مصر التى فى خاطرى

فلترقد بسلام يا أبى

ايهاب القسطاوى
ايهاب القسطاوى

ايهاب القسطاوى

عقب مطالعتى خبر الكشف عن مقبرة جماعية لجنود مصريين تعود إلى حرب 1967، قد أحرقوا أحياء ثم دفنوا بشكل سرى فى منطقة اللطرون بشمال غربى القدس المحتلة، بما يخالف الاتفاقيات الدولية، تَفَجَّرَت الأحداث المستقرة فى عمق قيعانى السَّحيِقَة، واستيقظت تلك المشاهد البصرية الْمَاضِيَةُ بكامل عنفوانها بعدما نفضت عنها غبار الزمن، وتألقت بزيّ فضفاض من الألم النبيل، تتدافع وتتقاذف أمام عينى مثل أمواج بحرٍ غاضبة، تتلاطم، وتسحب وتجر، لتأتى ما تبقى مِن شتاتِها إلى الشاطئ، وبعينينِ أرهقتهما كثرةُ الدموعِ وطولُ المَسِير الْمُضْنِى، توقفت أمام مشهد قَاتِم، كحائط إسمنتيٍّ يمتد بعرض الأفق البعيد، فغطت بكلِّ كيانِى وبكلّ نبضةٍ من نبضاتِى، حيث تذكرت اللحظات الأخيرة من عمر أبى.
كانَ أبى يرتدى البزّة العسكريّة، مزهوّا بكونه جندياً بالقُوّات المُسَلَّحَة المِصْرِيَّة، إبان حرب الاستنزاف (يوليو 1967 - أغسطس 1970)، تلك الحرب التى سطرت بحروف من نور بطولات خالدة، سوف يتوقف التاريخ العسكرى امامها طويلاً، حتى قادت إلى النصر فى معركة استرداد الكرامة، وانضم حينذاك إلى صفوف القوات البحرية الباسلة، حيث أوكلت إليه مهمَّةً مراقبة تحركات سفن العدو فى البحر، وبطبيعة الحال اقتضت المهمة المسندة إليه من قادته، أن يتنكر فى زى صياد، ويستقل قارب صيد صغيرا متخفياً وسط الصيادين، خافيا جهازه اللاسلكى وماكينة تصويره وسط الشباك، حتى وَشَى به إلى الأعداء أحد الخونة، فاقترب منه احد القوارب العسكرية السريعة للعدو، لكنه ابى ان يستولوا على عتاده العسكرى فألقى بالجهاز وماكينة التصوير فى أعماق البحر، واقتادته قوات العدو إلى داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة، رهن الأسر لمدة سبعة أعوامٍ نال خلالها شتى صنوف العذاب والتنكيل، حتى قضى نحبة وهو لم يكمل عامه الخمسين.
واليوم بعد أن توفقت مصر على قيام السلطات الإسرائيلية بفتح تحقيق شفاف حول هذه الواقعة، أستطيع أن أقول: فلترقد بسلام يا أبى، وإن عذابَك لم يذهب هدرا، فبدمائك ودماء رفاقك الزكية انتصرت مصر.