قرارا بمعاقبة جميع «الأفندية» على حد قوله، الذين وقعوه.. جميعهم ماعدا توفيق (بك) الذى لم يكن «أفنديا»، ( وقد كان السادات على قناعة بأن الأستاذ هيكل هو الذى أوعز إلى الحكيم بكتابة البيان، لكن الحقيقة أن كل هذا حدث أثناء غياب هيكل، فقد كان فى رحلة طويلة مع بعثة من الأهرام فى جنوب شرق آسيا.
وهكذا تسببت تلك المبادرة الوطنية لتوفيق الحكيم فى مقلب لنا جميعا لم يكن يقصده وكان الوحيد الذى نجا منه، فقد أصدر الرئيس السادات فى مارس عام ١٩٧٣ قرارا بفصل ١٠٤ كاتب وصحفى من أكبر الأسماء فى عالم الثقافة والصحافة، وتم إلحاقهم بوظائف مكتبية بوزارة الشئون الإجتماعية ووزارة التموين والهيئة العامة للإستعلامات وغيرها من الجهات الحكومية، وسرعان ما إنقلب شعورى بالفخر والاعتزاز إلى شعور بالإحباط بعد أن تركت عملى بالجامعة لأنضم إلى جريدة الاهرام الغراء فإذا بى فجأة أجد نفسى موظفا حكوميا بهيئة الإستعلامات. وقد جلسنا جميعا فى بيوتنا بعد أن أخبرتنا الهيئات التى نقلنا إليها أنها ليست بحاجة لخدماتنا. وفى ٢٨ سبتمبر من نفس العام وقبل دخوله حرب أكتوبر بأسبوع واحد أعلن السادات أنه عفى عنا، وأنه بإمكاننا أن نعود مرة أخرى إلى سابق عملنا، فعاد إلىً من جديد الشعور بالفخر والاعتزاز بأننى كنت من بين من وقعوا بيان توفيق الحكيم مع أكبر أسماء الثقافة والصحافة فى مصر.